ما يتعلق بمجموعها
المباحث هنا: منها ما يتعلق بمجموع السورة، ومنها ما يتعلق بمجموع الآية، ومنها ما يتعلق بالكلمات والجمل.
المبحث الأول: ما يتعلق بمجموعها وهو مشتمل على مسائل:
المسألة الأولى: في معنى السورة وسيوافيك البحث حولها عند قوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ (1) وقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ (2).
المسألة الثانية: هل هذه أولى سورة نزلت، أم غيرها؟الأقوال في أول ما انزل أربعة:
1 - إقرأ باسم ربك (3)، وهو المروي عن عائشة وعن مجاهد وعطاء (4) وابن يسار (5)، وهو قول أكثر المفسرين.
2 - سورة المدثر، وهو قول سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث (6).
3 - سورة الفاتحة بتمامها، وهو قول جماعة قليلين، ونسب ذلك في " الكشاف " إلى الأكثر (7)، وهو محل منع، ولكنه يساعده الاعتبار، لأن الصلاة كانت بالفاتحة عند الفرض وهو بمكة، ولأنها من الابتداء كانت مسماة بالفاتحة وبها فتح الوحي، وهو المراد من السبع المثاني على ما اشتهر في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ (8) وهو مكي، فإذا كانت هي مكية، فهي أول ما نزلت، للإجماع المركب، ولكنه كما ترى.
4 - التفصيل: أول الآيات من " إقرأ "، وأول السور الفاتحة بتمامها. وفي المسألة بعض الأقوال الأخر. والذي هو الأظهر - حسب نصوصنا (9) - هو الأول، ولا ينافيه كون الفاتحة مكية، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأما ما قيل استدلالا على أولية الفاتحة نزولا:
بأنها صورة إجمالية من الكتاب العزيز، ونموذج من هذا البحر المحيط، فلها الإحاطة التامة على ما فيه من التوحيد والقصص والأحكام وغيرها، فهو مما لا يبالي به العاقل، ولا يركن إليه اللبيب، بداهة أن التاريخ لا يصطاد بالذوق والاستحسان. ويعارضه ما أفيد من:
أن سؤاله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يقرأ بعد الأمر بالقراءة - على ما في الكتب (10) - شاهد على عدم انسه بالوحي وعدم سبقه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبارقة الإلهية. والله العالم. نعم شهادة فضلاء الإسلام - كابن النديم، في كتابه " نور العلوم " المعروف ب? " الفهرست "، ناقلا حديثا مسندا عن محمد بن نعمان بن بشير (11)، وهو موجود في " البخاري " (12) و " مسلم " (13) وسائر ما قيل ومضى تورث الظن بل الاطمئنان بأولية " إقرأ " إلى قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (14). وقال أبو عبيدة في " فضائل القرآن ": حدثنا عبد الرحمن... إلى أن قال: إن أول ما انزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ (15) و ﴿ن * والقلم﴾ (16).
. وهو وحيد بهذا الذيل كما ترى.
المسألة الثالثة: هل هي مكية أو مدنية، أو مكية ومدنية؟
بعد الاتفاق على نزولها بتمامها في إحداهما، ولم يقطع في التنزيل.
أقول: وليعلم أن المفسرين اختلفوا في المكي والمدني من السور (17):
فقيل: المكي ما نزل في شأن أهل مكة، والمدني غيره.
وقيل: ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والجمهور على أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها. وعلى جميع التقادير، هي مكية، وهو مختار أكثر أهل الفضل، وهو المحكي عن ابن عباس وقتادة ورفيع أبي العالية وغيرهم (18). وعن أبي هريرة ومجاهد وعطاء والزهري: أنها مدنية (19).
وقيل: هي مكية ومدنية، وهو مختار النسفي وغيره (20). وحكاه الثعلبي عمن تقدم عليه: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة، ثم نزلت بالمدينة حين حولت القبلة إلى الكعبة.
ويقال: عن أبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره: أن نصفها نزل بمكة ونصفها نزل بالمدينة (21). وهذان القولان بلا حجة وبرهان، ومجرد الإمكان غير كاف.
وحيث اتفقوا على أن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي﴾ (22) مكي، ويكون المراد منه هذه السورة، فهي مكية. ويشكل ذلك من ناحيتين:
الأولى: قال ابن عباس: أوتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعا من المثاني، قال: السبع الطول (ذكره النسائي) (23)، وهي من البقرة إلى الأعراف ست، واختلفوا في السابعة (24)، فقيل: يونس، وقيل: الأنفال والتوبة، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير. وفي شعر الأعشى: وادرسوا هذي المثاني والطوال وأما رواياتنا، ففيها ما يعين أن المراد منه هي الفاتحة، فعن " التهذيب " بإسناده عن أبي أيوب، عن محمد بن مسلم، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني والقرآن العظيم، أهي الفاتحة؟قال: نعم ". الحديث (25)، ومثلها مرفوعة ابن يونس (26) وخبر أبي بكر الحضرمي (27).
الثانية: أن دلالة الآية الكريمة الشريفة على أنها نزلت قبل نزول هذه الآية، مبنية على اعتبار الزمان في الفعل الماضي، ولا سيما في الأفعال المستعملة في حقه تعالى. ولكن مع ذلك كله، مقتضى مفروضية الصلاة في مكة، و " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " - كما في روايات الخاصة والعامة (28) - وسائر ما أشير إليه، أنها إلى المكية أقرب. وقيل: المرسوم في عناوين المصاحف أنها مدنية، فالسيرة العملية حجة على مدنيتها. وهو محل منع، لأن المرسوم فيما عندي أنها مكية، فراجع. مع أن من الممكن اشتباه الكاتب الأول في ذلك، ولصيانة الكتاب عن أيدي التصرف اقتصروا عليه، كما ترى في الأغلاط الخطية الآتي بحثها.
وغير خفي: أن سورة الحجر مكية بالاتفاق إلا آية ﴿لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي﴾ (29) وإلا قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ﴾ (30). هذا، والذي يظهر من تتبع الآثار ومراجعة الأخبار: أن الصلاة كانت مفروضة في مكة (31)، بل كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي قبل البعثة - كما في سيرته (32) -، وقد وردت في أحاديثنا وأحاديث العامة ما يدل على أن " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، وقضية إطلاق هذه الأخبار وتلك التعابير: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يصلي بغيرها، لظهور الروايات في تقوم طبيعة الصلاة بها مطلقا، فصلاته قبل البعثة كانت معها، فهي أول ما نزل. والله الموفق، فليتأمل.
1- البقرة ( 2 ) : 23.
2- النور ( 24 ) : 1.
3- العلق ( 96 ) : 1.
4- راجع الإتقان في علوم القرآن 1 : 24.
5- راجع البحر المحيط 8 : 792.
6- صحيح البخاري 6 : 547 ، الإتقان في علوم القرآن 1 : 92.
7- الكشاف 4 : 775.
8- الحجر ( 15 ) : 87.
9- تفسير نور الثقلين 5 : 609.
10- الدر المنثور 6 : 368 ، الإتقان في علوم القرآن 1 : 92.
11- الفهرست ، ابن النديم : 28.
12- راجع صحيح البخاري 1 : 59.
13- راجع صحيح مسلم 1 : 188.
14- العلق ( 96 ) : 5.
15- العلق ( 96 ) : 1.
16- انظر الإتقان في علوم القرآن 1 : 92.
17- انظر المصدر السابق 1 : 36 - 45.
18- المصدر السابق 1 : 46.
19- المصدر السابق 1 : 46 ، الدر المنثور 1 : 3.
20- التفسير الكبير 1 : 178 ، البحر المحيط 1 : 16.
21- الإتقان في علوم القرآن 1 : 47 ، نقل عن تفسير السمرقندي.
22- الحجر ( 15 ) : 87.
23- سنن النسائي 2 : 140.
24- انظر الإتقان في علوم القرآن 1 : 220.
25- تهذيب الأحكام 2 : 289 / 13.
26- تفسير العياشي 1 : 19.
27- المصدر السابق 1 : 21.
28- عوالي اللآلي 1 : 196 ، 2 : 218 ، 3 : 82 . مستدرك الوسائل 1 : 274 ، كتاب الصلاة ، الباب 1 ، الحديث 5 . سنن ابن ماجة 1 : 273 ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، الباب 11 ، الحديث 837 . صحيح مسلم 1 : 375 ، كتاب الصلاة ، الباب 11 ، الحديث 34.
29- الحجر ( 15 ) : 87.
30- الحجر ( 15 ) : 90.
31- راجع على سبيل المثال وسائل الشيعة 4 : 16 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ، الباب 2 ، الحديث 10.
32- راجع السيرة النبوية ، ابن هشام 1 : 260.