أحاديث يستدل بها على أنها ليست منها

أما من طريقنا فلم نجد إلا ما رواه العياشي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا جابر، ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟فقال جابر: بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها. قال: فعلمه الحمد لله أم الكتاب " (1) الحديث. فإنه ظاهر في أن الفاتحة تبتدأ من التحميد. ومثله ما رواه محمد بن سنان فيه عن الكاظم، عن أبيه، أنه قال لأبي حنيفة: " ما سورة أولها تحميد، وأوسطها إخلاص، وآخرها دعاء؟" فبقي متحيرا، ثم قال: لا أدري. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " سورة الحمد " (2). وأما من طرق أهل السنة فقال القرطبي: " والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها، دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، إلا في النمل وحدها " (3)، فأخرج بعد ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة، وما رواه أبو داود عن الصحابة: فالأول: حديث قسمة الفاتحة، وأنت خبير بقصور دلالته، لأن تمام الفاتحة بالبسملة، فالتقسيم الوارد على الفاتحة لا يرد عليها، مع أن عدم ورود القسمة عليها لا يدل على أنها ليست منها، واشتماله على أن آيات الفاتحة السبعة باعتبار انقسام الأخيرة إلى آيتين، من موضوعات الحديث. والثاني: حديث الصلاة خلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الثلاثة، وقد مر أنه أيضا لا يدل على عدم جزئيتها للفاتحة، لأن عدم وجوب قراءتها يجتمع مع كونها جزءا منها. وما أخرجه الجريري عن الحسن: " لم تنزل ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في شئ من القرآن إلا في طس " (4) يدل على أنها ليست من الكتاب فيكون من أدلة البحث السابق، وقد مر ما يتعلق به. فبالجملة: يصح أن يدعى: أن أحسن أدلة نفي الجزئية هو الحديث الأول، وهو ينتهي إلى أبي هريرة الذي قالوا في حقه: إن عمر شهد عليه بأنه عدو الله وعدو المسلمين، وحكم عليه بالخيانة، وأوجب عليه عشرة آلاف دينار ألزمه بها بعد ولاية البحرين (5). وهل على مثله يسكن ويركن ؟! وأما ما اشتهر بينهم من: أن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري، ولا يثبت بالنظر والاستدلال، فهو لا يناقض مسألتنا هذه، وهي جزئية البسملة للفاتحة، فالاستدلال المزبور ساقط جدا. ومثله الاستدلال بسيرة المسلمين على جزئيتها لها، لأنهم كانوا يقرؤونها في أوائل السور في مرأى ومسمع من الرسول الأعظم، فكان عليه التذكير بذلك، لأن في تركه القبح، فيستنتج من ذلك أنها من القرآن، مع أن المستدل استدل بها للجزئية، ولكن رجع في دليله على أمر آخر، فتدبر جيدا. وبعدما أحطت خبرا بما أسلفنا، فلا حاجة إلى تضعيف سند الروايتين من طريقنا، أو المناقشة في دلالتهما، بعد قوة دليل الجزئية إلى حد لا يقاومها مثل ذلك. نعم أخرج المستدرك عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب (عليه السلام): لم لم تكتب في براءة ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؟قال: " لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان " (6). وهذا يشعر بأنها ليست منها، ولكن كان رأيهم على كتابتها في مبدأ السور، وظاهره أنها ليست من القرآن، وكانوا يكتبونها كما تكتب في أول المكاتيب، وهو غير قابل للتصديق.

تنبيه

ربما يوهم أنها ليست من السور مطلقا، وذلك لعدم معهودية عدها من آيات السور في القرآن الموجود بين أيدي المسلمين كافة، ويشرعون في تعداد الآيات من بعدها، ويأخذون في ذكر الأرقام في القرآن المرسوم فيه الأرقام أيضا بعد البسملة، فيعلم منه أنه كان من الأول يعتقدون أنها ليست من السورة، وإلا لحسبوها منها (7). وفيه: أنه تأييد، ولا دلالة فيه بعد ما مر من الأدلة على أنها منها. ومما يشهد على ما احتملناه: أن في القرآن أغلاطا إملائية ربما تبلغ أكثر من مائة، وما ذلك إلا لبنائهم على التحفظ على ما صنعه الأولون وهم جاهلون، ولا عبرة بما صنعوا.

الحكم الثالث: هل هي من سائر السور؟الظاهر ثبوت الملازمة بين المسألة السابقة وهذه المسألة قولا، فإن من اعتبرها جزء الفاتحة أطلق بالنسبة إلى غيرها، ومن منع جزئيتها بالنسبة إليها أيضا أطلق المنع. نعم في خصوص الفرض الأول حكي عن ابن الجنيد التفصيل بينها وبين سائر السور، وعن المخالفين (8) أحمد وحمزة من قراء الكوفة، بل قيل عن الشافعي: إنه تردد في هذه المسألة وأتى بالقولين المخالفين. وأما في الفرض الثاني فلا يوجد من فصل فيه، فيقول بجزئيتها في سائر السور دون الفاتحة. وقد استدل بروايات وأحاديث، أهمها سندا ودلالة ما رواه الصدوق بإسناده عن جماعة - ومنهم عمر بن أذينة - عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث طويل معراجية - وفيه: " فلما بلغ ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): والحمد لله رب العالمين شكرا، فقال العزيز الجبار: قطعت ذكري فسم باسمي، فمن أجل ذلك جعل ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بعد الحمد في استقبال السورة الأخرى، فقال له: اقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾... " (9) الحديث. فما هو الحجر الأساسي هو الاتفاق المحكي والإجماعات الكثيرة عن العامة والخاصة. ومن أحاديث العامة ما يدل على أنها ليست من سائر السور، بناء على ثبوت الإجماع المركب على أنها إذا لم تكن من بعض منها فليست من الاخريات: " مستدرك الحاكم " (10) و " صحيح الترمذي " في باب ما جاء في فضل سورة الملك، و " كنز العمال " في فضائل السور والآيات، أخرجا عن أبي هريرة: " أن سورة الملك ثلاثون آية " (11)، فلو كانت هي منها لزادت عليها بآية. وفي رواية أخرى عنه: " أن سورة الكوثر ثلاث آيات ". ولكنها معارضة بما أخرجه مسلم عن أنس، قال: " بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟قال: " نزلت علي آنفا سورة، فقرأ: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر...﴾ (12) " (13) الحديث. وأما الرواية الأولى فهي هكذا: قال أبو هريرة: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة، وأدخلته الجنة، وهي سورة تبارك ". أخرجها الترمذي، وقال: " هو حديث حسن " (14).

. ويكفي في كذبه - كما هو دأبه - أن سورة الفجر وسورة السجدة - أيضا - ثلاثون آية، فراجع. ثم إن في أحاديثنا ما يظهر منه عدم وجوب البسملة مع السورة، وهي مذكورة في الباب الثاني عشر من أبواب القراءة من " الوسائل " (15)، ولكنها لا تدل على عدم الجزئية، لأن عدم الوجوب أعم من ذلك، مع أنها عندنا محمولة على التقية، وهي تستلزم اشتهار فتوى العامة على عدم الوجوب في الصلاة، وهو - أيضا - لا يدل على عدم الجزئية عندهم. وما يدل من رواياتنا على الوجوب (16) فهو - أيضا - أعم من الجزئية، مع أن في دلالتها على الوجوب إشكالا، لاحتمال كون النظر إلى الترخيص بالإتيان، لما كان ذلك ممنوعا - على الكراهة - عند مالك وبعض آخر. إن قلت: إذا لم يكن واجبا فهو يلازم عدم الجزئية، وهكذا في عكسه، لأن اعتبار الجزئية متقوم بوجوب القراءة مع السورة وعدمه. قلت: كلا، فإن للجزئية آثارا اخر غير ذلك:

1 - إذا كانت جزء التوحيد والحمد فلا يجوز عندنا العدول بعدما قرأها.

2 - إذا كانت من السورة فتعد آية منها، فلا يجوز العدول إذا بلغ إلى النصف باعتبارها في سائر السور.

3 - إذا كانت آية منها فلابد - على المعروف بين أصحابنا - من قصدها مع تلك السورة، أي قصد بسملة السورة الخاصة، وإلا فيجوز بلا قصد.

4 - إذا كانت منها يجوز الركوع بعدها في صلاة الآيات.

5 - إذا كانت منها فلا يشرع للجنب قراءتها عن سور العزائم، وهكذا تعد من السبع المكروه على الجنب قراءة الأكثر منها... وغير ذلك. وبالجملة: فذلكة البحث أن هذه المسألة من أمهات المسائل الفقهية، حتى أفرد فيها الرسائل جمع، وقد بلغت الأقوال - على ما قيل - إلى عشرة (17)، ولكنه خلط بين الأقوال والاحتمالات، والأمر سهل. كما لم يذكر في طيها قول من يرى أنها ليست من القرآن رأسا:

الأول: أنها ليست آية من السور رأسا وأصلا.

الثاني: أنها آية من جميع السور إلا براءة.

الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها.

الرابع: أنها بعض آية منها فقط.

الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا وللفصل بينها.

السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية، لتكرر نزولها بالوصفين.

السابع: أنها بعض من جميع السور.

الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور.

التاسع: عكسه.

العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا، والمحكي عن الشهاب لبيان القول العاشر: أنها آية فذة. ولكنه عين القول الخامس، كما أن القول العاشر قرينة على أن الخامس هو أنها آية واحدة نزلت مرة، وجئ بها في أوائل السور، كما نجئ بها لسائر الأفعال والأقوال.

الحكم الرابع: جواز كتبها في أول كل كتاب يجوز كتبها في أول كل كتاب ولو كان ديوان شعر، وروى مجالد عن الشعبي: قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (18). وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتب في الشعر ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (19). وأول من ذهب إلى كتابته في أول كتب الشعر ودواوينه سعيد بن جبير، وتابعه عليه الآخرون (20). قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره (21). وفي " الكافي " عن الصادق (عليه السلام): " لا تكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لفلان، ولا بأس أن تكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ على ظهر الكتاب " (22).

الحكم الخامس: تعلق البسملة بالسور قد أشرنا في السابق: أن البسملة من كل سورة لا تقع إلا مع قصد تلك السورة، وهذا هو رأي أصحابنا إلا جماعة من المتأخرين، وهو التحقيق عندنا، وتفصيله يطلب من موسوعتنا في الفقه. وقد يقال: إن البسملة من كل سورة متعلقة بتلك السورة، ولها تفسير لا ينطبق إلا على تلك السورة (23). وقد ذكر الأستاذ الوالد المحقق - مد ظله - في بعض تآليفه القيمة (24) عن بعض المشايخ العظام: أن من جملة الكتب التفسيرية ما عمل فيه ذلك، وادعى المفسر في خلال الكتاب أن هذا الضوء من التفسير قد تعلمه من الخضر (عليه السلام)، وهو قال: إنه قد تعلم من علي بن الحسين (عليهما السلام). وقد كنت في سالف الزمان فاحصا عنه حتى وجدت في بعض مكاتب الأصدقاء تفسيرا تصدى صاحبه لذلك، ولكنه ما كان عيانه كسماعه، وهو - على ما ببالي - من علماء أوائل القرن التاسع، وقد طبع.

الحكم السادس: استحباب تجويد كتابة البسملة " أصول الكافي " بسنده عن الصادق (عليه السلام): " اكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ من أجود كتابك، ولا تمد الباء حتى تمد السين " (25). وقضية ذلك استحباب تجويد كتابة البسملة وكراهة مد البسملة، ولا يختص هذا ببسملة الفاتحة، وهكذا بعض ما سبق.

الحكم السابع: استحباب الابتداء بالبسملة ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل كالأكل والشرب والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر وغير ذلك من الأفعال، حتى ورد عن ابن بابويه، عن " التفسير المنسوب إلى الإمام (عليه السلام) " في حديث طويل: " فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير أو عظيم ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " (26)، وفي التفسير المزبور، قال: قال الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: " أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدثني عن الله - عز وجل - أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر " (27)، و " الكافي " مسندا عن الباقر (عليه السلام): " لا تدعها ولو كان بعده شعر " (28). ومن العجيب أن العامة مع قولهم باستحباب ذلك عند كل فعل، تركها في الفريضة بعضهم، كما لك وأصحابه، وفي السورة بعض آخر كأبي حنيفة (29). إن قلت: كيف يجمع بين قوله تعالى: ﴿إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾ (30) وبين عموم هذا الحديث، فإنه يلزم أن يبدأ أولا بالبسملة ثم التعويذ والاستعاذة، مع أن البسملة من القرآن، ولا يخرج من القرآنية بعدم قصدها بعد ما حررناه. قلت: " الكافي " مسندا عن فرات بن أحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال في حديث: " فإذا قرأت: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فلا تبالي ألا تستعيذ " (31) الحديث. وعلى هذا، استحباب التسمية قبل الاستعاذة غير ثابت، لأن الابتداء بقراءتها يستلزم عدم الحاجة إلى الاستعاذة، فيلزم سقوط أمر القرآن، وهو غير جائز.

الحكم الثامن: الجهر بالبسملة قد ثبت في حديث معتبر عن ابن أذينة قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أحق ما اجهر به، وهي الآية التي قال الله - عز وجل -: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (32) " (33). وفي تفسير العياشي عن أبي حمزة، عن جعفر (عليه السلام) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهر ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ويرفع صوته بها، فإذا سمع المشركون ولوا مدبرين، فأنزل الله ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (34) " (35). ومن العجيب ما أفتى به أبو حنيفة من إيجاب الإسرار بها في الجهرية والإخفاتية، وبه قال الثوري، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وعمار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحماد، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وروي ذلك عن الأوزاعي أيضا، وحكاه أبو عمر بن عبد البر في " الاستذكار " (36). ولأجل اشتهار هذه الفتوى قيل: إن الجهر بها في الإخفاتية للمأموم مشكل، لأن المطلقات من أحاديثنا ناظرة إلى رأيهم، فيشكل انعقاد الإطلاق لها بالنسبة إلى الجهرية. وهم قد احتجوا بما رواه أنس (37)، وقد مر: أن رواياته مضطربة في هذه المسألة، فقد احتج من أنكر أنها من القرآن أو الفاتحة أو بعدم وجوبها في الفريضة بروايته، ومن أثبت وجوبها فيها - أيضا - بروايته. وقيل: هذا الرأي هو الجامع بين الآثار وسبب الاتفاق بين الأخبار، ويخرج به عن الخلاف في قراءة البسملة (38). وهو غريب، فإنه كيف يخرج به وقد أفتى رئيسهم - مالك - بكراهة قراءتها (39). ومن العجيب والغريب ما أخرجوه عن سعيد بن جبير، قال: " كان المشركون يحضرون بالمسجد، فإذا قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - وهو مسيلمة الكذاب - فأمر أن يخافت ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ونزل ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ (40) ". وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم (41).

. وهذا الحديث يشهد على أن أنسا ظن أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقرأ وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ، فكيف يصح قول من يدعي استحباب الإسرار، أو إيجاب الإسرار، أو يدعي أنها ليست من الفاتحة إذا كانت الآية الشريفة نازلة في مسألة الإخفات بالبسملة.

الحكم التاسع: فضل البسملة أخرج العياشي عن سليمان الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: " إذا أتى أحدكم أهله فليكن قبل ذلك ملاطفة... " - إلى أن قال -: فقال له رجل في المجلس: فإن قرأ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أو يجزيه؟ فقال: " وأي آية أعظم في كتاب الله؟" فقال: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (42). وأخرج عن خالد بن المختار، قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: " ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها، وهي ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " (43) وقد أخرج " الكافي " مسندا عن الباقر (عليه السلام): " سرقوا أكرم آية من كتاب الله ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وينبغي الإتيان بها عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه " (44). ومن هذه الأحاديث وما يقرب منها (45) الناطقة بأن البسملة أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها، ومن ناظر العين إلى بياضها، مع كثرتها بالطرق المختلفة في " الكافي " و " التهذيب " وغيرهما، يعلم أن البسملة أعظم الآيات وأكرمها. وفيها تعريض بالعامة الذين اعتقدوا أنها لا تقرأ، أو لا تكون من القرآن، أو غير ذلك، كما عرفت تفصيله، ومنها يعلم أن جماعة منهم كانوا ينكرون كونها من كتاب الله، أو كانوا لا يقرؤونها في الصلوات حسب ما وصل إلينا من آرائهم أيضا. بقي شئ وهو: معنى هذه الأحاديث الشريفة، فسيأتي ذيل مباحث تتعلق بكلمة " بسم الله " إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة: فيما ورد من الآثار الناطقة بفضلها وهي تشتمل على خصوصيات اخر نشير إلى جملة منها:

1 - عن " الكافي " مسندا عن الصادق (عليه السلام): " لا تكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ لفلان، ولا بأس أن تكتب على ظهر الكتاب لفلان " (46).

2 - عنه مسندا عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) " احتجبوا من الناس كلهم ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وب? ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ إقرأها عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، ومن فوقك ومن تحتك، فإذا دخلت على سلطان جائر فاقرأها حين تنظر إليه ثلاث مرات، واعقد بيدك اليسرى، ثم لا تفارقها حتى تخرج من عنده " (47).

3 - وعنه عن الصادق (عليه السلام) في حديث: " ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فيمتحنه الله - عز وجل - بمكره، لينتبه على شكر الله - تبارك وتعالى - والثناء عليه، ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " (48).

4 - في " التهذيب " مسندا عنه، عن أبيه قال: " ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها " (49).

5 - " مهج الدعوات " عنه (عليه السلام) أنه قال: " ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسم الله الأكبر، - أو قال -: الأعظم " (50)، وبرواية ابن عباس قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسم من أسماء الله الأكبر، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها " (51).

6 - قال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) نظر إلى رجل يكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فقال له: " جودها، إن رجلا جودها فغفر الله له " (52). هذا ما أخرجه كتب العامة، وهكذا ما بعده.

7 - وقال أيضا: " وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فقبله ووضعه على عينيه، فغفر له " (53)، ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي.

8 - أخرج النسائي عن أبي المليح، عمن ردف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا عثرت بك الدابة فلا تقل " تعس الشيطان "، فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: " بقوته صنعته "، ولكن قل: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب " (54).

9 - وفي رواياتنا ورواياتهم عن علي بن الحسين وغيره (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ (55) قال: " معناه ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " (56).

10 - أخرج وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: " من أراد أن ينجيه الله تعالى من الزبانية التسعة عشر، فليقرأ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد " (57). فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ (58)، هم يقولون في كل أفعالهم: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فمن هنا لك هي قوتهم وببسم الله استضلعوا.

المسألة السادسة: حول كلمة " البسملة " قد تعارف استعمال كلمة " البسملة " بين المفسرين وغيرهم، وهي لا توجد في رواياتنا وروايات أهل السنة حسب ما تفحصت عنها، فهل يجوز أم لا؟وجهان لا يبعد الأول. وعن الماوردي: " ويقال لمن قال: " بسم الله " مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر: لقد بسملت ليلى غداة لقيتها * فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل " (59) وظاهره والآخرين على أنه مخفف بسم الله، أو مصدر جعلي، والذي هو الأقرب أنه مخفف ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. فما عن ابن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: " بسمل الرجل، إذا قال: " بسم الله " أو " قد أكثرت البسملة، أي قول: بسم الله " (60)، غير صواب، إلا أن يريدوا منه ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، بل هي نظير الحوقلة و الحوللة والبسملة والحمدلة، مصادر جعلية، أو تخفيف في اللفظ، بل قيل: حيفل إذا قال: حي على الفلاح، وحيصل وجعفل إذا قال: حي على الصلاة، وجعلت فداك، وطبقل ودمعز إذا قال: أطال الله بقاك، وأدام الله عزك. فبالجملة: نظير ذلك في الكتاب قوله تعالى: ﴿الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ﴾ (61)، وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " جنود مجندة " (62) من المصادر الاتخاذية لغرض. وهي سماعية أو يجوز ذلك إذا حسن الاستعمال، فلا يقف على ما اقتصروا عليه، فإن كل شئ في طريق الاستكمال والكمال. وغير خفي أنها تارة تستعمل مصدرا، ويتخذ منه الفعل، كما إذا قال: قد أكثرت البسملة، وأخرى تستعمل رمزا وتخفيفا إذا قيل: البسملة آية من الكتاب والفاتحة.


1- راجع تفسير العياشي 1 : 20 / 9 ، وسائل الشيعة 4 : 874 كتاب الصلاة ، أبواب قراءة القرآن ، الباب 37 ، الحديث 8.

2- تفسير العياشي 1 : 19 / 2.

3- راجع الجامع لأحكام القرآن 1 : 94.

4- الجامع لأحكام القرآن 1 : 95.

5- انظر معجم البلدان 1 : 348 ، تنقيح المقال 2 : 165.

6- المستدرك ، الحاكم النيسابوري 2 : 330.

7- انظر التفسير الكبير 1 : 203 ، ونقل الإتقان في علوم القرآن 1 : 267 هذا القول عن المالكية وغيرهم.

8- التفسير الكبير 1 : 203.

9- علل الشرائع 2 : 315 / 1.

10- المستدرك ، الحاكم النيسابوري 1 : 565.

11- كنز العمال 1 : 583 / 2646.

12- الكوثر ( 108 ) : 1.

13- صحيح مسلم 1 : 187 / 53.

14- سنن الترمذي 4 : 238 / 3053.

15- وسائل الشيعة 4 : 748 - 749 كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 12 ، الحديث 2 و 3 و 4 و 5.

16- وسائل الشيعة 4 : 745 كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 11.

17- روح المعاني 1 : 37.

18- الدر المنثور 1 : 10 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 97.

19- الدر المنثور 1 : 10.

20- الجامع لأحكام القرآن 1 : 97.

21- انظر الدر المنثور 1 : 10.

22- الكافي 2 : 494 / 3.

23- انظر روح المعاني 1 : 47.

24- انظر آداب الصلاة : 242 ، والظاهر أن التعبير من استفادات المصنف ( قدس سره ) من والده المعظم ( قدس سره ).

25- الكافي 2 : 493 / 2.

26- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام : 28 / 9 ، التوحيد : 232 / 5.

27- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام : 25 / 7.

28- الكافي 2 : 493 / 1.

29- الجامع لأحكام القرآن 1 : 96.

30- النحل ( 16 ) : 98.

31- الكافي 3 : 313 / 3.

32- الإسراء ( 17 ) : 46.

33- تفسير القمي 1 : 28.

34- الإسراء ( 17 ) : 46.

35- تفسير العياشي 1 : 20 / 6.

36- الجامع لأحكام القرآن 1 : 96 ، وانظر التفسير الكبير 1 : 203.

37- الجامع لأحكام القرآن 1 : 96.

38- نفس المصدر.

39- الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 257.

40- الإسراء ( 17 ) : 110.

41- الجامع لأحكام القرآن 1 : 96.

42- تفسير العياشي 1 : 21 / 14.

43- تفسير العياشي 1 : 21 - 22 / 14.

44- تفسير العياشي 1 : 19 / 4 ، تفسير الصافي 1 : 52.

45- تفسير العياشي 1 : 21 / 13 ، تهذيب الأحكام 2 : 289 / 1157 و 1159 ، وسائل الشيعة 4 : 745 كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 11 ، الحديث 2 و 3 و 11.

46- الكافي 2 : 494 / 3.

47- الكافي 2 : 457 / 20.

48- التوحيد : 231 / 5.

49- تهذيب الأحكام 2 : 289 / 1159.

50- مهج الدعوات : 316.

51- مهج الدعوات : 319.

52- الجامع لأحكام القرآن 1 : 91.

53- نفس المصدر.

54- الجامع لأحكام القرآن 1 : 91 - 92 ، وانظر سنن أبي داود 2 : 473 ، والمستدرك ، الحاكم النيسابوري 4 : 293 ، ولم نجد في النسائي.

55- الإسراء ( 17 ) : 46.

56- تفسير العياشي 1 : 20 / 6 و 2 : 295 / 85 و 86 و 87 ، كنز العمال 2 : 454.

57- الدر المنثور 1 : 9 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 92.

58- المدثر ( 74 ) : 30.

59- تفسير الماوردي 1 : 50.

60- انظر تاج العروس 7 : 228.

61- آل عمران ( 3 ) : 14.

62- عوالي اللآلي 1 : 288 / 142 ، صحيح مسلم 2 : 545 / 159 و 160 ، وراجع بحار الأنوار 58 : 31 و 63 و 64 و 79 و 135 و 139.