اللغة والصرف

المبحث الثالث: حول ما يتعلق بالكلمات والجمل الناقصة وهنا يقع الكلام في نواح شتى:

الناحية الأولى: في ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: مبدأ اشتقاق " اسم " " اسم " على وزن " افع "، والذاهب منه الواو، وهو بكسر همزة الوصل وضمها، والسم والسمى بتثليث السين مأخوذ من السمو عند البصريين (1). وقال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من " سموت السمو "، ومن كسر أخذه من " سميت السمى ". ويقال: سم وسم، وفي الشعر: والله أسماك سما مباركا * آثرك الله به إيثاركا (2) وقد أنحاها بعض إلى ثمانية عشر لغة، ونظمها وقال: للإسم عشر لغات مع ثمانية * بنقل جدي شيخ الناس أكملها سم سمات سمى واسم وزد سمة * كذا سماء بتثليث لأولها (3) واختلفوا - بعد ما اتفقوا على أنه من السمو بمعنى العلو والرفعة والارتفاع - في وجه الإطلاق والاستعمال. فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل: لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل: لأنه علا بقوته على الفعل والحرف، فلذلك سمي بالاسم لقوته عليهما في الكلام. ويشهد لذلك: أن تصغيره سمي، وجمعه الأسماء، والنسبة إليه اسمي وسموي، وعند التعدية والتحول في الأبواب الأخر سميت وأسميت... وهكذا، والجمع والنسبة والتصغير يردن الأشياء إلى أصولها (4). وقد يستعمل بقطع الهمزة في الشعر وهو جائز في غيره قضاء لحق الضرورة. وما ورد في اللغة - كما في " الأقرب " - اسم الشئ علامته، وناقلا إياه في مادة السمو (5)، إما اشتباه، أو لغة خاصة، أو يكون تأييدا للمذهب الآتي. وقد يجمع الأسماء على أسام، وهو خلط، بل اسم يجمع على جموع كثيرة أسام وأسماوات وأسامي بالتخفيف والتشديد. وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة، وهي العلامة، فأصله " وسم " (6). والأول يناسب الاشتقاقات اللغوية، والثاني يناسب معناه، فإن اسم الشئ علامته حتى قيل: إن الوضع هي العلامة (7). ويشهد لذلك ما عن " المعاني " و " العيون " عن الرضا (عليه السلام) عن ﴿بِسْمِ اللّهِ﴾... أي أسم على نفسي سمة من سمات الله - عز وجل -، وهي العبادة. قال: قلت: ما السمة؟قال: هي العلامة " (8). وحيث إن المحرز في علم الأصول أن علم الصرف لا يكون من العلوم الواقعية، بل هو نوع من الذوقيات النفسانية والاستحسانات المحافلية، لا يعتمد عليه في الأصول والفروع، فإن أهل البادية يستعملون، وأهل القرى يفسرون، ويتخذون المسالك والسبل بالتخيلات الباردة. فعلى هذا لا يكون الاسم مشتقا من السمو، ولا من الوسم، بل هو لغة خاصة استعملت بمعنى العلامة، كما عرفت من " أقرب الموارد " أيضا آنفا. ومما يشهد للمختار إطلاق الاسم على ما يقابل الفعل والحرف تارة، وعلى الأعم أخرى، وذلك في قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ (9) وفي قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم﴾ (10). وأيضا تارة يطلق على ما يقابل اللقب والكنية، وأخرى على الأعم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ﴾ (11). فتأمل.

المسألة الثانية: معنى " اسم " إن الاسم يطلق على الألفاظ الموضوعة، ويحمل عليها، ويقال: زيد اسم، والشجر اسم، والكتاب اسم، ويطلق على الذات والأعيان الخارجية، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ (12)، وإذا كان هي الكلمة، وكانت الكلمة تنقسم إلى الاسم والفعل والحرف، فلا محالة يطلق عليه الاسم دون الفعل والحرف، فعيسى كلمة الله واسم، وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ﴾ (13)، فإن المعروض على الملائكة هي المسميات بالضرورة، فلابد وأن يستعمل الاسم في المعنى الأعم من الألفاظ الموضوعة ومن المسميات، فما هو معنى الاسم أمر جامع بين تلك الألفاظ والمسميات. فما في بعض كتب تفسير أهل العصر من أن قول بعض الباحثين في الفلسفة: إن الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين، وهي عندهم أسماء مترادفة، ليس من اللغة في شئ، ولا هو من الفلسفة النافعة، بل من الفلسفة الضارة، وإن قال الآلوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهيلي: " وهما ممن يعض عليه بالنواجذ ". قال: بل لا ينبغي أن يذكر هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بني عليه من السفسطة في إثبات قول القائلين: إن الاسم عين المسمى، وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة (14).

. ناش عن قلة الباع وعدم الاطلاع، لأن الاسم يطلق باعتبارات:

الأول: اعتبار كونه اسما ومرآة للمسمى، وبهذا الاعتبار لا يكون له نفسية، ولا وجود مغاير للمسمى، بل يكون وجوده دقيقة من وجوده، ونفسيته نفسية المسمى، ولذلك لا يكون الحكم في الكلام إلا على المسمى، ولا يكون النظر إلا إلى المسمى، فإن قولك: " جاء زيد " لا يكون النظر فيه ولا الحكم إلا على المسمى.

والثاني: اعتبار كونه موجودا مغايرا للمسمى، منظورا إليه ومحكوما عليه، وبهذا الاعتبار يكون كالمسمى أمرا موجودا مستقلا محكوما عليه مغايرا له، وبهذا الاعتبار يعد الاسم مسمى، وله أسماء كثيرة، مثل قولك: زيد لفظ مركب من ثلاثة أحرف، واسم وكلمة وموضوع ودال، ولا يكون - وقتئذ - مرآة وحاكيا وفانيا، ولا دالا على شئ آخر.

والثالث: على العين الخارجية والأعيان والذوات الآفاقية. وهذا الاعتبار في طول الاعتبار الأول بالقياس إلى المبدأ الأعلى، وهذا هو المراد من اتحاد الاسم والمسمى، لا أن الاسم في اعتبار واحد عين المسمى. بل الاسم بالمعنى المتبادر منه أولا هي الألفاظ بما لها من المعاني، وتلك الألفاظ - أيضا - من الأمور التكوينية، ومن الأعيان النفس الأمرية غير القارة، وبالمعنى المتباعد عنه الأذهان العامية ثانيا هي الوجودات والآيات، فلفظة " الاسم " موضوع للمعنى الأعم بالاشتراك المعنوي، لا اللفظي حتى يتوهم الاستخدام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ﴾ (15)، بل المستعمل فيه هنا الأمر الجامع، ولكنه يراد منها في الابتداء - لقرينة ضمير " كلها " - الألفاظ بما لها من المعاني والأعيان العلمية، وفي الجملة الثانية طائفة أخرى من الموضوع له، لقرينة ضمير " عرضهم " الذي هو لذوات العقول والأعيان الخارجية والعينية، وسيأتي زيادة توضيح في بحث كيفية إضافة الاسم إلى كلمة " الله " إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة: عينية الاسم والمسمى اعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟فذهب أكثر الأشاعرة إلى الأول (16)، والإمامية والمعتزلة إلى الثاني (17). وقد وردت في أحاديثنا ما ينفي القول بالعينية (18). وتفصيل هذا البحث في سورة البقرة. والذي يجب التنبيه عليه: هو أن من يريد إثبات العينية لا يريد إثبات اتحاد المعنى الحادث المسموع، واتحاد الكيف السمعي مع القديم الذاتي الأزلي، بل هو يريد - على ما في " شرح المقاصد " - أمرا آخر (19)، فراجع وتدبر. وللقول بالعينية تفسير آخر خارج عن أفكار المتكلمين - فضلا عن الأشاعرة - وهو مبتن على أن المعلول ربط إلى العلة، والموجودات الكثيرة بالكثرة التخيلية روابط محضة ليست ذواتا حذاء الذات الأحدية المطلقة، بل هي شأن الباري - عز اسمه - فلا بينونة بينهما بينونة عزلة، حتى لا يتصور فيه نحو من الاتحاد الغير المنجر إلى الإلحاد، فإذا كانت الحقائق الوجودية مرائي صفاته تعالى - التي هي عين ذاته تعالى - فهي محكومة بالاتحاد نحوا من الاتحاد الخارج عن أفهام أهل العلم والسوق، ولذلك نفي في المآثير مثل ذلك.

تذنيب

يكفيك في ترخيص إطلاق الاسم على الذوات والأعيان - مضافا إلى ما أصفيناكم بالبرهان والوجدان - ما ورد عن أهل بيت الوحي والقرآن في " الكافي " عن ابن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (20) قال: " نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا " (21)، فكما أن الاسم يدل على المسمى ويكون علامة له، كذلك هم (عليهم السلام) أدلاء على الله وأسمائه، ولذلك نفي العينية بين الأسماء والذات فالألفاظ أسماء الأسماء أو إن شئت قلت: الألفاظ الموضوعة أسماء أسماء الأسماء، ومسميات تلك الألفاظ أسماء الأسماء، وهم (عليهم السلام) أسماء الله ومسميات لسائر الموجودات.

المسألة الرابعة: حول محتملات كلمة " الله " من حيث الاشتقاق:

القول الأول: " الله " غير مشتق عند الأكثرين.

القول الثاني: إنه مشتق ومادته لاه يليه: ارتفع، ولذلك سميت الشمس إلاهة بكسر الهمزة وفتحها.

القول الثالث: إن مادته لاه يلوه: احتجب واستتر.

القول الرابع: إن مادته أله: فزع، قاله ابن إسحاق، أو أله: تحير، قاله أبو عمر، وآله: عبد، قاله النضر، أو أله سكن قاله المبرد. وقيل على هذه الأقاويل حذفت الهمزة اعتباطا، كما في كلمة " ناس "، فإن أصله أناس، أو حذفت للنقل ولزم مع الإدغام، وقيل: هذان القولان شاذان.

القول الخامس: إن مادته وله - أي طرب - وأبدلت الهمزة فيه من الواو نحو أشاح، قاله الخليل والقناد، وهو بعيد وضعيف.

القول السادس: إن أصله " لاها " بالسريانية، فعرب. قال الشاعر: كحلفة من أبي رياح * يسمعها لاهه الكبار (22) قال أبو يزيد البلخي وهو أعجمي، فإن اليهود والنصارى يقولون: لاها، وأخذت العرب هذه اللفظة وغيرتها فقالوا: الله (23). فما ترى في بعض كتب التفسير - ك? " التبيان " ومن يحذو حذوه - من التمسك بالشعر المزبور في غير المورد المذكور (24)، لا يخلو عن تأسف. وحيث إن أدنى المناسبة كافية في العلمية يشكل تعيين إحدى محتملات المسألة، وقد بلغت الآراء إلى حد يشكل الإحصاء.

ومنها وهو القول السابع: أن أصله الهاء - أي الضمير الغائب - كناية عن عدم إمكان اعتبار الاسم لجنابه تعالى في الظاهر، فأثبتوه في نظر عقولهم، فأشاروا إليه بحرف الكناية، ثم زيدت فيه لام الملك، إذ قد علموا أنه مالك الأشياء، فصار " له "، ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما (25). وحيث إن هذه الكلمة الشريفة تنفرد بأحكام ذكرت في علم النحو، وهي متخالفة مع القواعد المحررة، تحيرت فيه العقول، إيماء إلى أن العقول القدسية إذا تحيرت في ما هو وجوده اللفظي، فكيف التحير في وجوده العيني. وما هو الأقرب إلى الاعتبار ما قد عرفت منا في كلمة " الاسم " من أنه ليس مشتقا بالاشتقاق الصغير حتى يتفحص عن مادته، لأن الاشتقاقات الصحيحة ما كانت هيئتها موضوعة بوضع على حدة وضعا نوعيا، والمواد أيضا موضوعة على حدة بالوضع النوعي. وهذه الكلمة ليست هيئتها موضوعة على حذاء وضع المادة، بل وضعها شخصي، فالفحص عن الأصل في الاشتقاقات الكبيرة غلط، وغير راجع إلى محصل. ولا منع من دعوى: أن الابتداء في الاستعمال كان أحد الوجوه المزبورة، ثم صارت بالتحول هكذا. مثلا ما رواه سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه مثل فعال، فأدخلت الألف والام بدلا عن الهمزة (26)، قريب فلابد من كونه في الأصل اسما يطلق عليه تعالى بعنوان جنسي وبمفهوم كلي، ثم صار علما شخصيا مثلا.

ومن المشكلات وأحكامه الخاصة: أن قضية القواعد الأدبية جواز دخول التنوين عليه بعدما صار علما، وإذا كانت الألف واللام زائدة فلابد من حذفها عند دخول حرف النداء عليه، فإن حروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام، ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ويا الرحيم، ولذلك قال جماعة - ومنهم الشافعي وأبو المبالي والخطابي والغزالي والمفضل - بأن الألف واللام داخلة في بنية الاسم (27)، غافلين عن أن مقتضى ذلك دخول التنوين عليه، وهو ممتنع. فهمزة الله إن كان وصلا فلابد من حذفها في النداء، وإن كان قطعا فلابد وأن لا ينحذف في قولك " قال الله تعالى " وأن يدخل عليه التنوين أيضا، فكأنه جمع بين حكم الأصل والفرع. كما في جملة تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحب كريمتاه لم يكتب بعد العصر "، فإن اللازم أن يقال: " كريمتيه " جرا، فإذا قيل: إن كلمة " كريمتان " موضوعة بالوضع الشخصي، كما في " الأجدان والجديدان " بالنسبة إلى الليل والنهار، فلابد من انحفاظ النون لدى الإضافة إلى الضمير، ولا يعامل معها معاملة إضافة التثنية بحذف نونها، فكأنه جمع بين حكم المبدأ والمنتهى، لأن مبدأ الخلائق ومنتهاها محفوظ الوجود في ذاته، الذي هي كل الكمالات على نعت البساطة والإجمال في عين الكشف والتفصيل. ولعمري إنه يناسب إفراد رسالة في خصوصيات هذه الكلمة، كما ستقف عليه، ولكن خوف الإطالة يمنع عن الغور فيها، ويكفينا بعد ذلك ما رواه " الكافي " بسند معتبر عن هشام بن الحكم: أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها. " الله " مما هو مشتق؟فقال: " يا هشام " الله " مشتق من " أله " وآله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى " (28) الحديث، وعليه دخلت عليها الألف واللام وهي للغلبة، إذ " إلاه " يطلق على المعبود بحق أو باطل، و " الله " لا يطلق إلا على المعبود بحق، فصار كالنجم للثريا. وربما يظهر من مضعف الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): أنه مشتق من " ولى " قال: سئل عن معنى " الله " فقال: " استولى على ما دق وجل " (29)، فكأنه أريد إثبات أن هذا الحكم من آثار كونه الله، فيكون اللفظ مشتقا من الاستيلاء بالتصحيف وقد حكى عن " القاموس ": أن الأقوال في مبدأ اشتقاقه عشرون (30)، وعن " الجالوس ": أنه بالغ إلى ثلاثين (31) والله هو العالم.

المسألة الخامسة: حول الموضوع له لكلمة " الله " الشريفة إنه هل يكون موضوعا له تعالى بالوضع الخاص والموضوع له الخاص، فهو علم، لا كأعلام الأشخاص، فإنها - على ما تقرر منا في الأصول - ليست موضوعاتها خاصة، بل الموضوع له فيها كلي منحصر بالفرد (32) وإلا يلزم كون قضية " زيد موجود " قضية ضرورية مع أنها ممكنة، وقضية " زيد معدوم " غلطا ومجازا، ويلزم عدم صحة قولك " زيد إما موجود أو معدوم ". فهذا اللفظ الشريف موضوع للذات الأحدية الجمعية الخارجية، حتى تكون القضية التي موضوعها " الله " قضية ضرورية ذاتية أزلية، على ما تقرر في الكتب العقلية. أم هو كأعلام الأشخاص موضوع للكلي المنحصر بالفرد، وهو الواجب بالذات بالوضع التعيني بكثرة الاستعمال، أو الذات المستجمعة لكافة الصفات الكمالية والجمالية والجلالية، كما يظهر من بعض. وهذا نوع بديع من أقسام الموضوع له، وليس من أنواعها المعروفة، وقد تعرضنا في الأصول إلى أن أقسام الوضع والموضوع له تبلغ عشرين، وليست منحصرة بالثلاثة أو الأربعة. وهنا احتمال ثالث وهو أنه موضوع لتلك الحقيقة الخارجية بما لها من الكمالات النفس الأمرية والصفات الجمالية والجلالية، بحيث لو فرض خلو الذات عنها لما كانت هي موضوعة لها. ربما يؤيد الأول: التبادر، وأن كلمة " الله " لا تقع وصفا لموصوف، وأن كلمة الإخلاص كلمة توحيد، فتدل على الذات الخارجية وأن حكمة الوضع تقتضي جعل الوضع للذات المقدسة، وإلا يلزم خلوها عن لفظ يخصه. ولا يخفى ما فيه من الفساد والضعف، فإن الموضوع إذا كان عنوانا لا ينطبق إلا على المصداق الواحد - وهو الواجب الوجود - فكل واحد من هذه اللوازم المزبورة يحصل، ولذلك إذا قيل: ليس في الدار غير زيد، فقد شهد بأن زيدا وحده في الدار، مع أنه موضوع لمعنى كلي، كما عرفت منا. وهكذا سائر ما أفاده بعض المشتغلين بتحصيل التفسير (33). مع ما قيل بأن كلمة " الله " وقعت صفة في قوله تعالى: ﴿العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض﴾ (34). وغير خفي: أن كلمة الإخلاص توحيد إذا قصد المتكلم من المستثنى اللفظة الشريفة فانية في معناها، فيكون قاصد المعنى، وإلا فلو استثنى اللفظ فلا يكون توحيدا. وإذا كان مع قصد المعنى توحيدا، فلا منع من كونها موضوعة للذات الواجب الوجود مع اعتقاده وحدة المصداق، فما أفاده الفخر في المقام كله خال عن التحصيل (35). وربما يؤيد الثاني: أن الأعراب كانوا يعبدون غير الله، ويشركون في عبادته تعالى، مع اعتقادهم بالتوحيد الذاتي والصفاتي، فإذا ورد: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " فهو يشهد على أن " الله " قد استثني من مفهوم الإله، فيكون الاستثناء متصلا لا منقطعا. وهذا دليل على أن في مفهوم كلمة " الله " اخذت فيه العبودية، لعدم سبق عبادتهم لذاته تعالى قبل الإسلام، فيعلم منه أن الموضوع له كلي لا ينطبق إلا عليه تعالى. مع أنه لو فرضنا وجودا يماثل وجوده تعالى صفة وخصوصية، يصح أن يطلق عليه كلمة " الله ". ومع أن من يقول في تخيله الباطل: " الله معدوم " لا يكون غالطا في الكلام ومجازا في الإسناد، بل تكون قضية كاذبة، كما إذا قال: زيد معدوم، مع أنه موجود، فإنه قضية كاذبة، لا قضية غلط أو مجاز. ومع أن إسراء الوضع إلى الحقيقة المجهولة من جميع الجهات - بحيث يكون هو الموضوع له - غير ممكن، أو يحتاج إلى مؤونة زائدة ولحاظ خاص، وإلا فالوضع نوعا يحصل من كثرة الاستعمالات، والاستعمالات الرائجة تكون في المعاني الكلية، لأن الأغراض تتعلق بها. ولكن - بعد اللتيا والتي - إن الأعلام الشخصية تثنى وتجمع ويتسم بها غير واحد، والألفاظ الموضوعة للواحد الذي لا مصداق كثير لها تجمع كالأرض والشمس باعتبار القطعات مثلا، وكلمة " الله " لها خصوصية أخرى غير سائر الخصوصيات، وهي أنها موضوعة لما لا يقبل التكرر والتعدد، ولا يتسم بها غيره تعالى وتقدس. والذي هو المهم من الأدلة في المسألة: أن مفهوم الموجودية لا يؤخذ من مفهوم كلمة " الله "، ولو كانت هي العلم لحقيقة الوجود التي هي نفس الخارجية، كان ينبغي أن يتبادر منه ذلك، فيكون مرادفا له، كما يكون عين تلك الحقيقة. وهذا البرهان خارج عن أفق اللغة، والأولى دعوى التحير في مسمى هذه اللفظة الشريفة، كما تحيرت العقول في جميع خصوصياتها الاسمية والمسمائية. وربما يستشم من قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾ (36) أن الموضوع كلمة " هو " بما لها من المرجع، وهو الذات الأحدية، والمحمول كلمة " الله "، ولا يناسب حمل الاسم الشخصي على المسمى، فيعلم منه أن مفاد كلمة " الله " معنى كلي لا يكون له إلا مصداق واحد، وأرادت الآية الشريفة إثبات أن مصداق الواجب بالذات والذات المستجمعة للكمالات والصفات هو، لا غيره. كما يستشم من قوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ (37) أن الآية في مقام نفي الاشتراك في الاسم، وهذا لا يصح إلا بالنسبة إلى كلمة " الله "، وإلا فسائر الأسماء يطلق على غير الله تعالى، حتى كان مسيلمة الكذاب اسمه رحمان اليمامة. وأما إرادة نفي المشاركة في الكمالات والصفات - لا في الأسماء - وإن كان بحسب المعنى أنسب، إلا أنه أشبه بقوله تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ (38)، ولم تستعمل هذه اللفظة إلا في هاتين الآيتين. والله العالم. وفي " تفسير الصافي " رواية تدل على أن المراد من السمي، هو المشارك في الاسم (39). ومما يؤيد أن الموضوع له كلي لا ينطبق إلا على واحد: قوله تعالى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ (40)، بناء على كون الغير وصفا لا حرف الاستثناء، وقوله تعالى: ﴿مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (41)، بناء على رجوع الضمير إلى لفظة " إله ". والالتزام بأن في لفظة الله ليست إلا لمعنى واحد، وهو يقع وصفا، ولا يأتي لسائر المعاني المذكورة في الكتب الأدبية، قريب، وسيمر عليك تحقيقه. وغير خفي: أن ما اشتهر من أن كلمة " الله " موضوعة للذات المستجمعة لجميع الصفات والكمالات، يناقض ما اشتهر عنهم أيضا من أنها كلمة صارت علما بالغلبة، ومأخوذة من أحد المشتقات السابقة، ضرورة أن معنى ذلك اختصاص اللفظة بالذات الموصوفة بتلك الصفة التي هي مبدأ اشتقاقها. وهذا يؤيد: أن كلمة " الله " كانت قبل الإسلام موضوعة لتلك الذات ولمن خلق الأرض والسماوات، المنعوت بنعوت الربوبية، والموصوف المنفرد بالوجود الواجبي الحقيقي. ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (42) وأمثال هذه الآية كثيرة، وهكذا في سورة الأنعام: ﴿فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا﴾ (43). أو يؤيد مقالة ابن العربي محيي الدين: " إنها اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها لصفات، ولا باعتبار لا اتصافها " (44).

وفي مسلك آخر (45) يشرح هذا المعنى: أنها علم للذات بعنوان مقام ظهوره الذي هو فعله ومشيته، فإن الذات غيب مطلق لا اسم له ولا رسم له، وإن الصفات ليست له إلا باعتبار ظهوره ومشيته، ولمشيته اعتباران: اعتبار وجهها إلى مقام الغيب، واعتبار وجهها إلى مقام الخلق، وتسمى بالاعتبار الأول " عرشا "، وبالاعتبار الثاني " كرسيا "، وبهذين العنوانين يسمى الحق الأول بالله وبالرفيع والعلي، وتوصف بالرفعة، وهو رفيع الدرجات ذو العرش، وباعتبار هذين العنوانين قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (46) وقال: ﴿وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم﴾ (47).


1- راجع البحر المحيط 1 : 14 ، وروح المعاني 1 : 49.

2- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 100 ، ولسان العرب 14 : 401.

3- انظر روح المعاني 1 : 49.

4- راجع الجامع لأحكام القرآن 1 : 101.

5- أقرب الموارد 1 : 546.

6- انظر البحر المحيط 1 : 14 ، تاج العروس 10 : 183 ، روح المعاني 1 : 49.

7- نهاية الدراية 1 : 44 - 48 ، مناهج الوصول 1 : 57.

8- معاني الأخبار : 3 / 1 باب آخر في معنى بسم الله ، انظر عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 203 / 19.

9- البقرة ( 2 ) : 31.

10- النجم ( 53 ) : 23.

11- الحجرات ( 49 ) : 11.

12- آل عمران ( 3 ) : 45.

13- البقرة ( 2 ) : 31.

14- تفسير المنار 1 : 40 - 41.

15- البقرة ( 2 ) : 31.

16- انظر التفسير الكبير 1 : 108 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 101 - 102 ، شرح المقاصد 4 : 337 ، شرح المواقف 8 : 207 - 208.

17- انظر شرح المواقف 8 : 208.

18- انظر الكافي 1 : 88 / 4 ، والتوحيد : 58 / 16 و 142 / 7 و 192 / 6 و 220 / 13 و 417 / 1.

19- شرح المقاصد 4 : 337.

20- الأعراف ( 7 ) : 180.

21- انظر الكافي 1 : 111 / 4.

22- البيت للأعشى ، انظر مجمع البيان 1 : 19.

23- انظر البحر المحيط 1 : 14 - 15.

24- تفسير التبيان 1 : 27 ، وراجع أنوار التنزيل وأسرار لتأويل 1 : 6 ، ومجمع البيان 1 : 19.

25- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 103 ، وروح المعاني 1 : 53.

26- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 102.

27- انظر الجامع لأحكام القرآن 1 : 103 ، والبحر المحيط 1 : 15.

28- الكافي 1 : 89 / 2.

29- الكافي 1 : 89 / 3 ، التوحيد 230 / 4 ، معاني الأخبار 4 / 1.

30- راجع القاموس المحيط 1 : 1603.

31- انظر تاج العروس 9 : 374.

32- راجع تحريرات في الأصول 1 : 74.

33- انظر التفسير الكبير 1 : 157 ، وروح المعاني 1 : 54 ، والأحسن جعل هذه العبارة بعد ما يأتي : " خال عن التحصيل ".

34- إبراهيم ( 14 ) : 2.

35- التفسير الكبير 1 : 156.

36- الأنعام ( 6 ) : 3.

37- مريم ( 19 ) : 65.

38- مريم ( 19 ) : 7.

39- تفسير الصافي 3 : 288 ، ذيل سورة مريم ( 19 ) : 65 ، انظر التوحيد : 264 / 5.

40- فاطر ( 35 ) : 3.

41- هود ( 11 ) : 50 و 61 و 84.

42- الزخرف ( 43 ) : 87.

43- الأنعام ( 6 ) : 136.

44- تفسير القرآن الكريم ، المنسوب إلى محيي الدين ابن العربي 1 : 7.

45- تفسير بيان السعادة 1 : 27 - 28.

46- طه ( 20 ) : 5.

47- البقرة ( 2 ) : 255.