الخط

هنا مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: في حذف همزة " بسم الله " كانوا يكتبون قبل الإسلام وبعده هكذا: " باسمك اللهم " محافظين على الهمزة في الكتابة، وبعد ظهور الإسلام والانقلاب فيما يكتب في مبادئ المكاتيب، كتبوا هكذا: " بسم الله " حاذفين الهمزة في مثله، وفي قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (1)، ويظهرونها في سائر الاستعمالات في الكتاب العزيز، وهي كثيرة. منها قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ الحاقة (2) والواقعة في موضعين (3). ولا يمكن احتمال الغلط في الكتابة في خصوص هذه اللفظة، وإن احتملنا ذلك في سائر الأغلاط الكتابية الكثيرة الموجودة في القرآن، وربما تبلغ أكثر من خمسين موردا، وأنهيناها في بعض المخطوطات إلى أكثر منها ظاهرا، لأن احتمال اشتباه الكاتب أو عدم اطلاعه على رسم الخطوط في الابتداء قريب. وقد بنى الطبقات اللاحقة على صيانة تلك الأغلاط، لشدة اهتمامهم بحفظ الكتاب العزيز عن الحوادث والتغيرات، وعن معرضية القرآن العظيم لوصمة اتهام التحريف، فبادروا إلى تلك الكتابة عالمين بأنها خارجة عن قانون رسم الخط. ومن الأغلاط الكتبية الواضحة: كتابة " أيها " بصورة " أيه " في قوله تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيه الثقلان﴾ في سورة الرحمن (4)، وهكذا في موضع آخر أو موضعين آخرين (5). ومنها: كتابة " يا بن أم " على هذه الصورة: " يبنؤم " (6) ومنها غير ذلك. ولم يظهر لي حتى الآن سبب هذا الرسم والانقلاب، وهل هو كان لأجل إضافة الاسم إلى كلمة " الله "، ولذلك في موضع تلك الإضافة تحذف الهمزة ولا تكتب. وقال في " التبيان ": " وحذفت هنا وحدها في الخط لكثرة الاستعمال، ولا تحذف في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وما أشبه ذلك، لقلة استعمالها هناك " (7).

. وهذا منقوض بما مر: ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾، وربما عرفت في " باسمك اللهم "، فإنه بعد نزول آية ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ كتبت هكذا، لا بعد الاستعمال الكثير. ومن ذلك يظهر ضعف مقالة يحيى بن وثاب والكسائي وسعيد الأخفش في المقام، وهي كثرة الاستعمال بعد دعوى الاتفاق على حذف الهمزة في الكتابة، وكأنه لا يجوز إظهارها في الكتب (8). والله العالم. وأيضا يظهر ضعف ما عن الخليل: إنما حذفت الألف في قوله: ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ وذلك لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع، كما في ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ لأنه يمكن حذف الباء من ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ مع بقاء المعنى صحيحا، أما لو حذفت من ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾ لم يصح المعنى فظهر الفرق (9).

. فلو تم ذلك، فما يقول في قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (10) ؟! فإنه يتم المعنى بدون الباء كما لا يخفى. ومثله قوله تعالى: ﴿لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ (11)، فإن الأصل هكذا " لكن أنا "، فحذفت الهمزة في القراءة وفي الخط، وبقي الألف للدلالة على حذفه.

المسألة الثانية: في حذف الألف من " الله " القواعد الخطية وقانون الرسم، تقتضي في كتابة اللفظة الشريفة إظهار الألف، فيكتب هكذا " اللاه "، ولكنه حذف لئلا يشتبه بخط " اللاه " اسم الفاعل من " لها يلهو ". وقيل: طرحت تخفيفا. وقيل: هي لغة، فاستعملت في الخط (12). ولك أن تقول: هذا شاهد على أنها ليست مشتقة من شئ، بل هي كلمة مستقلة هكذا تقرأ، أي بالألف، وقد تقرأ بدونه كما في الرجز والشعر، واتبع الكاتبون القراءة الثانية في رسم الخط والكتابة، ولو كان البناء على التخفيف، كان ينبغي أن يكتب باللام الواحد المشدد، كما قيل في " الذين " و " الليل " فإن في التثنية تكتب هكذا " اللذين ". ولا يخفى أن كلمة " ليل " في القرآن، مختلفة الرسم ولا قاعدة كلية فيها. ومن العجيب أن الكلمة الشريفة تكتب باللامين وهكذا كل كلمة مشابهة لها. وهكذا إذا دخلت عليها اللام الجار، تحذف الهمزة ولا تكتب اللام، فيكون هكذا " لله "، مع أن القاعدة تقتضي أن تكتب هكذا " لله "، فلمراعاة حسن الخط صارت كذلك. وقيل: إنما حذفوا الألف قبل الهاء في قولنا: " الله "، لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة، وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة. وغير خفي أنه لا يحذف الألف في الخط في كتابة " اللاه " اسم الفاعل بمعنى اللاهي من اللهو، فلا يتم التعليل. فما تخيله الفخر (13)، غير مرضي. كما أن تخيله أن الهمزة من أقصى الحلق والهاء من أقصى الحلق، إشارة إلى سير العبد من قوس النزول إلى منتهى إليه القوس الصعودي (14)، في غير محله، لأنها ليست من أقصى الحلق، فلا ينبغي له التدخل فيما ليس أهلا له حتى لا يقع فيما لا يناسبه.

المسألة الثالثة: في مد الباء قد مضى في أحاديثنا عن " الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام) في حديث: " ولا تمد الباء حتى ترفع السين " (15)، وحكي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لكاتبه: " طول الباء، وأظهر السينات، ودور الميم " (16)، وعن بعض آخر: " إنما طولت الباء عوضا عن حذف الهمزة " (17). ولعل معنى الحديث الشريف يكون ذلك، أي لا يجوز مد الباء وقت رفع السين، واشرب في كلمة " حتى " معنى الزمان، أي يكتب هكذا " بسم " فإن رفع السين إظهاره بالتضريس، أو يكتب هكذا " بسم " فإنه يعد المد سينا غير مضرس، وأما المد والتضريس فلا يجوز، للزوم تكرار السين، وهو هكذا " بسم "، خلافا لما يظهر من ابن عبد العزيز، حيث أمر على خلاف ذلك وقال: " طول الباء، وأظهر السين وضرسها " غافلا عن الإشكال المذكور فهو لأئمتنا (عليهم السلام)، فجئني بمثلهم. إن قلت: لا يتعارف في الخط العربي سين غير مضرس. قلت: ربما يكون هذا شاهدا على تعارفه في بعض أنواع الخطوط من الثلث أو الرقاع. فلو سلمنا ذلك يصير المعنى: إن المد غير جائز قبل التضريس. نعم بعد التضريس يجوز هكذا " بسم ". والله العالم.


1- هود ( 11 ) : 41.

2- الحاقة ( 69 ) : 52.

3- الواقعة ( 56 ) : 74 و 96.

4- الرحمن ( 55 ) : 31.

5- النور ( 24 ) : 31 " وتوبوا إلى الله جميعا ايه المؤمنون لعلكم تفلحون " . الزخرف ( 43 ) : 49 " وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا . . . ".

6- طه ( 20 ) : 94.

7- تفسير التبيان 1 : 25.

8- الجامع لأحكام القرآن 1 : 99.

9- التفسير الكبير 1 : 106.

10- هود ( 11 ) : 41.

11- الكهف ( 18 ) : 38.

12- راجع البحر المحيط 1 : 15.

13- التفسير الكبير 1 : 107.

14- نفس المصدر.

15- الكافي 2 : 494 / 2.

16- انظر التفسير الكبير 1 : 106 ، والكشاف 1 : 5 ، وروح المعاني 1 : 51.

17- انظر التفسير الكبير 1 : 105 ، وروح المعاني 1 : 51.