المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد:

فهذا تفسير القرآن الكريم والفرقان المستقيم والذكر الحكيم والكتاب العظيم.

هنا مسألتان:

المسألة الأولى: ما هي حقيقة علم التفسير؟

قال ابن حيان (1): " لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له. فنقول: التفسير في اللغة الإبانة والكشف، قاله ابن دريد... إلى أن قال: وأما الرسم في الاصطلاح، فنقول: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي عليها حالة التركيب مع تتمات لذلك " (2).

والذي تقرر: أن لكل علم موضوعا، وربما يكون موضوع العلم عين موضوع مسائله، وما هو موضوع علم التفسير في هذه المسألة هو القرآن بمجموعه، وموضوع مسائله أجزاؤه كعلم الجغرافيا.

وأما تعريفه: فهو العلم بالمرادات والمقاصد الكامنة فيه بالإحاطة بها بقدر الطاقة البشرية، والإحاطة المطلقة غير ممكنة حتى لمن نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم). وما جعله رسما له يرجع إلى انحلال علم التفسير إلى العلوم المختلفة، وعدم كونه علما مستقلا قبال سائر العلوم المدونة.

وأما عوارضه الذاتية: فهي ما تعرض لموضوعات مسائله من غير واسطة تورث مجازيتها. واتضح من تعريفه ما هو حقيقتها.

وأما غايته: فهو الوصول إلى درجة العقول في النيل بالأصول النازلة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وشرافته - بعد بعض العلوم - أكثر من سائر الفنون لشرافة موضوعه. وله مبادئ تصورية وتصديقية من العلوم الأدبية الراجعة إلى فهم المفردات والمركبات.

وحيث إن المحرر في محله: أن وحدة العلوم اعتبارية، وليست طبيعية ولا تأليفية، وهي تابعة لوحدة الموضوع (3).

فعلم التفسير: تارة يكون موضوعه مطلق الكتب السماوية، وأخرى يكون كتابا خاصا، والذي هو موضوع علم التفسير في هذه الأمة هو القرآن العظيم والكتاب الكريم، فيشبه علم الطب في السعة والضيق بحسب سعة الموضوع وضيقه.

وغير خفي: أن مسائل هذا العلم ليست من القضايا الحقيقية، بل هي دائرة بين القضايا الخارجية والشخصية. ونحن قد بسطنا البحث حول هذه المسائل في موسوعتنا الأصولية (4)، ولمكان أن المفسر لابد أن لا يتجاوز عن مقصوده، ولا ينظر في بعض الفنون - التي من المبادئ التصورية أو التصديقية لهذا العلم الشريف - نظرا ينتهي إليه مرامه، أشرنا إلى هذا النموذج الإجمالي، ونعتذر.

وإن شئت قلت: إن علم التفسير علم طويل سلمه، سميكة أفلاكه وأنجمه، بعيد الغور، غريب الطور، ذو سبل فجاج، متفنن الطرق في الاستقامة والاعوجاج، قلما اهتدى إلى أغواره إلا واحد بعد واحد، لأن كلام الكبرياء أجل من أن يكون شريعة لكل وارد، وقليل من الناس وصلوا إلى أسراره وهم مع ذلك ينادون من مكان بعيد، إذ موضوع هذا العلم - وهو القرآن - ليس له حد يقف إليه الأفهام، وليس كغيره من كلام الأنام، وإنما هو مقال الملك العلام ذو عبارات للعلماء وإشارات وحقائق للأولياء ولطائف للأنبياء، بل هو بحر لجي في قعره درر، وفي ظاهره خبر، والناس في التقاط درره والوصول إلى خبره على مراتب متفاوتة.

ومن أجل ذلك جاءت التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها: فمنها ما يغلب عليه العربية والعلوم الأدبية من الإعراب والبيان، ومنها ما يغلب عليه المجادلات الكلامية مما ظنوها من الحكمة والبرهان، ومنها ما يغلب عليه القصص والسير، ومنها ما يغلب عليه نقل الأحاديث والخبر، ومنها ما يغلب عليه التأويلات البعيدة وبيانات غريبة عجيبة، لأنهم لم يأخذوا التفاسير من مشكاة النبوة والولاية.

فالتفسير الجامع لمجامع العلوم والأحكام، والكافل للحقائق والدقائق، والشامل للإشارات والعبارات، والحاوي لاس مطالب الحكمة والعرفان، لم يتيسر لأحد من العلماء والحكماء، ولا يمكن ذلك إلا لمن خص بهبة من الله تبارك وتعالى ووراثة من الأنبياء، وأخذ العلم من مشكاة الأولياء، واقتبس قوة قدسية ونورا من الله في قوالب إنسية.

ولنعم ما قيل بالفارسية: جمع صورت با چنين معنى ?رف * نيست ممكن جز ز سلطان شگرف (5) وقال الوالد المحقق العارف برموز الكتاب وبعض أسراره: " إن تفسير القرآن لا يتيسر إلا لله تعالى، لأنه علمه النازل، ولا يمكن الإحاطة به ".

المسألة الثانية: ما هو سبب تسمية هذا المؤلف القيم بالقرآن وغيره من الأسماء المذكورة له؟

أسماؤه المعروفة أربعة:

1 - القرآن: كما في قوله في سورة الزخرف ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ (6)، وفي موضع آخر من البقرة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (7)، وهذا يدل دون الأول، لأنه أريد هناك معناه اللغوي. ولعله سمي بذلك لقوله تعالى في بدو الوحي والنزول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (8)، والمسمى هو هذا المؤلف الذي بين أيدي المسلمين. فيكون بالوضع التعيني كسائر الأسماء الموضوعة للمعاني الكلية. ونظيره كلمة " سلطان "، فإنه مصدر أو اسم مصدر يطلق على الذات، فالقرآن يطلق على ذات هذا السفر القيم، نظير إطلاق الماء على الكل والجزء.

2 - الفرقان: كما في قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ (9).

3 - الكتاب: كما في آيات (10).

4 - الذكر: كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ (11) وغيرها. ولكن هذه الثلاثة مشتركة بينه وبين سائر الكتب السماوية، ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (12)، وفي موضع من سورة الأنبياء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (13). فعلى هذا يختص الاسم بالقرآن ولذلك اشتهر به، وما وجدت في الكتاب العزيز إطلاقه على سائر الكتب. وأما وجه التسمية والإطلاق فهو معلوم لا يحتاج إلى الإطالة المنهي عنها والإطناب المزعج. وسيظهر وجوه توصيفه في خلال الآيات الشريفة - إن شاء الله تعالى - بأوصاف مختلفة وعناوين شتى، فعلى هذا تزداد أسمائه وألقابه إلى العشرات على ما ضبطه بعض المفسرين (14)، ولا تنحصر بالأربعة، وغير خفي أن الخلط بين ما هو في حكم العلم وغيره، غير جائز. وما هو العلم لهذا الكتاب هو القرآن برفض خصوصية المعنى، بخلاف سائر الألقاب.


1- قد عبر المصنف ( قدس سره ) عن محمد بن يوسف الأندلسي صاحب كتاب " البحر المحيط " بابن حيان كثيرا وبأبي حيان أحيانا.

2- البحر المحيط 1 : 13 - 14.

3- انظر تحريرات في الأصول 1 : 43.

4- انظر المصدر السابق 1 : 7.

5- مثنوى معنوي ، دفتر سوم ، بيت 1393.

6- الزخرف ( 43 ) : 3.

7- البقرة ( 2 ) : 185.

8- العلق ( 96 ) : 1.

9- الفرقان ( 25 ) : 1.

10- الآيات فيه كثيرة . انظر البقرة ( 2 ) : 2 ، وآل عمران ( 3 ) : 3 ، والعنكبوت ( 29 ) : 51 ، والأحقاف ( 46 ) : 2.

11- الحجر ( 15 ) : 9.

12- البقرة ( 2 ) : 53.

13- الأنبياء ( 21 ) : 48.

14- الإتقان في علوم القرآن 1 : 178 ، روح المعاني 1 : 33 - 37.