حول كلمة البسملة الشريفة

المبحث الثاني: حول كلمة البسملة الشريفة ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهي الآية الأولى وهنا مسائل:

المسألة الأولى: عما كان يبتدأ به قبل الإسلام في المكاتيب

قال السيوطي في " الأوائل ": أول من كتب بمكة ب? " باسمك اللهم " أمية بن أبي الصلت إلى أن جاء الإسلام، فكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (1). وفي " أدب الكتاب " لمحمد بن يحيى الصولي قال: " سأل ابن عائشة عبيد الله بن محمد بن حفص عن ابتداء الكتاب ب? ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فقال: حدثني أبي: أن قريشا كانت تكتب في جاهليتها ب? " اسمك اللهم " وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، ثم نزلت سورة هود، وفيها ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ (2) فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يكتب في صدر كتبه: " بسم الله "، ثم نزلت في سورة بني إسرائيل: ﴿قل ادعوا الله...﴾ (3) فكتب " بسم الله الرحمن " ثم نزلت في سورة النمل: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فجعل ذلك في صدر الكتب إلى الساعة، وكتب ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في أول كل سورة من القرآن " (4).

ولكن يعارضها مكاتبة الحديبية، ففي " الوثائق السياسية " لحيدر آبادي: " باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل ابن عمرو " (5).

ولعله لعدم اتفاقهم على غير ذلك، كما لا يخفى. وفي بعض التواريخ: " ولما كتب علي (عليه السلام) في صلح الحديبية بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، قال سهيل بن عمرو: ما ندري ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم " (6). وفي المروي عن الشعبي والأعمش: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتب: " باسمك اللهم " حتى أمر أن يكتب: " بسم الله " فكتبها، فلما نزلت ﴿قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ﴾ كتب: " بسم الله الرحمن "، فلما نزلت ﴿إنه من سليمان...﴾ (7) كتبها. وفي سنن أبي داود: " قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتب ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ حتى نزلت سورة النمل " (8).

ويرد هذا أو ذاك ما في " الوثائق السياسية " من مكاتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي مجموعها الابتداء بها، وفي بعضها لا يبتدأ بشئ، وفيها صورة تلك المكاتيب المحفوظة في المخازن والمتاحف التي دعا فيها الملوك والسلاطين إلى الإسلام، وغيرها، فراجع.

المسألة الثانية: عما ابتدأ به سائر الكتب السماوية أوائل الفصول والسور اعلم أني قد تفحصت في جميع الكتب السماوية - أي كتب العهد القديم والعهد الجديد - الموجودة بين يدي، فما وجدت فيها شيئا يبتدأ به في أوائل السور والفصول والإصحاحات، بل الكل مشترك في الابتداء بالمقصود من غير أن يبتدأ باسم الله تعالى.

فيحدث مشكل في الباب، وهو أن مقتضى الأحاديث الآتية أن جميع الكتب السماوية كانت مصدرة بالبسملة، فيعلم من ذلك أن هذه الكتب الموجودة محرفة أشد التحريف، أو تكون البسملة في صدر سائر الكتب خارجة عن الكتاب، فما كانت تكتب. ولو كانت البسملة معروفة بين علماء اليهود والنصارى - عبرانية أو عربية - لكانت تشتهر قبل نزول القرآن، فعليه يشكل الاعتماد على هذه الأخبار، مع أنها غير نقية الأسناد، فإن فرات بن الأحنف ضعيف بن ضعيف - كما قيل (9) - ولا يظهر من تفسير العياشي أنه يروي عن صفوان الجمال بلا واسطة شفاها، أو كان عنده كتابه (10).

المسألة الثالثة: عن معهودية هذه الكلمة الشريفة قبل نزول القرآن، بلسان عبري أو عربي أو غيرهما المعروف عن التاريخ المزبور في المسألة الأولى أنها ما كانت معهودة قبل الإسلام، وفي " الكافي " مسندا عن فرات بن الأحنف، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " أول كل كتاب نزل من السماء ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (11) " الحديث. وعن العياشي، عن صفوان، عن الصادق (عليه السلام): " ما أنزل الله من السماء كتابا إلا وفاتحته ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وإنما كان يعرف انقضاء السورة بنزول ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ابتداء للأخرى " (12). وفي ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن موسى، عن أبيه، عن آبائه، عن أميرا لمؤمنين (عليهم السلام) أنه قال: " ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آية من فاتحة الكتاب... - إلى أن قال -: وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله - عز وجل - خص محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وشرفه بها، ولم يشرك معه فيها أحدا من أنبيائه، ما خلا سليمان، فإنه أعطاه منها ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وحكى عن بلقيس حين قالت: ﴿إني القي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم﴾ (13) " (14)، الحديث. نوع معارضة مع ما سبق. ووجه الجمع: أن النازل على سليمان عربي وعلى غيره غير عربي، أو أن سليمان كان له أن يبتدئ بها في مكاتيبه دون غيره. وربما يشكل الخبران الأولان بما مر في المسألة الثانية، من خلو الكتب السماوية منها.

المسألة الرابعة: حول أحكامها وهي كثيرة:

الحكم الأول: هل هي من القرآن؟يرى عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، وهو رأي بعض الحنفية. ومن أدلتهم على ذلك: حديث أنس، قال: " صليت خلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الثلاثة، وكانوا يستفتحون ب? ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، لا يذكرونها في أول قراءة ولا آخرها " (15). وقد مضى شطر من البحث حول ذلك في مسألة عدد آيات سورة الفاتحة، ويكفي ردا عليه إجماع المسلمين على خلافه. وفي دلالة الرواية على أنها ليست من القرآن منع، لأن عدم وجوبها في القراءة تخصيصا بالسيرة العملية للمطلقات الدالة على أن " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، ممكن كما أنها لمكان عدم كونها من الفاتحة لا تقرأ على فرض صحة النسبة، وهي واضحة البطلان، لأن ظاهر قوله: " كانوا " اعتيادهم على تركها، ولو كان هذا كالنار على المنار، لما كان وجه لاختلاف فقهاء الإسلام، وذهاب الأكثر إلى وجوب قراءتها والكثير إلى أنها من الفاتحة. وهذا أنس يروي عنه مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنزلت علي سورة، فقرأ: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ " (16)، فكيف يجمع بين روايتيه ؟! ويظهر من " التبيان " أن المسألة كانت مورد الكلام، فقال: " ومن قال: إنها ليست من القرآن قال: إن الله أدب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمه تقديم ذكر اسم الله أمام جميع أفعاله وأقواله، ليقتدي به جميع الخلق في صدور رسالاتهم وأمام حوائجهم. قالوا: والدليل على أنها ليست من القرآن: أنها لو كانت من نفس الحمد، لوجب أن يكون قبلها مثلها، لتكون إحداهما افتتاحا للسورة حسب الواجب في سائر السور... " (17) انتهى. فيعلم من ذلك أن الرأي المزبور ما كان نادرا. وأنت خبير بما فيه من عجب الدلالة وسقوط الاستدلال، والذي ظهر لي أن مؤلف " التبيان " شيخنا الطوسي (قدس سره) خلط بين هذه المسألة والمسألة الآتية، وظن أن جماعة أنكروا كونها من القرآن، وإذا راجعت تفسير الطبري ترى أن عبارته في الاستدلال مأخوذة منه، وهو من المخالفين في المسألة الآتية دون هذه المسألة، وسيأتي في ذيل المسألة الآتية حديث ابن عباس، الظاهر في أنها ليست من الكتاب، مع جوابه.

الحكم الثاني: هل هي من الفاتحة؟اتفق المسلمون على أنها من سورة النمل، وعلى أنها من سورة الفاتحة علماء السلف من أهل مكة فقهاؤهم وقراؤهم ومنهم ابن كثير، وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة، والشافعي في الجديد وأتباعه والثوري وأحمد في أحد قوليه، ومن المروي عنهم ذلك: من الصحابة ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك. وقيل: إن قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاءها على أن التسمية ليست منها، وإنما كتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه (18)، ومالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي وغيره من علماء الشام، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة، وعن حمزة من قراء الكوفة. وروي عن أحمد أنها آية من الفاتحة دون غيرها (19). وهذا هو رأي الإمامية وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، وهو قضية رواياتهم المتكاثرة عنهم (عليهم السلام) (20)، وهو مقتضى الأخبار من طرق أهل الجماعة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيها الصحاح والحسان - على ما اصطلحوا عليه - وهي كثيرة محكية عن جماعة، كأم سلمة وجابر وعمار وطلحة وبريدة وابن عمر وأبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عباس ومحمد بن كعب القرضي (21). ومن غرائب الاستدلال ما اشتهر في كتب الخاصة والعامة بأن المسلمين اتفقوا على رسمها من أول الأمر إلى الآن عدا سورة البراءة، مع الأمر بتجريد القرآن من كل ما ليس منه، ومن ثم لم يكتبوا " آمين " آخر الفاتحة (22). فإنه دليل على أنها من الكتاب، ولا يستدل به على الجزئية لأية سورة كانت. هذا، مع أن جماعة من القراء تركوا الفصل بين السور بالتسمية، وفيهم حمزة وخلف ويعقوب واليزيدي (23). وغير خفي أن المسألة خلافية، واستدل لكل من القولين بأدلة استحسانية وروائية (24)، ولو أغمضنا النظر عما يدل على جزئيتها من الصحيح في مذهبنا، كان وجه الشبهة قويا جدا، لقصور الأدلة عن إثباتها من الفاتحة، وللخلط بين هذه المسألة والمسألة السابقة توهم تمامية الاستدلالات، ولولا خوف الإطالة المنهي عنها والمملة لسردت جملة منها، وهي مزبورة في أساطير الأولين. وبالجملة: إن أحطت خبرا بهذه النكتة تقدر على تمييز الصحيح من الدليل عن السقيم، وما هو المهم من بينها الأخبار المستدل بها على جزئيتها.

أحاديثنا

فمن طريقنا ما أخرجه الطوسي (قدس سره) بإسناده المعتبر عن الخزاز، عن ابن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم، أهي الفاتحة؟قال: " نعم ". قلت: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ من السبع المثاني؟قال: " نعم هي أفضلهن " (25). وما أخرجه الصدوق في سند معتبر عن ابن أذينة، وفيه: " فمن أجل ذلك جعل ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في أول كل سورة " (26). ولعمري إن الخبر المعتبر الظاهر في المراد ينحصر بالأول. وما أورده " الوسائل " - في الباب الحادي عشر - من الأخبار (27) أكثرها تدل على أنها من الكتاب، أو على وجوب قراءتها مثلا مع السورة. نعم روايتان اخريان تدلان على أنها منها، إلا أنهما غير نقيتي السند (28) إن لم نقل بأن سند الشيخ إلى الخزاز فيه العباس وهو مشترك إلا أن ظاهره هو ابن المعروف. والله العالم.

أحاديث الجماعة

ومن طريقهم ما يدل صريحا على الجزئية ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة (29)، ومسلم عن أنس (30)، والبيهقي عن ابن عباس (31)، وهكذا ابن خزيمة (32)، و " مستدرك " الحاكم عن سعيد بن جبير (33)، وفي الكل ما يدل على أنها من الفاتحة. أما الروايات الأخر المستدل بها على الجزئية، فهي تدل على أنها من الكتاب والقرآن. وهذا الخلط بين المسألتين خفي على أعلام المفسرين - من الخاصة والعامة - إلى عصرنا هذا، مع أن ما يدل على أنه من الكتاب يشعر بنفي جزئيتها للفاتحة، كما لا يخفى.


1- محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر : 41.

2- هود ( 11 ) : 41.

3- الإسراء ( 17 ) : 110.

4- أدب الكتاب ، محمد بن يحيى الصولي : 31 - 32.

5- لم نعثر على الكتاب.

6- تاريخ الطبري 2 : 634 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 104.

7- النمل ( 27 ) : 30.

8- سنن أبي داود 1 : 269 / 787.

9- هذا سهو صدر من قلمه الشريف فإن التوصيف المذكور جاء في ابنه محمد بن فرات ، والأمر سهل بعد ضعف فرات ، انظر تنقيح المقال 2 : 3 / 9413.

10- انظر تفسير العياشي 1 : 19 ويأتي الحديث بعد أسطر.

11- الكافي 3 : 212 / 3.

12- تفسير العياشي 1 : 19.

13- النمل ( 27 ) : 29 و 30.

14- عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 1 : 302 / 60.

15- صحيح مسلم 1 : 187 / 52.

16- صحيح مسلم 1 : 187 / 53.

17- تفسير التبيان 1 : 24.

18- الكشاف 1 : 1.

19- انظر التفسير الكبير 1 : 203 ، وروح المعاني 1 : 37.

20- تفسير العياشي 1 : 19 - 22 ، تفسير البرهان 1 : 42.

21- الدر المنثور 1 : 7 - 8 ، شعب الإيمان ، البيهقي 2 : 434 - 441.

22- الكشاف 1 : 1 ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1 : 5.

23- راجع مجمع البيان 1 : 18.

24- التفسير الكبير 1 : 196 - 202.

25- تهذيب الأحكام 2 : 289 / 13.

26- علل الشرائع 2 : 315 / 1.

27- وسائل الشيعة 4 : 745 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 11.

28- أمالي ، الصدوق : 175 ، مجلس 33 ، الحديث 1 و 2 . وسائل الشيعة 4 : 747 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، الباب 11 ، الحديث 9 و 10.

29- سنن الدارقطني 1 : 306 / 17 و 36.

30- صحيح مسلم 1 : 380 / 53.

31- السنن الكبرى 2 : 45 / 5.

32- صحيح ابن خزيمة 1 : 248 / 493.

33- راجع المستدرك ، الحاكم النيسابوري 2 : 257.