الآيات 90-93

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴿91﴾ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴿92﴾ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿93﴾

بيان:

الآيات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا، والآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا، فهي جميعا تتعرض لحال الخمر، وبعضها يضيف إليها الميسر والأنصاب والأزلام.

وقد تقدم في قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾: البقرة - 291، في الجزء الأول، وفي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾: النساء - 43 في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الآيتين مع قوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم﴾: ﴿الأعراف: 33﴾، وهذه الآية المبحوث عنها: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون﴾ إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه وإعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الأحكام الشرعية فإن قوله تعالى: ﴿و الإثم﴾ آية مكية في سورة الأعراف إذا انضم إلى قوله تعالى: ﴿قل فيهما إثم كبير﴾ وهي آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر، ولا مجالا لمتأول.

بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله تعالى: ﴿و الإثم﴾، ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة وذلك قوله: ﴿قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾، وقوله: ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذي يدل عليه قوله: ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس - إلى قوله - فهل أنتم منتهون﴾ الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من ﴿إنما﴾ والتسمية بالرجس، ونسبته إلى عمل الشيطان، والأمر الصريح بالاجتناب، وتوقع الفلاح فيه، وبيان المفاسد التي تترتب على شربها، والاستفهام عن الانتهاء، ثم الأمر بإطاعة الله ورسوله والتحذير عن المخالفة، والاستغناء عنهم لو خالفوا.

ويدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الآيات: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ إلخ بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر﴾ الآية قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، والميسر هو القمار مطلقا، والأنصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها، والأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها، وربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح، ولا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها. فنساؤها يضربن بالأزلام.

وهو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه ﴿افعل﴾ والثاني مكتوب عليه لا تفعل والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب ﴿افعل﴾ عزم عليه، وإن خرج الذي مكتوب عليه ﴿لا تفعل﴾ تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين، وسمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فتلخص من جميع ما مر أن المراد بالآية أعني قوله: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا﴾ إلى آخر الآية، أنه لا جناح على الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم ومتلبسين بالإيمان بالله ورسوله، ومحسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات وتاركين لكل محرم نهوا عنه فإن اتفق لهم أن ابتلوا بشيء من الرجس الذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقههم به لم يضرهم ذلك شيئا.

وهذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات التي صلوها إلى غير الكعبة: ﴿و ما كان الله ليضيع إيمانكم﴾: البقرة: 134.

وسياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح، إلخ﴾ متصلة بما قبلها من الآيات وأنها نازلة مع تلك الآيات التي لسانها يشهد أنها آخر الآيات المحرمة للخمر نزولا، وأن بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات - على ما استفدناه - آنفا لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرمة وبين هذه الآيات.

ثم وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك وفيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، ومن ابتلي به قبل التفقه، ومن ابتلي به لغير عذر فأجيبوا بما يتعين به لكل طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها وهو على حال الإيمان والإحسان، ولا يكون إلا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلا به فليس عليه جناح، ومن ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.

وللمفسرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله: ﴿فيما طعموا﴾ وقد تقدم خلاصة الكلام في ذلك.

ومنها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرر التقوى فيه ثلاث مرات، وتكرر الإيمان وتكرر العمل الصالح وختمها بالإحسان.

فقيل: إن المراد بقوله: ﴿إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات﴾ اتقوا المحرم وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة، وبقوله: ﴿ثم اتقوا وآمنوا﴾ ثم اتقوا ما حرم عليهم بعد كالخمر وآمنوا بتحريمه، وبقوله: ﴿ثم اتقوا وأحسنوا﴾ ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي واشتغلوا بالأعمال الجميلة.

وقيل: إن هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله تعالى، والإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهرا.

وقيل: إن التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ والوسط والمنتهى، وهو حق التقوى.

وقيل: التكرار باعتبار ما يتقى فإنه ينبغي أن تترك المحرمات توقيا من العقاب، والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة، وتهذيبا عن دنس الطبيعة.

وقيل: إن الاتقاء الأول اتقاء عن شرب الخمر والإيمان الأول هو الإيمان بالله، والاتقاء الثاني هو إدامة الاتقاء الأول والإيمان الثاني إدامة الإيمان الأول، والاتقاء الثالث هو فعل الفرائض، والإحسان فعل النوافل.

وقيل: إن الاتقاء الأول اتقاء المعاصي العقلية، والإيمان الأول هو الإيمان بالله وبقبح هذه المعاصي، والاتقاء الثاني اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وما يتعلق بالغير من الظلم والفساد، والمراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.

وقيل: إن الشرط الأول يختص بالماضي، والشرط الثاني بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله، والشرط الثالث يختص بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.

وجميع ما ذكروه مما لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، وهو ظاهر بالتأمل في سياق القول فيها والرجوع إلى ما قدمناه.

بحث روائي:

في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطلب وأصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك علي، فخرج إليها فنحرها ثم أخذ كبدها وسنامها فأدخل عليهم، قال: وأقبل علي (عليه السلام) فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا ذلك إليه. قال: فأقبل معه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل لحمزة: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباب، قال: فخرج حمزة وهو مغضب فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله وانصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: وكان قبل أحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بآنيتهم فأكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى أحد فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرج الناس وخرج حمزة فوقف ناحية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فلما تصافحوا حمل في الناس حتى غيب فيهم ثم رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شيء، قال: ثم حمل الثانية حتى غيب في الناس ثم رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شيء. فأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه نحوه أقبل مقبلا إليه فعانقه وقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين عينيه ثم قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، وكفنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تمرة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطى وجهه انكشف رجلاه وإذا غطى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطى بها وجهه، وجعل على رجليه إذخر. قال فانهزم الناس وبقي علي (عليه السلام) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صنعت؟ قال: يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظن بك، قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنجز لي يا رب ما وعدتني فإنك إن شئت لم تعبد.

وعن الزمخشري في ربيع الأبرار، قال: أنزل في الخمر ثلاث آيات: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر﴾ فكان المسلمون بين شارب وتارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾ فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر: وكاين بالقليب قليب بدر. من القنيات والشرب الكرام. وكاين بالقليب قليب بدر. من السري المكامل بالسنام. أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى. وكيف حياة أصداء وهام. أ يعجز أن يرد الموت عني. وينشرني إذا بليت عظامي. ألا من مبلغ الرحمن عني. بأني تارك شهر الصيام. فقل لله يمنعني شرابي. وقل لله: يمنعني طعامي. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿إنما يريد الشيطان إلى قوله فهل أنتم منتهون﴾ فقال عمر: انتهينا.

وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقاص قال: في نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، وقالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره فكان سعد مفزور الأنف قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر﴾ الآية.

أقول: والروايات في القصص التي أعقبت تحريم الخمر في الإسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.

أما هؤلاء الذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أن هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن في الآيات إشعارا أو دلالة على أن رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت آية المائدة.

نعم ورد في بعض الروايات أن عليا (عليه السلام) وعثمان بن مظعون كانا قد حرما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، وقد ذكر في الملل والنحل رجالا من العرب حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، وقد وفق الله سبحانه بعض هؤلاء أن أدرك الإسلام ودخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي وقد أدرك الإسلام، ومنهم صفوان بن أمية بن محرث الكناني وعفيف بن معديكرب الكندي والأسلوم اليامي وقد حرم الزنا والخمر معا، وهؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحق على لسانهم، وأما عامتهم في الجاهلية كعامة أهل الدنيا يومئذ إلا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتى حرمها الله سبحانه في كتابه.

والذي تفيده آيات الكتاب العزيز أنها حرمت في مكة قبل الهجرة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي﴾: الأعراف: 33 والآية مكية، وإذا انضمت إلى قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾: البقرة: 291، وهي آية مدنية نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شك في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، وإذا تدبرنا في سياق آيات المائدة، وخاصة فيما يفيده قوله: ﴿فهل أنتم منتهون﴾ وقوله: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا﴾ الآية انكشف أن ما ابتلي به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام عصيانا حتى نزل قوله تعالى: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم﴾: البقرة: 178.

فقد تبين أن في هذه الروايات كلاما من وجهين: أحدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مر في الرواية الأولى أنها قبيل غزوة أحد، وفي بعض الروايات: أن ذلك بعد غزوة الأحزاب.

لكن الأمر في ذلك سهل في الجملة لإمكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة وإن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كل الموافقة.

وثانيهما: من جهة دلالتها على أن الخمر لم تكن بمحرمة قبل نزول آية المائدة أو أنها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس وخاصة للصحابة مع صراحة آية الأعراف المحرمة للإثم وآية البقرة المصرحة بكونها إثما، وهي صراحة لا تقبل تأويلا.

بل من المستبعد جدا أن تنزل حرمة الإثم بمكة قبل الهجرة في آية تتضمن جمل المحرمات أعني قوله: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾: الأعراف: 33، ثم يمر عليه زمان غير يسير، ولا يستفسر المؤمنون معناه من نبيهم ولا يستوضحه المشركون وأكبر همهم النقض والاعتراض على كتاب الله مهما توهموا إليه سبيلا.

بل المستفاد من التاريخ أن تحريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للخمر كتحريمه الشرك والزنا كان معروفا عند المشركين يدل على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلاد بن قرة وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بني قيس خرج إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا. وبت كما بات السليم مسهدا. القصيدة.

فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسلم فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من إرب، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فإن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فلا يبقى لهذه لروايات إلا أن تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الآيات مع الذهول عن آية الأعراف، وللمفسرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة.

وبعد اللتيا والتي فالكتاب نص في تحريم الخمر في الإسلام قبل الهجرة، ولم تنزل آية المائدة إلا تشديدا على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهي الإلهي وإقامة حكم الحرمة.

وفي تفسير العياشي: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قيل له: روي عنكم: أن الخمر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون.

وفيه: عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أتي عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة فسأل عليا فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حد أنا من أهل هذه الآية: ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات - جناح فيما طعموا﴾ فقرأ الآية حتى استتمها فقال له علي (عليه السلام): كذبت لست من أهل هذه الآية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، وليس يأكلون ولا يشربون إلا ما يحل لهم. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن أبي الربيع عنه (عليه السلام)، ورواه أيضا الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن سنان عنه (عليه السلام)، وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.

وقوله (عليه السلام): ( ما طعم أهلها فهو حلال لهم، إلخ ) منطبق على ما قررناه في البيان السابق من معنى الآية فراجع.

وفي تفسير الطبري، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربع آيات: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر﴾ الآية فتركوها ثم نزلت: ﴿تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا﴾ فشربوها ثم نزلت الآيتان في المائدة: ﴿إنما الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون﴾.

أقول: ظاهره نسخ آية النحل لآية البقرة ثم نسخ آيتي المائدة لآية النحل، وأنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد.

وفي الكافي، والتهذيب، بإسنادهما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا.

وفي الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله عز وجل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس - من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾ قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلما تقمرت به حتى الكعاب والجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها.

وفيه: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر.

أقول: والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولفظها: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواها البيهقي وغيره، وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأن كل مسكر حرام، وأن كلما يقامر عليه فهو ميسر.

وفي تفسير العياشي: عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: سألته عن النبيذ والخمر بمنزلة واحدة هما؟ قال: لا، إن النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إن الله حرم الخمر قليلها وكثيرها كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحرم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأشربة المسكر، وما حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد حرم الله.

وفي الكافي، والتهذيب، بإسنادهما عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لإثمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، وفي رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.

أقول: والأخبار في ذم الخمر والميسر من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.