اللغة والصرف
الناحية الثانية: حول قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: في عربية " الرحمن " اتفقوا: على أن " الرحيم " من المشتقات، والكلمة عربية. واختلفوا في أن " رحمان " عربي أو عبري، فالمشهور على الأول، ويأتي تفصيله، وقيل: إنها كلمة عبرانية، وأصلها " الرخمان " بالخاء قاله ثعلب والمبرد وأبو إسحاق الزجاج في " معاني القرآن " وأحمد بن يحيى (1). ويظهر عن " تاج العروس " أن الأزهري حكى عن أبي العباس في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال: جمع بينهما لأن الرحمن عبراني والرحيم عربي، وأن ما هو العبراني بالحاء (2). ولكنه مخدوش وغير ثابت، فما هو المعروف عنهم أنه بالخاء عبراني، ثم عرب فصارت بالحاء. وأما شعر جرير: ومسحكم صلبهم رخمان قربانا فهو لا يشهد على هذه المسألة، كما سيظهر وجهه. والذي هو المقطوع به - حسب اللغة والاستعمال - أن هذه الكلمة كانت معهودة في الاستعمالات العربية، وقد حكي عن بعض شعراء السلف وجودها في أشعارهم (3)، وهذا لا ينافي كون " الرخمان " - بالخاء - عبرانيا، فإنه كثيرا ما يتفق اشتراك الملل المختلفة في اللغة الواحدة من غير أخذ واحد منهم عن الآخر، ولسنا منكرين وجود كلمات غير عربية في الكتاب العزيز، كما أنكره جمع، كالشافعي وابن جرير وأبي عبيدة والقاضي أبي بكر وابن فارس، حتى قيل: هو مختار الأكثر (4)، بل ننكر عبرانية كلمة " الرحمن " في البسملة وفي سائر موارد الكتاب. فبالجملة: لا شاهد على تلك المقالة، ولو أقيمت الأدلة على أنها ليست مشتقة - كما هو مختار جمع - فهي لا تستدعي عبرانيتها، لإمكان التفكيك، ولا يظهر من الذين ينكرون اشتقاقها أن يريدوا إثبات عبرانيتها، كما أن الفرار من التكرار لا يورث هذا المختار. فما عن أبي العباس، غير مقبول جدا، ولا أعرفه، فإنه كنية مشتركة بين جماعة كثيرة. ويمكن الاستدلال لعدم معهودية هذه الكلمة في عصر القرآن بين الأعراب في تلك الأمصار بقوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد...﴾ (5). فإن السؤال - وخصوصا بكلمة الموصول لغير ذوي العقول - يشهد على أن المخاطبين في مكة المكرمة كانوا لا يعرفون هذه الكلمة. وأما ما قاله ابن الحصار، وكأنه (رحمه الله) لم يقرأ الآية الأخرى ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ (6)، فهو غريب، لأنه في سورة الرعد، وهي مدنية، ولا منع من اشتهارها بعد الاستعمال في السورة المكية، وقد استعملت ستة عشر مرة في سورة مريم وهي مكية. والذي هو الجواب: أن كلمة " الرحمن " كانت في الجاهلية معهودة بين الشعراء، وقد اشتهر مسيلمة بالرحمن، وكانت تسمي بها، فلا يمكن أن يكون الاستفهام في الآية على معناه الحقيقي، والظاهر أنه في مقام أن الناس في هذا الموقف من الرذالة، فإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، قالوا: وما الرحمن؟وإلا فلا واقعية لهذه القصة، ولا يكون من يسأل عن ذلك بين المشركين أو الكافرين. ومن تلك الأشعار ما حكي عن سلامة بن جندل الطهوري: عجلتم عليه قد عجلنا عليكم * وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق وعن الشنفري: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها * ألا ضرب الرحمن ربي يمينها (7) وقد مضى أن مسيلمة كان يسمى برحمان قبل الإسلام، فإذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما في بعض الأخبار عن طرق العامة - يقرأ جهرا البسملة، يقولون: هو ينادي مسيلمة فأخفت (8). والله العالم. ولو قيل: عبرانيتها لا تنافي هذه الاستدلالات، لأن هذه الكلمة من أصلها عبرانية، وانتقلت إلى العربية قبل الإسلام. قلنا: نعم، إلا أن ثبوت أخذ العرب عنها، يحتاج إلى الدليل، ولا دليل على دخول الكلمات العبرانية في العربية، فتأمل. وللمسألة مقام آخر.
المسألة الثانية: حول أن " الرحمن " من المشتقات بناء على كونها عربية، فهل هي من المشتقات أم من الجوامد؟فالمشهور على الأول، وذهب جمع إلى الثاني (9)، وذلك لوجوه:
الأول: أنه من الأسماء المختصة به سبحانه.
الثاني: أنه لو كان مشتقا فمادته الرحمة، فحينئذ تحتاج إلى المفعول به، فيجوز أن يقال: الله رحمن بعباده وبالمؤمنين، كما يقال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (10).
الثالث: أصل بناء فعلان من الأفعال اللازمة، كعطشان وغضبان وندمان وسكران، وبه صرح ابن حيان (11)، فلو كان " رحمن " مشتقا، يلزم خلاف الأصل. اللهم إلا أن يقال: بأنه مشتق من الرحيم، كما يأتي بيانه، ولكنه مما لا يمكن الالتزام به حسب الصناعات اللغوية.
أقول: يتوجه على الأول بأن " الرحمن " علم لله تعالى ولقب له عز اسمه بالغلبة، كعلمية العلامة لحسن بن يوسف، والمحقق لجعفر بن الحسين، فإن الكلمتين من المشتقات وصارتا علما بالغلبة، فلهما الوضع الآخر المسمى بالوضع التعيني. ولذلك نقول: إن " الرحمن " العلمي غير " الرحمن " الوصفي، وما كان علما يمكن أن يكون مأخوذا عن أصل عبراني، وما هو الوصف عربي أصيل. وعلى الثاني: بأن عدم مأنوسية ذكر المتعلق له لأجل انس الذهن باستعمالاتها العلمية، فإنها في الكتاب تستعمل نوعا في موضع استعمال كلمة " الله "، وقلما يطلق ويراد منه المعنى الوصفي المحتاج إلى المعمول، وإلا فلا منع من أن يقال: هو بالمؤمنين رحمن رحيم حسب الصناعة. والعجب من الآلوسي حيث توهم إضافتها إلى المفعول به في الجملة المعروفة: " رحمان الدنيا والآخرة " (12). اللهم إلا أن يقال: بأن الدنيا والآخرة ليستا ظرف مكان وزمان، بل الدنيا والآخرة كل والأفراد والأشياء من أجزائهما، فحينئذ يصح ما ذكرناه فظرفية الدنيا والآخرة اعتبارية، لا واقعية كظرفية الخارج والذهن في قولنا: زيد في الخارج أو في الذهن، فإن الحقيقة هو أن زيدا خارجي وذهني، ومن مراتب الخارج والذهن.
وعلى الثالث أولا: أن الاستثناء في القواعد الأدبية كثير، فقد تقرر في النحو أن أوزان الصفة المشبهة سبعة أو أحد عشر، وهي الأكثر تداولا، وإلا فربما تبلغ إلى سبعين، وليس فيها وزن الفاعل، ولكن يستثنى منه في الأفعال اللازم كطاهر وظاهر، فإنهما ليسا اسمي فاعل، لأنه من المتعدي، وقد ينعكس ويجئ من المتعدي على وزن فعيل كسفير وغيره. وثانيا: من المحتمل أن يكون " الرحمن " مأخوذا من الرحمة، مدعيا أن الرحمة من الصفات الذاتية الملازمة لعين الذات، ولا تحتاج في هذا اللحاظ إلى المتعلق والطرف، وهو المرحوم، كما تقرر في علم الأسماء أن من الأسماء ما يشترك بين أسماء الذات والصفات والأفعال، وقد مثل ابن العربي تارة بكلمة " رب "، وأخرى بكلمة " صالح " (13)، والتفصيل في مقام آخر. فالرحمن من الرحمة اللازمة ادعاء، ولذلك لا يحتاج إلى المفعول، وبني على فعلان. وبذلك تنحل الشبهتان كما لا يخفى. فالمحصول مما قدمناه للحد: أن " الرحمن " تارة يطلق ويكون علما مسلوبا عنه الوصفية، كقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ﴾ (14)، وأخرى يطلق ويراد منه المعنى الوصفي، كقوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (15)، ولمكان كثرة إطلاقه على الذات حتى صار علما، لها لا يتصل بالمرحوم، ولا يؤنس منه ذلك. وعلى كل تقدير: هو في الأصل من المشتقات حسب ما يتراءى منه بدوا، وإن كانت الشبهة التي ذكرناها - بإضافة سائر ما قيل - قوية جدا، ولأجلها يأتي أن دعوى اشتقاقها من " الرحيم " قريبة جدا. وربما يتأيد ذلك: بأن الرحمة - حسب اللغة والتبادر - معناها الرقة والتعطف واللينة، وهذه المفاهيم بما لها من لوازم المادة والانفعال، لا تناسب ذاته تعالى، والاستعمال المجازي على خلاف الأصل. وما في " القاموس ": الرحمة المغفرة (16)، أو في " الراغب ": أن الرحمة في الحق هو الإحسان المجرد، دون الرقة (17)، فرار عن الإشكال العقلي، وتدخل فيما لا ينبغي أن يتدخل فيه اللغوي، وتفسير بجزء المعنى. ولكنك تعلم: أن هذا البحث يأتي في " رحيم " الذي هو المشتق عن الرحمة بالاتفاق، فلابد من حلها، والبحث عنها يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: في أن مادة " الرحمن " هي الرحمة أو الرحم بناء على القول باشتقاقها، فهل تكون مادتها " الرحمة " كما هو المعروف عنهم، أو مادتها " الرحم "، وهذا مما لا يقول به أحد بحسب اللغة والتبادر، ولكن قد وردت في بعض المآثير ما يؤيد ذلك أو صريح فيه:
1 - " معاني الأخبار " عن الصادق (عليه السلام): " إن رحم الأئمة من آل محمد تتعلق بالعرش يوم القيامة، وتتعلق بها أرحام المؤمنين، تقول: يا رب صل من وصلنا، واقطع من قطعنا، قال: ويقول الله: أنا الرحمن وأنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرحم شجنة من الله عز وجل " (18). قال الجزري: الرحم شجنة من الرحمن، أي قرابة مشبكة كإشباك العروق، شبه بذلك مجازا، وأصل الشجنة - بالضم والكسر - شعبة من غصن من غصون الشجرة (19).
2 - وفي تفسير ينسب إلى الإمام (عليه السلام): " الرحمن مشتق من الرحم رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل مؤمن ومؤمنة من شيعتنا من رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن إعظامهم من إعظام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (20) إلى آخره.
3 - في " تاج العروس " وعلى هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاكرا عن ربه: " أنه لما خلق الرحم، قال: أنا الرحمن وأنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته... " - إلى أن قال -: كما أن لفظ الرحم من الرحمة، فمعناه الموجود في الناس من المعنى الموجود لله تعالى، فتناسب معناهما تناسب لفظيهما. ما حكاه عن الراغب.
4 - وفي " تاج العروس " قال: وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لما خلق الرحم: " أنا الرحمن وأنت الرحم شققت اسمك من اسمي... " (21) إلى آخره. أقول: يمكن أن يتوهم بأن الرحم لما جاء بمعنى القرابة، وأنه تعالى قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (22) فهو تعالى رحمن بهذا المعنى، وعليه تكون رحمن من المشتقات، وترفع الشبهات السابقة، لاختصاصها بما إذا كانت مشتقة من الرحمة المتعدية. ويمكن أن يقال: إن كلمة " رحمن " بمعنى ذي الرحم، ويكون الخلق عيال الله ورحمه في الاعتبار والخيال. والله العالم.
المسألة الرابعة: في أن " رحمن " صفة مشبهة لا صيغة مبالغة بناء على الاشتقاق وكونها من الرحم، فهي صفة مشبهة بلا شبهة، كما هو قضية الأصل في فعلان، ولو كانت من الرحمة حال ادعاء أنها صفة لازمة الذات، وليست متعدية، فهي - أيضا - صفة مشبهة: لأنها من لازم لحاضر * كظاهر القلب جميل الظاهر ولما أن صيغ المبالغة محصورة في الخمسة عشر (23)، وهي ليست منها وإن كان الحصر إضافيا بالنسبة إلى الأوزان الغالبة، كما أن صيغ الصفة المشبهة محصورة في الإحدى عشرة، وهي معدودة منها. وهكذا لو كانت من رحم - بالضم - كما في بعض التفاسير (24).
وإذا كانت مأخوذة من الرحمة حال تعديها، فهل هي صفة مشبهة حفظا على الأصل في الهيئة، أو صيغة مبالغة حفظا على أصل المادة إذا كانت متعدية، فلا يناسب الصفة المشبهة؟فيقع التعارض بين مقتضى الأصلين في الهيئة والمادة، ولا شبهة في تعين الثاني، لأن اقتضاء التعدية أقوى، بل لا معنى بعد ذلك لكونها صفة مشبهة، كما لا يخفى. والمشهور بين المفسرين هو البناء على المبالغة، واختار جمع خلافها (25). والذي هو التحقيق الحقيق بالتصديق ما أسمعناكم، ولكن قد يشكل تصوير المبالغة في حقه تعالى، لأن معنى المبالغة مشرب بالكذب، ولا يتصور الكذب في حقه تعالى. نعم إذا كانت الصفة صفة الفعل، فبالغ في جعلها صفة الذات، فهو ممكن، ولكنه غير لائق بجنابه تعالى. مثلا: صفة الرحمانية والرحيمية من أوصاف الأفعال، لاحتياجها إلى المرحوم الممتاز في الوجود، بخلاف العالم، فإنه يحتاج إلى المعلوم، ولكنه ليس ممتازا في الوجود، فإذا أطلقت على ذاته تعالى بدعوى أنها عين الذات الأحدية القديمة، تكون من المبالغة. ثم إن الظاهر في كتب اللغة والاستعمالات: أن الرحمة إذا أضيفت إلى القلب وأمثال ذلك يكون لازما، فيقال: فلان رحيم قلبه، وهذا هو معنى تفسيرها بالرقة والانعطاف وإذا أضيفت إلى الذات والشخص فيقال: رحم الله زيدا، فلابد وأن تكون صفة الفعل، فيكون متعديا. والعجب أن اللغة لا تتعرض لهذا الأمر، ويظهر من التفسير فيها: أنه فعل لازم، ومن استعماله متعديا ومجئ اسم الفاعل والمفعول منه أنه فعل متعد، ولا يبعد كون تعديته بالحرف المحذوف في بعض المقامات، وبالمذكور في الكتاب العزيز كثيرا: ﴿إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (26) ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ (27) ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (28) فعلى هذا تكون الرحمة من الأفعال اللازمة، فرحمن صفة مشبهة بالضرورة.
المسألة الخامسة: في أن " رحيم " صفة مشبهة لا خلاف في أن رحيم عربي مشتق من الرحمة، وإنما الخلاف في أنها مشتقة من الرحمة اللازمة أو المتعدية، وهذا هو منشأ الاختلاف في أنها صفة مشبهة أو صيغة مبالغة. وحيث إن فعيل من أوزان المبالغة والصفات المشبهة، فلا يلزم خلاف الأصل في جانب الهيئة إلا أن مقتضى ما تحرر منا من لزوم الرحمة وتفسيرها بالمغفرة لو صح أيضا شاهد عليه، لأن الغفران لازم ويتعدى باللام، وقوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ﴾ (29) مثل قول الناس: جاءني زيد، فإن الاستعمال لا يورث شيئا بعد اقترانه بالقرائن الدالة على لزومه، ولذلك يقال في المفعول: المغفور له، وفي الدعاء: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات " (30) هو كونها صفة مشبهة، وفي ذلك يرتفع الإشكال المختص بصيغة المبالغة في حقه تعالى الماضي تفصيله. هذا مع أن أكثر استعمالات فعيل يورث كونها الأصل في الصفة المشبهة، وقلما يتفق أن تأتي للمبالغة، وقد مثل له في الصرف برحيم وعظيم (31)، ولا يخفى ما في الأول على ما عرفت تفصيله، وفي الثاني أيضا، لعدم الدليل على أنه للمبالغة بعد كون العظمة من الأفعال اللازمة، فإن ما هو السبب لجعلها مبالغة اقتضاء مادتها ذلك، لأن الصفة المشبهة لا تأتي من المتعدي.
نعم في مثل عليم يمكن دعوى أنها مبالغة، لأن العلم متعد، مع أنك قد عرفت سابقا - وصرح به في اللغة -: أن فعيل تأتي بمعنى فاعل، كسفير، فتكون عليم بمعنى عالم، ويشهد له قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (32)، فإنه ليس في مقام المبالغة، كما لا يخفى. فكون فعيل للمبالغة غير ثابت بعد، فيسقط جميع ما قيل في المقام حول هذه الهيئة وهيئة فعلان. ونشكر الله تعالى على ذلك الإنعام.
ذنابة
قيل: " رحمن " غير منصرف عند من زعم أن الشرط انتفاء " فعلانة "، إذ لا يستعمل رحمانة، وهكذا من زعم أن الشرط وجود " فعلى " لانتفائه. وربما قيل: يكفي للمنع الألف والنون الزائدتان. وتوهم انصرافه لقول الشاعر في مسيلمة: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا * فباب من تعنتهم في كفرهم (33)
المسألة السادسة: حول ما قيل في مجازية إطلاق " الرحمن " و " الرحيم " عليه تعالى في بعض التفاسير يوجد: أن الرحمة معنى يلم بالقلب، فيبعث صاحبه، ويحمله على الإحسان إلى غيره، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر، لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان، وهو تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها، وهو الإحسان (34).
وفي الآخر يوجد: أن أصل الرحم هو العطف الحاصل للراحم نحو المرحوم، المنبعث عن ملاحظة حاجته وضره المقتضي لإصلاح شأنه وجبر كسره، وحينئذ فلا بعد في أن يقال: إن إطلاق الرحم على الله سبحانه على نحو الحقيقة اللغوية، وإن الحكم بالمجازية ناشئ من عدم تجريد أصل المعنى من الأغشية اللازمة له بحسب الموارد المحسوسة، كملازمة الانكسار والانفعال للرحمن فينا، بحيث لا يكاد يوجد إلا منبعثا عنه، وليس إطلاق الرحمن على الله سبحانه مقصورا على اعتبار أخذ الغاية والأثر، وإلغاء المبادئ التي هي المعاني الأصلية، كما يظهر منهم، بل لأفعال الله تعالى مبادئ وجودية عينية على التحقيق، وهي حقيقة معاني الألفاظ، فإطلاق الرحم والرضا والغضب وأشباهها، ليس باعتبار تحقق الآثار فقط مجردة عن المبادئ، بل باعتبار مبادئ تلك الأفعال التي هي الأصل لها، فحقيقة الرحمة هو المعنى الذي باعتباره يرحم الممكنات، وإليه يشير ما في " المجمع " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن لله عز وجل مائة رحمة، أنزل الله منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون " (35) الحديث. فإطلاق " الرحمن " و " الرحيم " عليه تعالى، باعتبار كونه ذا الرحمة الواسعة والمبدأ لها والجاعل إياها، وقيامها به قيام صدور لا حلول، كما يوصف الإنسان بصفات الأفعال الصادرة منه (36).
ما أردنا نقله بإجماله مع تصرف ما في عبائره. أقول: تارة يطلق الرحيم بالإضافة إلى القلب ومثله، فلا يراد منه إلا الرقة والتعطف، وأخرى يطلق ويراد منه الغفران والمغفرة، فهل هنا معنى واحد مركب موضوع له الرحمة، وهي رقة القلب الباعثة إلى المغفرة والإغماض، أو هنا معنيان أحدهما غير الآخر؟فإن قلنا بالأول فلابد من الالتزام بالمجازية، وإن قلنا بالثاني فلا. وقضية صراحة كلمات اللغويين هو الثاني، فإذا قلنا: هو الرحيم، فليس معناه أنه الرقيق وذو الانعطاف، بل معناه أنه الغافر، ولا يستلزم الغفران انفعال الذات من الأفعال حتى يمتنع في حقه تعالى. والذي يظهر: أن تفسير الرحمة بالمغفرة مأخوذ من انتسابها إليه تعالى، وإلا فلو قلنا بأن زيدا رحيم بعبده، فلا يتبادر منه إلا المعنى الانفعالي، فعلى هذا يشكل تصحيح اللغة في هذه الاستعمالات.
وأما ما عرفت آنفا - وهو المعروف في الكتب العرفانية - وإجماله: أن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة من جهتها الكمالية، وليست حيثيات النقص داخلة في الموضوع له، فإذا قلنا بأن معنى العلم هو حصول صورة الشئ عند النفس، فلا يراد منه إلا جهة الكمالية، وهو انكشاف هذا الشئ بتلك الصورة من غير نظر إلى الخصوصيات الانفعالية، فلو كان موجود عالما بالشئ لا بالنحو المزبور، فهو يكون عالما حقيقة لا مجازا، وهكذا في سائر اللغات، فمجرد كون الواضع نوع الإنسان، وأنه مشوب الذهن بالماديات وأطوارها، لا يستلزم تحدد حدود الموضوع له، ولا انحصار اللغة بالمصاديق التي احتاج البشر السابق إلى استعمالها فيها، بل الموضوع له عام وأعم، ولا يدخل في حده جهات النقص والعدمية. فهذا هو مرام جمع من شركائنا في مسالكهم العرفانية، وبذلك ينفتح باب التأويل في الكتاب العزيز، ويكون جميع ما ورد تأويلا له موافقا للغة وحقيقة من الحقائق اللفظية. ثم أقول: إن الإنسان الخبير والمطلع البصير، الغير الخالط بين المراتب وشتات المسائل، الحافظ في كل مقام حد ذلك المقام والرتبة، لابد وأن لا يخلط بين المباحث اللغوية والأوضاع وبين المسائل العرفانية والفلسفية، فإن الخلط بينهما كثيرا يؤدي إلى المفاسد العجيبة، نظير الخلط الشائع بين أبناء العلوم الاعتبارية، بين المسائل العقلية ومباحث القانون والأحكام التشريعية والاعتبارية، فكما أن هناك استلزم ذلك الغلط أغلاطا غير عزيزة، كذلك فيما نحن فيه.
ومن العجيب ما قيل في تحرير الكبرى المزبورة من: أنه لو سئل الواضع: هل وضعت لفظة كذا لمعنى كذا، مثل لفظة " الميزان " لما هو المتعارف في الوزن، أو لكل ما يوزن به الشئ؟لأجاب بالثاني، وهذا شاهد على عموم الموضوع له. وأنت خبير: بأن الوضع ليس إلا اعتبار أو علقة حصلت من الاستعمال والاعتبار، فإذا اعتبر الواضع في بدو الأمر الميزان لما يوزن به في عصره حسب المتعارف، فلا يكون اللفظ إلا دالا عليه، ومجرد تمايله إلى الأعم وجوابه بالعموم لا يكفي لتوسع نطاق الموضوع له. فعلى ما تقرر: إطلاق الرحمن عليه تعالى حقيقة إن كان مشتقا من الرحيم، على ما عرفت منا تقريبه وإلا فإطلاقه وإطلاق الرحيم عليه تعالى من المجاز، والالتزام بالاستعمالات المجازية في الكتاب والسنة، ليس من الأمر الغريب ولا من العزيز. نعم لا بأس بالالتزام: بأن كثرة استعماله في حقه تعالى في الكتاب والسنة وغيرهما، بلغت إلى حد الوضع الثانوي، وهو التعيني، فيكون حقيقة ثانوية. وغير خفي: أن معنى مجازية إطلاقهما عليه تعالى - بحسب اللغة والوضع - ليس معناه أن حقيقة الرحمة التي وسعت كل شئ، ليست مستندة إليه تعالى بحسب الخارج وفي الأعيان، فإن مسألة الحقائق الحكمية غير مسألة الحقائق اللغوية. وقد قيل: إن الحقائق الحكمية لا تقتنص من الإطلاقات العرفية إلا أن بعد المسائل الربوبية واصطعاب فهم البحوث الإلهية والمطالب الراجعة إلى ما وراء الطبيعة على الأفهام السوقية والعقول العادية، وشدة البينونة بين نطاق فلك الإلهيات بالمعنى الأخص والأعم، ونطاق فلك اللغات والتبادرات، تقتضي كون الألفاظ قاصرة عن الدلالة الوضعية اللغوية على تلك المعاني الآفاقية، فلابد أن يتشبث بأذيال الاستعارات والكنايات والمجازات، لإفهام تلك الخيالات الراقية والمدارك الروحانية.
نعم دعوى: أن الواضع هو الله تعالى أو الأنبياء والرسل أو الملائكة المقدسة - لتثبيت هذه المقالة - ممكنة، إلا أنها غير وجيهة حسب ما تقرر في الأصول (37)، وكان الوالد المحقق - مد ظله - في بعض كتبه العقلية والأخلاقية مصرا على تثبيت تلك المقالة، وفاقا لأرباب العرفان والسلوك وأصحاب الإيقان والشهود (38)، ولا أظن التزامه بذلك في محله، وهو العلوم الاعتبارية كالفقه والأصول، فالحق أحق أن يتبع من عقول الرجال.
1- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 104 ، وتفسير التبيان 1 : 29 ، ومجمع البيان 1 : 91 ، والبحر المحيط 1 : 15.
2- تاج العروس 8 : 307.
3- انظر مجمع البيان 1 : 20.
4- الإتقان في علوم القرآن 1 : 136.
5- الفرقان ( 25 ) : 60.
6- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 104.
7- مجمع البيان 1 : 20.
8- الدر المنثور 1 : 11.
9- الجامع لأحكام القرآن 1 : 103.
10- التوبة ( 9 ) : 128.
11- البحر المحيط 1 : 15.
12- روح المعاني 1 : 56.
13- مصباح الانس : 284 ، شرح فصوص الحكم ، القيصري : 14.
14- الإسراء ( 17 ) : 110.
15- البقرة ( 2 ) : 163.
16- القاموس المحيط 4 : 119.
17- المفردات في غريب القرآن : 191.
18- معاني الأخبار : 302 / 1.
19- النهاية ، ابن الأثير 2 : 447.
20- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام ( عليه السلام ) : 37.
21- تاج العروس 8 : 307.
22- ق ( 50 ) : 16.
23- راجع مقدمة المنجد ، ذكر فيه خمسة عشر وزنا للمبالغة.
24- تفسير بيان السعادة 1 : 28.
25- انظر النهر الماد من البحر ، أبو حيان ، ضمن البحر المحيط 1 : 15.
26- البقرة ( 2 ) : 143.
27- الأحزاب ( 33 ) : 43.
28- الإسراء ( 17 ) : 66.
29- غافر ( 40 ) : 3.
30- الكافي 2 : 385 / 23.
31- راجع مقدمة المنجد : أمثلة المبالغة.
32- يوسف ( 12 ) : 76.
33- انظر الكشاف 1 : 7 - 8.
34- تفسير المنار 1 : 46.
35- مجمع البيان 1 : 21.
36- تفسير سورة البقرة والحمد ، الشيخ محمد حسين الأصفهاني : 115 - 116.
37- راجع تحريرات في الأصول 1 : 65.
38- وقد خالف هذا القول في آداب الصلاة : 249.