علم المعاني
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: حول ذكر " الرحمن " و " الرحيم " معا قد تقرر فيه: أن من اللطائف الكلامية التوكيد، وهو على أنحاء: فقد يكون بتكرار اللفظ الواحد، وأخرى بتكرار اللفظين المترادفين، وثالثة بالحروف، كقوله تعالى: ﴿كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ﴾ (2)، وفي الدعاء: " حتى لا يستخفي بشئ من الحق مخافة أحد من الخلق " (3). فالرحيم توكيد النعت السابق، وهذا ما يناسبه تعالى فإنه بالرحمة أعرف وأشهر من الغضب وأمثاله، حتى ورد: " قد سبقت رحمته غضبه " (4)، فالتكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل أمر سائغ، وهو واقع في أبلغ الكلام عندما يريد إظهار ذلك القصد منه، وهذا في الجمل التامة أيضا جائز، كما في سورة الرحمن وسورة القمر وسورة المرسلات. ومن العجيب - وإن كان منه ليس بعجيب - أن " المنار " توهم: أنه عند التأمل ليست الآية متكررة، فإن معناها في سورة الرحمن عند ذكر كل نعمة: أفبهذه النعمة تكذبان ؟! وهكذا كل ما جاء في القرآن بهذا النحو (5).
. وأنت خبير: بأن تطبيق المعنى الكلي على المورد خارج عن حدود الاستعمال، وإلا يلزم المجازية، فالآلاء في السورة لم تستعمل إلا في معنى واحد. هذا أولا. وثانيا: جملة ﴿رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ مكررة، ولا يأتي فيه ما تخيله. وثالثا: في سورة القمر قد تكررت آية: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ وآية ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (6)، ولا تتحملان إلا معنى واحدا والعذر عنه أنه لم يكن من أهل العلوم الاعتبارية الصناعية كالأصول. فما ذهب إليه الجلال في تفسيره من التأكيد (7)، وتبعه الصبان وغيره، لا يرد بهذا، وبما في تفسير ابن حيان وغيره من: أن من ذهب إلى أنهما بمعنى واحد وليسا توكيدا، أراد إثبات اختصاص كل واحد منهما بشئ، مثل اختصاص الأول بالرحمة الدنيوية والثاني بالأخروية (8)، ضرورة أن هذا يستلزم المجازية، بل الغلط، فإن ما هو الموضوع له إن كان واحدا واستعمل في غيره، فهو من المجاز والغلط، فإذا استعملا في معناهما فيحصل التأكيد قهرا وطبعا. فبالجملة: إذا التزمنا بأن معنى الرحمن والرحيم واحد، ولا تفاوت بينهما مادة وهيئة، فالاختلاف في الأمور الأخر لا يقتضي الخروج عن التأكيد، بل لو كان الكلمة الثانية أعم من الأولى أو أخص، يقع التأكيد بالنسبة إلى الحدود المشتركة، فلو فرضنا أن الرحيم خاص بالمؤمنين أو بالإنسان، والرحمن عام لجميع مراتب الوجود، حتى نقيضه وهو العدم، يحصل التأكيد في الجملة، فليتأمل. والذي يتوجه عليه: أن وحدة المعنى غير ثابتة، إما لأجل أن الرحمن لقب عبراني، أو هو مشتق من الرحم، أو اعتبر علما واسما بالغلبة. وقد استقرب الاحتمال الثاني والثالث، فيسقط احتمال التأكيد بالمرة. وربما يستظهر: أن الرحمن الرحيم كندمان ونديم لكثرة الاستعمال معا في الكتاب العزيز صارا لفظة واحدة مفيدة لمعنى واحد بكيفية واحدة مع شمول واحد، ومع كل شئ بلا تجاف وبلا قصور (9). وأنت خبير بما فيه، ولا يوجد هذا الاحتمال في كتاب أحد. نعم قال الجوهري: " هما اسمان مشتقان من الرحمة، ونظيرهما ندمان ونديم، وهما بمعنى واحد، ويجوز تكرار الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جاد مجد " (10).
. وهذا هو ما سبق، وقوله: جاد مجد، محذوف عاطفه، ويكون الثاني وصف المنعوت لا النعت، وفي الرحيم - أيضا - كذلك، كما مر، وأما تأييد وحدة المعنى بذلك فهو في محله، ولكنه لا يثبت حسب الصناعة، كما لا يخفى. ومما ذكرناه في السابق من أن " الرحمن " هو عطف بيان للاسم، سواء كان علما أو صفة، يظهر: أن التوكيد غير صحيح هنا، ومن الممكن توهم كون " الرحمن " وصف الاسم، و " الرحيم " وصف الله، فلا يلزم التكرار المستلزم للتأكيد. وحيث اخترنا أن الرحمن هو المستعان به، أو هو بالحمل الشائع يبتدأ به، وعطف تفسيري للاسم، يكون الرحيم وصف الرحمن من غير تأكيد، لكونه نعت النعت، لا نعت المنعوت، وقد تقرر: أن التأكيد متقدم، يكون الثاني نعت المنعوت لا النعت، فلا تخلط.
المسألة الثانية: الصنعة الكلامية في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " بناء على اختلافهما في المفاد، فإن كانا مختلفين في ذلك بحسب المادة، فلا يحتاج التقديم والتأخير إلى اللطيفة الكلامية، لأن كل ذلك يحتاج إلى المرجع، كما هو الظاهر وإن يمكن أن يقال: بأن " الرحمن " من الرحم صفة مشبهة، وهي من اللوازم الذاتية وإن لم تكن عين الذات إلا في جنابه تعالى ولذلك قدم على " الرحيم "، لكونه بمعنى الراحم صفة فعل، أو بمعنى الرقيق، وهو صفة ادعائية لا واقعية، لكونه ملازما لنواقص المادة. وإن كانا مختلفين بحسب الهيئة في المفاد، فإما يكونان صفة مشبهة، أو صيغة مبالغة، أو الأولى صفة مشبهة والثانية صيغة مبالغة، أو الثانية بمعنى الفاعل، فإن كل ذلك صحيح ومساعد للاعتبار، إلا أن يتوهم أن الأولى صيغة مبالغة والثانية صفة الفعل. وحيث عرفت منا: أن " الرحمن " صفة مشبهة واقعية أو ادعائية فلابد من تقدمه على الرحيم الذي هو بمعنى الفاعل محذوف المتعلق، أي: باسم الله الذي هو الرحمن الملازم رحمته لذاته، والرحيم الذي يترشح رحمته إلى غيره، ويكون بالناس وبالمؤمنين رؤوفا رحيما، كما ورد في الكتاب العزيز (11). وقد يتوهم: أن " الرحمن " تدل على أصل الصفة، و " الرحيم " على استمرارها، أو هو على اشتدادها كيفا، و " الرحيم " على تعددها كما. ولكنه فاسد، لأن الهيئة لم توضع إلا للمبالغة - في الكيف كان أو في الكم - أو للصفة المشبهة، وليس هذا التفصيل إلا من باب ضم الذوق التخيلي إلى اللغة والوضع، وهو غير صحيح. أو يتخيل: أن الرحمة الرحمانية ذاتية والرحمة الرحيمية فعلية، فإن ذلك ليس بحسب اللغة والواقع، فإن الرحمة في الكل معنى واحد، وإن كانت صفة الذات فهما من أسماء الذات، وإلا فهما من أسماء الأفعال. نعم يتم ذلك على الوجه الذي مر، وهو الادعاء، فليس هذا وجها آخر للتقديم والتأخير. وهنا وجه آخر سيأتي تفصيله، وإجماله: أن " الرحمن " صفة ذاتية عامة، و " الرحيم " وصف فعلي خاص، فيذكر الخاص بعد العام، كما في قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ (12).
1- النساء ( 4 ) : 79 و 166 ، يونس ( 10 ) : 29 ، الرعد ( 13 ) : 43 ، الإسراء ( 17 ) : 96 ، الفتح ( 48 ) : 28.
2- البقرة ( 2 ) : 102.
3- بحار الأنوار 88 : 6.
4- الكافي 2 : 384 / 20 فيه " سبقت رحمتك غضبك " ، علم اليقين 1 : 57 ، في دعاء الجوشن الكبير : الفقرة 20 " يامن سبقت رحمته غضبه ".
5- تفسير المنار 1 : 47.
6- القمر ( 54 ) : 17.
7- انظر تفسير الجلالين : 2 ، ذيل الفاتحة : 3.
8- البحر المحيط 1 : 17.
9- الجامع لأحكام القرآن 1 : 105 ، البحر المحيط 1 : 16.
10- الصحاح 5 : 1929.
11- البقرة ( 2 ) : 143 ، النحل ( 16 ) : 7 ، الحج ( 22 ) : 65 ، الحديد ( 57 ) : 9.
12- الرحمن ( 55 ) : 68.