مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

روحي وأرواح العالمين لك الفداء يا أبا عبد الله ويا سيد الشهداء فيا رب إن كان فيما أسطره وأضبطه حول الكتاب الإلهي شئ لي يسمى بالجزاء والثواب، فنهديه إليه ونرجو من حضرته التفضل علي بقبوله والمنة على المفتاق المفتقر إلى شفاعته بعدم رده، والله المستعان.

القرآن الكريم هو الفرقان المستقيم والذكر الحكيم والكتاب العظيم والقسطاس القويم، وهو كتاب الهداية لسعادة البشر، يشتمل على القوانين التي يحتاجها في حياته الفردية والاجتماعية والسياسية، والروحية والمادية. وهو الكتاب المعجز والمعجون الملكوتي الباهر، والموسوعة الربانية المليئة بالعجائب والمحاسن، والدستور السماوي الخالد، الموافق لجميع الأعصار والأمصار، الهادي إلى أعلى طريقة وأحسن أسلوب وسلوك في الحياة، وهو نور من الضلالة بجميع مراتبها، فهو كتاب من عند الله يحتوي على الحقائق الاعتقادية والأخلاقية والأفعال التي يجب الأخذ بها، وهو يشتمل على جميع أسباب الهداية، وهو رسالة الله تعالى إلى عباده أوحاها إلى خير خلقه وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو معجزة الإسلام الخالدة وهو أحسن الخزائن الإلهية.

هذه شذرات من كلمات العلامة الشهيد (قدس سره) في حق القرآن العظيم وردت في تفسيره هذا الذي نحن بصدد التقديم له. والقرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله الأكرم خير خلقه وخاتم النبيين محمد صلوات الله عليه وآله، التدبر والتفكر فيه عبادة من أفضل العبادات وأجلها، دعا إليها ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.

والقرآن هو الثقل الأكبر الذي قرنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) وهم الثقل الأصغر، وهذان الثقلان خلفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمته ليكونا سببا للهداية والنجاة ما إن تمسكوا بهما، فهل أخذت الأمة بوصية نبيها واستمسكت بخليفتيه فيها ؟! أما الثقل الأصغر أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم فقد تركوا أحاديثهم ولم يقتفوا آثارهم وتخلفوا عنهم ولم يأخذوا منهم قولا ولا عملا ولا عقيدة. وأما القرآن العظيم حبل الله المتين الممدود من السماء إلى الأرض فقد هجروه أيضا كما قال تعالى على لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ فقد تركوا هدايته وتعاليمه، ولم يتدبروا آياته ولم يتأملوا في معانيه ولم يتخلقوا بأخلاقه، واكتفوا بقراءته بصوت حسن والتغني به بلحن جميل، كما أوضح ذلك إمام الأمة الراحل (قدس سره) في مقدمة وصيته، وقد ذكر (قدس سره): أن الثقلين متلازمان لا يمكن التمسك بأحدهما دون الآخر وأن ترك أحدهما معناه تركهما معا. هذا، كما أن كثيرا من علماء الأمة قضوا أعمارهم بالبحث والتدقيق ببحوث جانبية بعيدة عن مقاصد القرآن العظيم، ولا تخدم أهدافه السماوية العالية، واشتغلوا بمواضيع قليلة الجدوى في فهم الكتاب العزيز، بل وخاضوا فيما ليس له ارتباط في تفسير القرآن الكريم إلا من بعيد، تضخيما لتفاسيرهم وتكثيرا لأجزائه، وتحميلا لكتاب الله ما لا يتحمله بعيدا عن مقاصده ومراداته، إعلاء لشأنهم وإظهارا لعلومهم، فشطوا عن الحق وعن أهداف القرآن العظيم في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور. إن واجب المفسر لكتاب الله تعالى هو أن يستنطق آياته ويستنبط معانيه، ويغوص إلى أعماقه مستهديا بالقرآن العظيم وقرنائه، باحثا عن علومه وأنواره، ناشرا لمقاصده وأهدافه، مبينا لمرامه ومراده، كاشفا عن غوامضه وأسراره، سابرا لأعماقه وأغواره، وذلك بحسب قدرته وعون الله له وتوفيقه. وحين يبتعد المفسر عن أهداف القرآن الكريم ويملأ تفسيره ببحوث قليلة الجدوى وأفكار لا ربط لها بمعاني القرآن السامية يصبح تفسيره موجبا للظلمة والحجاب مانعا للنور والهداية، فأين هذا التفسير من القرآن الذي انزل هدى للناس ونورا من الظلمات ؟! فالتفسير علم عظيم مشتمل على علوم وفنون كثيرة، ومستلزم لمقومات عديدة يجب على المفسر أن يتوفر عليها، وإلا فلا يقترب من هذا الحصن المنيع، وليدعه لأهله العلماء الربانيين والأولياء العرفاء الذين تسبق أعمالهم أقوالهم والذين أتعبوا لله أبدانهم، وأسهروا في طلب العلم لياليهم وقضوا فيه أعمارهم. وهذا التفسير الماثل بين يديك، من التفاسير النادرة الحاوية على الفوائد العظيمة، والعلوم الكثيرة، والنكات العلمية المتنوعة، والمواعظ الدينية النافعة، والأخلاق الإسلامية الرفيعة، مما يحيي القلوب ويزيد المؤمن إيمانا واطمئنانا ويشرح الصدور ويملؤها هداية ونورا.

ولا عجب حيث إن مؤلفه جامع للمعقول والمنقول، عارف بالعلوم العربية من لغة وصرف ونحو وبلاغة وغيرها، ملم بالكلام والحكمة والعرفان، وهو بعد ذلك فقيه أصولي بارع، وقد أخذ على نفسه مع توسعه في تفسيره أن يتجنب البحوث التي لا طائل تحتها ولا تمت إلى أهداف القرآن بصلة، ولا يجتني منها القارئ هداية ولا يكتسب منها نورا، وأن يهذب كتابه هذا عن الآراء السقيمة والوجوه الباردة الخالية عن النفع والفائدة. وقد اهتدى صاحب هذا التفسير بالسنة المطهرة والأحاديث الشريفة في تفسيره هذا، كما عزز آراءه بالدليل والبرهان، حيث إن السنة المطهرة قرينة القرآن الكريم، والعقل الرشيد مؤيد لهما وهاد إليهما، فهي جميعا متطابقة. وبهذا استطاع هذا المفسر العلامة أن يغور في فهم القرآن الكريم بدقة وعمق، ويكشف عن أسرار الآيات الشريفة.

وقد تميز هذا التفسير فوق ذلك بتدقيقه في كلمات القرآن كلمة كلمة، مناقشا للغويين في آرائهم، كاشفا عن مواطن خطئها، مبديا لرأيه في قبالهم عن علم واجتهاد وتحقيق، وقد استفاد من ذلك كثيرا في تفسيره من خلال تأمله في دقائق الألفاظ وتراكيب الكلام. هذا، وقد كتب الشهيد العلامة تفسيره هذا الفريد في أسلوبه وطريقته الوحيد في شموليته واستيعابه في النجف الأشرف حين أقصي عن وطنه مع والده الحكيم العارف العلامة المحقق البارع المجاهد الكبير الإمام الخميني العظيم قدس سره الشريف، وذلك أثناء تدريسه تفسير القرآن الكريم. ولم تتسع مهلة الحياة للعلامة الشهيد لإتمام تفسيره هذا، ومع أنه سيخرج للملأ العلمي - بإذن الله - في خمسة مجلدات، إلا أنه لم يتجاوز الآية السادسة والأربعين من سورة البقرة ابتداء من سورة الفاتحة. وقد تم طبع هذا الكتاب من قبل بجهد تلميذه حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد السجادي شكر الله سعيه. وحين أشرفت على الحلول الذكرى السنوية العشرون لاستشهاد العلامة المصنف (قدس سره)، سعت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) باهتمام بالغ إلى تصحيحه وتحقيقه وطبعه مع ثلاثة وعشرين مجلدا آخر من تراثه الغزير في الفقه والأصول والفلسفة.