النحو والإعراب

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: عن متعلق الباء اعلم أن الباء تأتي لمعان: الاستعانة، والإلصاق، والقسم، والسبب، والحال، والظرفية، والنقل. وأمثلتها هكذا: ذبحت بالسكين، مسحت برأسي، ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ﴾، بالله أفعل كذا، جاء زيد بثيابه، زيد بالبصرة، والنقل: قمت بزيد. وتأتي زائدة للتوكيد: ﴿كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾. وتأتي لمعان اخر: البدل، والمقابلة، والمجاوزة، والاستعلاء، وغير ذلك. هذا ما عند النحاة. والذي يظهر: أن بعضا منها مع بعض مختلف المعنى، مثلا: ﴿ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ﴾، وقولهم: كتبت بالقلم، فإنهما لا يمكن إرجاعهما إلى واحد، وهكذا القسم، ولكن كثير من هذه الموارد المزبورة في الكتب الأدبية، ترجع إلى معنى واحد، وإنما التشتت جاء من اختلاف لواحق الكلام به. ثم إن أصل احتياج الجار والمجرور - لكونه جملة ناقصة لا يصح السكوت عليها - إلى متعلق مذكور أو محذوف، متقدم أو متأخر، فعل أو مشتق اسمي، مما لابد منه ولا محيص عنه. فأما إذا كان مذكورا فلا يختلف فيه اثنان، وإذا كان محذوفا، ربما تبلغ الأقوال إلى عشرين أو أكثر ولك أن تعد هذه الأقوال، احتمالات المسألة، ولا معنى لتعيين المحذوف معينا بعد إمكان كونه كثيرا، حسب اختلاف موارد الاستعمال ومقاصد الكلام مع القرائن المختلفة، ومع ذلك لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى اختلاف الأفاضل والمفسرين: فعن الفراء: " ابدأ بسم الله " بالأمر. وعن الزجاج: " ابتدأت بسم الله "، فتكون الجملة في موضع نصب. وعن آخر: " ابتدائي بسم الله "، فيكون في موضع رفع. وعن رابع: " ابتدائي مستقر وثابت بسم الله "، فيكون في موضع النصب، ونسب ذلك إلى نحاة أهل البصرة. وعن خامس منهم: " ابتدائي بسم الله موجود وثابت "، فيكون في موضع النصب بالمصدر وهو ابتدائي (1). وعن سادس: " ابدأ أو اقرأ أو شبهه، أو قولوا بسم الله " هكذا في " التبيان " (2). وقيل: لا يجوز تقدير جملة ابتدائي، لصيرورة الباء للصلة، فيحتاج إلى الخبر، هكذا في " المجمع " (3) وفيه: أن ذلك تابع لقصد المتكلم. وقيل: إن المحذوف جملة - فعلية كانت أو اسمية - تكون متأخرة، لأنه - مضافا إلى مناسبة كرامة الاسم الشريف بعدم تقديم شئ عليه - يناسب المتعارف من الاستعمال، فإن المسافر إذا حل وارتحل فقال: " بسم الله " كان المعنى: بسم الله أحل وأرتحل، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله " بسم الله "، كان مضمرا ما جعل التسمية مبدأ له، وإنما قدر المحذوف متأخرا لأن الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به، وكانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون: " باسم اللات والعزى "، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء والتقديم وتأخير الفعل. وربما يؤيد حسن تقديم المحذوف قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ (4)، (5). ولك دعوى: أن هذه الكلمة الشريفة، خارجة عن قانون لزوم الحاجة إلى المتعلق، بل سيقت للتبرك بها في ابتداء الأفعال والأقوال ولحسن الطالع ولجلب نظر الملائكة المقدسين إلى العمل الذي ابتدئ به وتكلم به، فيكون المحذوف - في الحقيقة - الفعل أو مادة من المواد الاشتقاقية مع حرف الصلة، سواء كان الباء أو غيره من سائر الحروف، فيقول مثلا مع ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: أفعل وأصنع كذا، فتكون الباء منسلخة عن المعنى الأصلي. وبعبارة أخرى: الابتداء بهذه الكلمة الشريفة كالابتداء بكلمة " الله " من غير إدخال شئ عليه، فهو سيق لمجرد التذكر والتيمن والتبرك الذي قد وردت الآيات الكثيرة الآمرة بذكره تعالى ولذلك ترى أنها تقرأ مع كل سورة، ومن تلك السور ما صدرت بالأوامر مثل سورة المزمل وغيرها، بل لا يتناسب مع كثير من السور، كالدهر والمائدة والأعلى والحج وغيرها، مما يناسبها في عدم المناسبة بين الابتداء بالبسملة الشريفة مع أحد العناوين المزبورة. اللهم إلا أن يقال: بأن البسملة في كل سورة متعلقة بتلك السورة، فلا يجب انتظام المعنى المقدر في جميع السور، كما توهمه بعض المفسرين. ويمكن أن يقال: إن المحذوف هو مادة الاسم، وهو المناسب لدلالة المذكور عليه، ولما عرفت عن " المعاني " و " العيون " عن الرضا (عليه السلام) عن ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾: " يعني أسم على نفسي بسمة من سمات الله " (6) الحديث. وغير خفي: أن الباء من الحروف، وجميع الحروف قابلة - على مسلك - لأن تلاحظ بالعناوين الاسمية، ولذلك عبروا عنها في مقام تفسيرها: بأن الباء للاستعانة والإلصاق و " من " للابتداء و " إلى " للانتهاء. فعلى هذا، ما اشتهر من أن الباء متعلق بمحذوف، وهي الاستعانة، غلط، لعدم إمكان تعلق الباء الحرفي الموضوع للاستعانة بالمعنى الاسمي، وهو الاستعانة، بل الحرفي من كل يتعلق بالاسمي الآخر، فقولهم: إن الباء للابتداء في الأصل فالمحذوف هي مادة الابتداء، أو للإلصاق والاستعانة في الأصل فالمحذوف كذا، غلط ظاهر، ضرورة عدم إمكان تصحيح قولهم: " أستعين ببسم الله " على أن تكون الباء للاستعانة، بل الباء إذا كان المقدر مادة الاستعانة لمعنى آخر من الصلة والإلصاق، وهكذا إذا قيل: " ابتدأت ببسم الله ". وأيضا إن مقصود المفسرين من تعلق " بسم الله " بمادة من المواد - سواء كانت القراءة أو الاستعانة - ليس أن المقروء والمستعان به هي الكلمة المبتدأ بها والجملة الناقصة التصورية، بل هي مقدمة لما هو المقروء الحقيقي المقصود بالأصالة في القراءة، وهي جملة: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فما ترى في بعض التفاسير الحديثة، من الغلط الواضح. وما قيل: إن المحذوف يتعين في مادة الابتداء، لامتناع الاستعانة في حقه تعالى، في نهاية السقوط، للزوم استعانته بالمخلوق في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، بل يلزم عبادته للمخلوق في الجملة الأولى، لأنهما جملتان من القرآن، والقرآن نازل من الله تعالى، فما هو الجواب هنا، هو الجواب هناك، فإنه تعالى لا ينشئ في هذه الحوادث والكلمات المعاني التي ينشئها الآخرون حين قراءة الكتاب. وهنا قول سابع وهو: كون الباء للقسم من الرب والمربوب (7)، وبه يجمع بين المتشتتات، فهو قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة يقسم لعباده: إن هذا الذي وصفت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. وأيضا يكون قسما من العبد على صدق لهجته، وتوافق الجملة اللفظية مع الذهنية، وهما مع القلبية والروحية، وكان في ما اثر عن الرضا (عليه السلام) (8) إشارة إلى أن قارئ ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ والقائل به، ينبغي أن يجتهد حتى يجد عين هذا القول أنموذجا من صفات الله في وجوده، وفي قوله (عليه السلام): " وهي العبادة " إشارة إلى أن العبد حين هذا القول، ينبغي أن يخرج من أنانيته التي هي خروج من العبادة والعبودية، ويخرج من مالكيته واختياره، ويدخل تحت أمر ربه، ويجد ذلك من نفسه حتى تكون منه هذه الكلمة صادقة، ولا يكون هو كاذبا بينه وبين الله، سواء أريد بكلمة ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ إنشاء الاتصاف بسمة من سمات الله أو الإخبار به.

والمسلك السابع: هو أن قضية الأصل عدم التقدير، إذا أمكن تعلق الجار والمجرور بالمذكور، وقد اختار أرباب العرفان والشهود وأصحاب الإيقان والتوحيد: أن بسملة الحمد متعلقة بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وبيان ذلك يأتي في تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ومسلكهم هذا أيضا قريب من أفق علم النحو والإعراب، فكأنه يقول: حمدت أو أحمد الله تعالى حمدا يليق به باستعانة اسم الله الرحمن الرحيم، فما يتعلق به هو الفعل المتخذ من الحمد المصدري أو الاسم المصدري، أو متعلق بنفس المصدر. فالأولى كون الباء للاستعانة، فإن الحامد في توجيه حمده إلى الله تعالى، يطلب الاستعانة بمعناها الحرفي من اسم الله الرحمن الرحيم، كما يطلب الاستعانة بمعناها الاسمي، عند قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. أو للتعليل لمفاد الجملة الثانية، أي إن علة انحصار المحامد برب العالمين - وإن كل محمدة ترجع إلى تلك الهوية المطلقة ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ (9). اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست * يقين كردى كه دين در بت پرستى است هو كون الاسم الله الرحمن الرحيم، فإن كلمة " الله " موضوعة للذات بما لها من الكمالات والأسماء، فإن هذه الكلمة هي أم الأسماء، وعندها يعتدل آثارها وخواصها، ولذلك مظهر هذا الاسم الأعظم مجمع جميع الكمالات على حد الاستواء والعدالة، من غير إفراط وتفريط في ناحية من النواحي الكثيرة في الأسماء الإلهية - البالغة حسب بعض المسموعات أربعة آلاف، ثلاثة آلاف منها مرسومة، والألف الأخرى غير مسموعة - المنطوية في الاسم المستأثر للذات. أو أن ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ باقتضاء الاسم الذي هو الله الرحمن الرحيم. وعلى مسلكنا يصير المعنى هكذا، أي إن الحمد لله رب العالمين باقتضاء اسم الله الذي هو الرحمن الرحيم، فإن لله تعالى علما وأسماء، فالله علم، والرحمن الرحيم من الأسماء، ولذلك يأتيك: أن الإضافة ليست بيانية، بل هي معنوية في إضافة اسم إلى الله، وبيانية في إضافة اسم الله إلى الرحمن الرحيم، لما سيظهر: أن إعراب الرحمن على إضافة اسم المضاف إلى الله إلى الرحمن، أو يكون الرحمن وصف الاسم، لا وصف الله في ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، أي بسم الله الذي هو الرحمن الرحيم بما لهما من المعنى، وكأن معنيي " الرحمن الرحيم " داخلان في الموضوع له للاسم، لما عرفت من أن الاسم موضوع للألفاظ الموضوعة، لا مطلق اللفظ ولو كان مهملا. وبهذا التقريب يمكن حل الشبهة الماضية من لزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين في البسملة، بأن معنى الرحمن الرحيم يراد من الاسم، لا من الرحمن الرحيم، حتى تكون في طول إرادة معنى الاسم فيلزم الإشكال الآخر الماضي تفصيله.

إضافة وإبانة

قد اشتهر أن خفض الاسم في بسم الله، أوجب رفعه في ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (10) وهذا هو أحد المسالك السبعة السابقة، وكنا قد اخترعناه في هذا المضمار، وهو: أن هذه الكلمة سيقت للتبرك، ولا تكون جملة ناقصة أدبية حتى تحتاج إلى المتعلق، فتكون به كاملة، بل هذا كقول الناس: " الله " في بعض الأحيان، فإن نفس تذكر الله بإمراره على اللسان بوجوده اللفظي وذكره القلبي، صيانة عن الخطأ والزلل، ويعبر عنه في هذا العصر بوجه آخر " تيتر "، فإن الجملة التي تقع بعنوان " تيتر " ليست متعلقا لأمر حتى تكمل به، بل هي برنامج المقالة التي أريد طرحها وذكرها، فهذه البسملة مضافا إلى كونها للتبرك لاشتمالها على أسماء الله تعالى، تعد تيترا للفاتحة والكتاب، لأن اشتمالها على كلمة " الله " الجامع لجميع مقتضيات الأسماء والصفات على نعت الاعتدال والاستواء - ففيها صفات الجلال والجمال - كاف لكونها تيتر الكتاب والسورة، فليست الباء جارة ومستعملة في معناها الحرفي المحتاج إلى المتعلق. وأما خفضه فهو لأجل اقترانه بالكلمة الشريفة، فإن في قبال الكامل على الإطلاق والمتكبر بالاستحقاق، لابد من الخضوع والخشوع، ولكن تحت هذا الاندكاك والفناء، هو البقاء والرفعة في ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ (11) بالرفع هو السر الآخر، وهو كسر الأنانية والإنية، فإن الهاء إنيته وصورته الكسرة والخفض، إلا أن لإجلال الكلمة الشريفة رفض صورته وهويته، قياما بالوظيفة المقدسة، وهو تفخيم الاسم الشريف في التلفظ. والله العالم بحقائق الأمور.

المسألة الثانية: حول إضافة الاسم إلى كلمة " الله " الشريفة فهل هي إضافة معنوية كإضافة " غلام " إلى " زيد "، أو هي إضافة بيانية كإضافة الموصوف إلى الصفة كجرد قطيفة؟قيل بالأول، معللا بأن الإضافة البيانية تستلزم كون المستعان به أو المبتدأ به نفس ألفاظ " الله " " الرحمن " " الرحيم ". ويضاف إلى ذلك: أن المراد إن كان المجموع منها فهي ليست من الأسماء، وإن كان الآحاد فلابد من العاطف. وهذا التعليل عليل، لأن المستعان به هي اللفظة بما لها من المعنى وهي لفظة " الله "، فما هو المستعان به حقيقة هو الله، فإذا كانت لفظة " الله " مستعملة في معناها الحقيقي فانية في الذات، فلا يلزم الاستعانة بالألفاظ، وإلا يلزم الاستعانة بالألفاظ ولو كانت الإضافة معنوية، لأن الظاهر أن المستعان به هو مسمى الاسم وهو لفظة " الله " الشريفة. فالذي عندنا: أن الالتزام بالإضافة البيانية ممكن، بدعوى: أن المستعان به هي اللفظة الشريفة بما لها من المعنى، فيكون الاسم اسم الاسم، لأن الاسم استعمل في معناه وهي الكلمة الموضوعة، وتلك الكلمة استعملت في معناه وهي الذات الأحدية، فيكون الأول طريقا إلى الثاني، وهو الله، وتلك الكلمة طريق إلى الذات المسماة، فالأول طريق إلى الطريق. إلا أن هنا شبهة معنوية: وهي أن الجمع بين النظر الاسمي والحرفي غير ممكن ذاتا، أو غير ممكن إثباتا لطائفة أو لعموم عائلة البشر، فإذن كيف يمكن جعل الاسم إلى كلمة " الله " طريقا وكلمة " الله " طريقا إلى الذات مع أن الطريق الأول يستلزم كون كلمة " الله " منظورا إليه نظرة استقلالية، والطريق الثاني يستلزم إفناء اللفظ في المعنى والتغافل عنه حين الاستعمال. وهذه الشبهة تأتي على القول الآخر في نوع الإضافة، من غير فرق بين إرادة كلمة " الله " من الاسم كما هو في التفاسير، حيث جعلوا " الرحمن الرحيم " من تبعات الكلمة الشريفة، أو إرادة الرحمن الرحيم من الاسم كما هو المحرر عندنا، وسيأتي البحث حول إعراب " الرحمن الرحيم ". وبالجملة: كيف يمكن الالتزام بأن الموحد يستعين أو يقتصر على الابتداء بالألفاظ - التي هي الأصوات - من غير نظر إلى أنها ذوات معان؟وإذا لم يكن كذلك فكيف يمكن الجمع بين النظرين الآلي والاستقلالي؟ولعمري إن هذه الشبهة ربما أوقعت الأشاعرة في الهلكة السوداء والبئر الظلماء، حتى أصبحوا مشركين أو ذاهلة عقولهم عن الدين، وقالوا فرارا عنها: إن الاسم عين المسمى (12)، فما هو المبتدأ به والمستعان به هو المسمى للاتحاد بينه وبين الاسم، ولا سيما بعد ما رأوا أن القرآن ناطق هكذا: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (13)، فلو كان الاسم والمسمى متعددا لما كان وجه لقوله: ﴿تبارك اسم...﴾. والذي يراه العقل السليم والقلب المستقيم: أنه إذا لم يحصل التمكن من الدفاع عن هذه العويصة وتلك المشكلة والمعضلة، لما جاز دعوى اتحاد الاسم والمسمى، ضرورة أن الأسماء كثيرة والمسمى واحد، فكيف يعقل التوحيد بينهما، كما في معتبر هشام بن الحكم، عن الصادق (عليه السلام) في دفع ما قالوه ؟! (14) والجواب: إن الناس مختلفون في النظر إلى الأسماء: فناظر ينظر إليها مستقلات في أنفسها، وناظر ينظر إليها غافلين عنها، ذاهلين عن وجوداتها، وناظر يجمع بين النظرين، ويكون النظر إلى الأسماء تبعا للنظر إلى المسمى، وناظر ينعكس، وناظر يشرك في النظرين. فالثاني هم الجماعة المتوغلون في التوحيد، والبالغون مرتبة التجريد، والواصلون إلى عين الحقيقة، والضالون فيها غير الجامعين بين الشريعة والحقيقة. والأول هم المشتغلون بشعوب الكثرات، والمغضوب عليهم في النشآت، والقاطنون في أرض الطبيعة، والواطنون في دار الظلمة والجهالة. والثالث هم الكاملون الجامعون بين الغيب والشهادة، والواصلون إلى حقيقة السفرة الرابعة، والمنعم عليهم بالهداية والاستقامة. والرابع هم الكفار المتوصلون إلى الوسائط الخلقية بالأصنام والأوثان، ساهين عن حقيقة الآية الشريفة: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ (15). والخامس هم المشركون والوثنيون الجامعون بين البالي والداني، وبين الرب والمربوب، الظالمون في حق الرب بتنزيله عن مقامه الأرفع، وفي حق المربوب بترقيته إلى ما لا يليق به، فإن الكل ظلم وتعد وإفراط وجهالة. فإذا قال العبد: ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾، فهو يجمع بين المسمى والاسم ومسمى مسمى الاسم في النظر، فيكون النظر الاستقلالي إلى تلك الحقيقة الموصوفة بالوحدة الذاتية الأزلية الحقيقية الأصيلة، والنظر التبعي إلى الاسم وهو " الله "، وإلى اسم الاسم وهو " بسم ". والله الهادي إلى دار الصواب. وهذا الجمع جائز عقلا وواقع كثيرا، والذي لا يمكن هو الجمع بين النظر الاستقلالي والآلي بأن يكون الشئ الواحد مورد النظرين، وأما هنا فذاته المقدسة مورد النظر الاستقلالي، والأسماء مورد النظر الآلي. فما المحصول من هذه الإطالة؟إن ما يظهر من أرباب الإيقان وأصحاب الكشف والبرهان، من اختيار الإضافة البيانية قائلين: إن التقدير هكذا: بالاسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله الرب للعالمين، وأحصر الحمد به، فيكون المعنى - حسب ما يأتي برهانه في مباحث المجلد الثانية -: الحمد لله رب العالمين، بسم الله الرحمن الرحيم، فيكون الباء للتعليل، أي بعلة أن الاسم الله والرحمن والرحيم، ينحصر الحمد بذاته المقدسة الربوبية. ولذلك ذكرنا: أن الكلمة الشريفة هي علم للذات الإلهية الربوبية، لا للذات بما هي هي، فإنها اعتبار لا اسم لها ولا رسم لها: عنقا شكار كس نشود دام باز گير * كه اينجا هزار باد بدست است دام را (16) مما لا معين له. اللهم إلا أن يقال: لأجل اقتضاء الاسم الذي هو " الله "، ينحصر الحمد به، ولا يشاركه في كمال غيره إلا الكمال المجازي والتوهمي، كما لا يشارك السفينة في الحركة الأينية جالسها إلا في الحركة المجازية والتوهمية الخيالية، وإلا فهي مسلوبة عنه على نعت الحقيقة، فإن الماهيات لا تنقلب بالوجودات إلى غيرها، فما هو جهة ذاتياتها باق حتى بعد استنارتها بنور الوجود، لأن الانقلاب يستلزم تعدد الوجوب الذاتي، والبقاء على حالها الأولية يستلزم الإسناد المجازي، لا باقتضاء اسم الله، وهو الرحمن الرحيم. ولكنه عندنا غير واصل إلى ميقات التحقيق ولا نائل نصاب التدقيق، لما سيظهر أن الرحمة الرحمانية والرحيمية، مستوعبة لجميع العوالم الغيبية والشهودية من قضها إلى قضيضها، حتى قد تبين لنا: أن نيران الجحيم من شعب الرحمة، وخلق الشيطان الرجيم من تبعات الرحمة والنعمة، أفلا تنظرون إلى قوله - تعالى وتقدس - ﴿يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ (17) كيف عد إرسال النار من الآلاء، فالجار والمجرور متعلق بالجملة الثانية، والإضافة معنوية لا بيانية. نعم إضافة " اسم " المضاف إلى " الله " إلى " الرحمن " بيانية إن أمكن مثل هذه الإضافة، كما سيأتي.

المسألة الثالثة: حول ما يقال في زيادة اسم في ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن " اسم " صلة زائدة، واستشهد بقول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر فذكر " اسم " زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما (18). وقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه (19). وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لأن أصل الكلام بالله (20). ولك أن تقول: إن العرب كانوا قبل الإسلام يبدؤون أعمالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون: " باسم اللات والعزى "، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا مرضاة لملك أو أمير يقول: أعمله باسم فلان، أي إن ذلك العمل لا وجود له لولا ذلك الأمير والملك، فيكون الاسم زيادة، من باب تعارف الاستعمال، ولا يكون يراد منه شئ، بل توطئة للمقصود، فيكون جر الكلمة الشريفة بالباء، لا بإضافة الاسم إليها، فإن في مثل هذه الإضافة ليس مورد الحكم في الأدب والإعراب. ويشهد لزيادتها قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ (21)، وقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (22)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ (23)، وقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ (24) وهكذا، فإن المسبح هي الذات المسماة، لا الاسم. وإرجاع الآية إلى تركيب آخر - كما صنعه بعضهم في بعض منها - غير وجيه، لأنه خروج عن الحد فقوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ليس سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى، وقوله تعالى: ﴿سَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي: سبح ناطقا باسمه العظيم، فإنه وإن كان بحسب المعنى كذلك، ولكنه ليس مفاد هذه الجملة حسب التركيب الأدبي، فالأولى دعوى: أن كلمة " اسم " زيادة جئ بها لما تعارف ذلك. ويدل على ذلك: ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه، عن عقبة بن عامر، قال: لما نزلت ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلوها في ركوعكم "، ولما نزلت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اجعلوها في سجودكم " (25).

فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصحيح الترمذي، عن حذيفة، قال: صليت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، وفي سجوده: " سبحان ربى الأعلى " (26) فالاسم زائد في هذه المواقف، فكيف لا وهو، لا يتبارك ولا يسبح وغير ذلك، فإنه كفر وإلحاد. ولأجل أمثال هذه المأثورات والآيات، قالوا باتحاد الاسم والمسمى والتسمية (27)، وقال الآخرون: باتحاد الاسم والمسمى، دون التسمية (28). والمذهب المنصور: عدم الاتحاد الحقيقي بين الاسم والمسمى. نعم، لمكان حمل الاسم على المسمى - والحمل يقتضي التوحد - لابد من اختيار نحو من الاتحاد الاعتباري، حتى قيل: إن الوضع هو جعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى (29). والقارئ العزيز - بعد الاطلاع على ما أسسناه في هذا المضمار - في فسحة من هذه التحليلات الباردة والاستدلالات الكاسدة، فقد أحاط خبرا بأن كلمة الاسم ليست زائدة. بل هي سيقت لإفادة أن التمسك به، هي المسماة بما لها من المعنى على الوجه السابق، مع أن في قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾ (30) وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ﴾ (31) يفيد أن ذكر كلمة " الله " غير لازم بالخصوص، بل يكفي كل ما كان اسما لله تعالى، ومن تلك الأسماء نفس الكلمة الشريفة، فلو كانت كلمة اسم زائدة، لكان اللازم الاقتصار على ذكر كلمة " الله " الشريفة، مع أن الضرورة قاضية بخلاف ذلك، فإذا قيل: سبح اسم ربك، يعني يجب تسبيح الرب والحق بما لهما من المعنى، لا بما هما مورد النظر الاستقلالي.

فالخلط بين النظرات في المسألة أوقع المشتبهين فيما وقعوا فيه، وأوقع الآخرين في عدم تمكنهم من دفع الشبهات حق الدفع. والخلط بين ما هو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ (32) وبين ما يقول الذاكر بالحمل الشائع أوجب هذه التخيلات، فإن الاسم في الآية الشريفة حكاية عن أسماء الله تعالى، والأمر فيها بعث نحو ذكره تعالى، ولا يعقل الذكر إلا بذكر الأسماء بما لها من المعاني، غافلين في مقام الاستعمال عن القوالب، ومتوجهين إلى المعاني والحقائق.


1- الجامع لأحكام القرآن 1 : 99.

2- تفسير التبيان 1 : 25.

3- مجمع البيان 1 : 20.

4- العلق ( 96 ) : 1.

5- الكشاف 1 : 2 - 3.

6- معاني الأخبار : 3 ، باب معنى بسم الله ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 203 / 19.

7- الجامع لأحكام القرآن 1 : 91.

8- معاني الأخبار 3 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 203 / 19 ، التوحيد 229 / 1.

9- النساء ( 4 ) : 79.

10- الرحمن ( 55 ) : 78.

11- الفتح ( 48 ) : 10.

12- التفسير الكبير 1 : 108 ، شرح المقاصد 4 : 337 ، شرح المواقف 8 : 207 - 208.

13- الرحمن ( 55 ) : 78.

14- الكافي 1 : 89 / 2.

15- النجم ( 53 ) : 23.

16- ديوان حافظ شيرازي ، مطلعه : صوفي بياكه آينه صافيست جام را * تا بنگرى صفاى مى لعل فأم را.

17- الرحمن ( 55 ) : 35 - 36.

18- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 98.

19- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 99.

20- نفس المصدر.

21- الأعلى ( 87 ) : 1.

22- الواقعة ( 56 ) : 74 و 96.

23- المزمل ( 73 ) : 8.

24- الرحمن ( 55 ) : 78.

25- مسند أحمد 4 : 155 ، سنن أبي داود 1 : 292 / 869 ، سنن ابن ماجة 1 : 282 / 887 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري 2 : 477 ، صحيح ابن حبان 3 : 283 / 1889 ، وانظر الدر المنثور 6 : 168.

26- مسند أحمد 5 : 382 / 1 ، سنن أبي داود 1 : 293 / 874 ، سنن النسائي 2 : 190 ، سنن ابن ماجة 1 : 287 / 888 ، سنن الترمذي 1 : 164 / 261 ، السنن الكبرى 2 : 310.

27- انظر شرح المواقف 8 : 207.

28- شرح المقاصد 4 : 337 ، شرح المواقف 8 : 207.

29- راجع منتهى الأصول 1 : 15.

30- الأنعام ( 6 ) : 118.

31- الأنعام ( 6 ) : 121.

32- المزمل ( 73 ) : 8 ، الإنسان ( 76 ) : 25.