الآيات 87-89

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿87﴾ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴿88﴾ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾

بيان:

الآيات الثلاثة وعدة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع ومائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الأحكام، وهي جميعا كالمتخللة بين الآيات المتعرضة لقصص المسيح (عليه السلام) والنصارى، وهي لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال وتمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، وأما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي.

وكذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلة في معناها، وتستقل عنها الآية الأولى وإن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى، ولعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الآيات جميعا في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الأولى مع الثالثة، وأما الآية الثانية فكأنها من تمام الآية الأولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى: ﴿واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون﴾ بل وصدرها حيث يشتمل على العطف، وعلى الأمر بأكل الحلال الطيب الذي تنهى الآية الأولى عن تحريمه واجتنابه، وبذلك تلتئم الآيتان معنى وتتحدان حكما ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي، وإما بمنع قهري، وإما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.

وقال أيضا: أصل الحل حل العقدة، ومنه قوله عز وجل: ﴿واحلل عقدة من لساني﴾، وحللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولا وأحله غيره، قال عز وجل: ﴿أو تحل قريبا من دارهم، وأحلوا قومهم دار البوار﴾، ويقال: حل الدين وجب أداؤه، والحلة القوم النازلون وحي حلال مثله، والمحلة مكان النزول، وعن حل العقدة استعير قولهم: حل الشيء حلا قال الله تعالى: ﴿وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا﴾، وقال تعالى: ﴿هذا حلال وهذا حرام﴾، انتهى.

فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة وكذا التقابل بين الحل والحرم أو الإحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذي هو معنى الحرمة وغيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز والإباحة، واللفظان أعني الحل والحرمة من الحقائق العرفية قبل الإسلام دون الشرعية أو المتشرعة.

والآية أعني قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا﴾ ﴿إلخ﴾، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم وتحريم، ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا وذلك إما بتشريع قبال تشريع، وإما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم ومنع ومنازعة لله سبحانه في سلطانه واعتداء عليه ينافي الإيمان بالله وآياته، ولذلك صدر النهي بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فإن المعنى: لا تحرموا ما أحل الله لكم وقد آمنتم به وسلمتم لأمره.

ويؤيده أيضا قوله في ذيل الآية التالية: ﴿واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون﴾.

وإضافة قوله: ﴿طيبات﴾ إلى قوله: ﴿ما أحل الله لكم﴾ - مع أن الكلام تام بدونه - للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه، ونقض لإيمانهم بالله وتسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والشريعة التي جاء بها حيث قال: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾: الأعراف: 175.

وبهذا الذي بينا يتأيد أولا: أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هو الإلزام والالتزام بترك المحللات.

وثانيا: أن المراد بالحل مقابل الحرمة ويعم المباحات والمستحبات بل والواجبات قضاء لحق المقابلة.

وثالثا: أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله: ﴿طيبات ما أحل الله لكم﴾ إضافة بيانية.

ورابعا: أن المراد بالاعتداء في قوله: ﴿ولا تعتدوا﴾ هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته والتسليم له وتحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق: ﴿تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون﴾: البقرة: 292، وقوله في ذيل آيات الإرث: ﴿تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين﴾: النساء: 14، والآيات - كما ترى - تعد الاستقامة والالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى ولرسوله ممدوحة، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداء وتعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه.

فمحصل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه والامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الإيمان بالله وآياته ويخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لأجلها، وهو اعتداء والله لا يحب المعتدين.

قوله تعالى: ﴿ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله: ﴿ولا تعتدوا﴾ يجري مجرى التأكيد لقوله: ﴿لا تحرموا، إلخ﴾.

وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها ولاستلذاذ منها قبال تركها واجتناب تناولها تقشفا وترهبا فيكون معنى الآية: لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى، ولا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف والإفراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة، ويعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات ولا تقترفوا المحرمات، وبعبارة أخرى: لا تحرموا ما أحل الله لكم، ولا تحللوا ما حرم الله عليكم.

فكل من المعنيين وإن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها وسياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق وأينما وقع.

قوله تعالى: ﴿وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا﴾ إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله: ﴿وكلوا﴾ على قوله: ﴿لا تحرموا﴾ أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار والتأكيد لمضمون الآية السابقة، ويؤيده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله: ﴿حلالا طيبا﴾، وهو يحاذي قوله في الآية السابقة: ﴿طيبات ما أحل الله﴾، وكذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: ﴿واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنين﴾ وقوله في الآية السابقة: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وقد مر بيانه.

وعلى هذا فقوله: ﴿كلوا﴾ ﴿إلخ﴾، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، وتخصيص قوله: ﴿كلوا﴾ بعد تعميم قوله: ﴿لا تحرموا طيبات﴾ ﴿إلخ﴾، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، والمراد بالأكل مطلق التصرف فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذي أو بسائر وجوه التصرف، وقد تقدم مرارا أن استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع.

وإما أن يكون المراد - ومن الممكن ذلك - الأكل بمعناه الحقيقي، ويكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، وقد عمم النهي في الآية الأولى للأكل وغيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهي يعم محللات الأكل وغيرها على حد سواء.

وقوله: ﴿مما رزقكم الله﴾ لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولا لقوله: ﴿كلوا﴾ وقوله: ﴿حلالا طيبا﴾ حالين من الموصول وبذلك تتوافق الآيتان، وربما قيل: إن قوله: ﴿حلالا طيبا﴾ مفعول قوله: ﴿كلوا﴾ وقوله: ﴿مما رزقكم الله﴾ متعلق بقوله: ﴿كلوا﴾ أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله: ﴿حلالا﴾ وصفا لمصدر محذوف، والتقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك.

وربما استدل بعضهم بقوله: ﴿حلالا﴾ على أن الرزق يشمل الحلال والحرام معا وإلا لغا القيد.

والجواب: أنه ليس قيدا احترازيا لإخراج ما هو رزق غير حلال ولا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده، والنكتة في الإتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب والكف عنه على ما تقدم، وقد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية 27 من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الأعمال، والأيمان جمع يمين وهو القسم والحلف قال الراغب في المفردات: واليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره، قال تعالى: ﴿أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ انتهى، والتعقيد مبالغة في العقد وقرىء: عقدتم بالتخفيف، وقوله: ﴿في أيمانكم﴾ متعلق بقوله: ﴿لا يؤاخذكم﴾ أو بقوله: ﴿باللغو﴾ وهو أقرب.

والتقابل الواقع بين قوله: ﴿باللغو في أيمانكم﴾ وقوله: ﴿بما عقدتم الأيمان﴾ يعطي أن المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، وإنما يجري على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها وهو قولهم - وخاصة في قبيل البيع والشرى -: لا والله، بلى والله، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: والله لأفعلن كذا، وو الله لأتركن كذا.

هذا هو الظاهر من الآية، ولا ينافي ذلك أن يعد شرعا قول القائل: والله لأفعلن المحرم الفلاني، والله لأتركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنما هو إلحاق من جهة السنة، وليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه.

وأما قوله: ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ فلا يشمل إلا اليمين الممضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الآية: ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ فإنه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، ولا معنى للأمر بحفظ الأيمان التي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، وما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

قوله تعالى: ﴿فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - أو تحرير رقبة﴾، الكفارة هي العمل الذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى: ﴿نكفر عنكم سيئاتكم﴾: النساء: 31، قال الراغب: والكفارة ما يغطي الإثم ومنه كفارة اليمين، انتهى.

وقوله: ﴿فكفارته﴾ تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا: فإن حنثتم فكفارته كذا، وذلك لأن في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة، وليست هذه المعصية هي نفس اليمين، ولو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله: ﴿واحفظوا أيمانكم﴾ إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها.

ومنه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله: ﴿ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، وإنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها - أعني الحنث - بها، فقوله: ﴿فكفارته﴾ متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله: ﴿يؤاخذكم﴾ إلخ، عليه، ونظير هذا البيان جار في قوله: ﴿ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم﴾ وتقديره: إذا حلفتم وحنثتم.

وقوله: ﴿إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة﴾ خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع، ويدل قوله بعده: ﴿فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام﴾ على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، وإلا لغا التفريع في قوله: ﴿فمن لم يجد﴾ ﴿إلخ﴾، وكان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيام.

وفي الآية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى: ﴿ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم﴾ تقدم أن الكلام في تقدير: إذا حلفتم وحنثتم، وفي قوله: ﴿ذلك كفارة أيمانكم﴾ وكذا في قوله: ﴿كذلك يبين الله لكم﴾ نوع التفات ورجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الإلهي للناس إنما هو بوساطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان في ذلك حفظا لمقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان ما أوحي إليه للناس كما قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾: النحل: 44.

قوله تعالى: ﴿كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون﴾ أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها والعمل بها.

بحث روائي:

في تفسير القمي: في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ الآية: قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) وبلال وعثمان بن مظعون فأما أمير المؤمنين (عليه السلام) فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة، وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطلة؟ فقالت: ولمن أتزين؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟ ألا إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم - ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان - فكفارته إطعام عشرة مساكين - من أوسط ما تطعمون أهليكم - أو كسوتهم أو تحرير رقبة - فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام - ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم﴾.

أقول: وفي انطباق قوله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾ الآية، على حلفهم خفاء، وقد تقدم بعض الكلام فيه، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان، القصة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ولم يذكر الذيل فليتأمل فيه.

وفي الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) في حديث: أنه قال لمعاوية وأصحابه: أنشدكم بالله أ تعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾.

وفي المجمع، في الآية: قال المفسرون: جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم علي وأبو بكر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود الكندي وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية واسمها حولاء وكانت عطارة: أ حق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك. فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وأصحابه فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لم أومر بذلك، ثم قال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع فأنزل الله الآية.

أقول: ويظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب، وهي كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، وسبكها رواية واحدة.

وأما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون وأصحابه وفي بعضها أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي بعضها رجال من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطبته على تفصيلها متفرقة الجمل في الروايات، وكذلك الذي عقدوا عليه وهموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه كما في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة: إن ناسا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوا أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.

ولعل المراد بقوله في الرواية: واتفقوا على أن يصوموا النهار ﴿إلخ﴾، أن المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع.

والروايات وإن كانت مختلفة في مضامينها، وفيها الضعيف والمرسل والمعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد والتنسك، وأنه كان فيهم علي (عليه السلام) وعثمان بن مظعون، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: من رغب عن سنتي فليس مني، والله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري والدر المنثور وفتح القدير وأمثالها.

وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، وإني حرمت علي اللحم فنزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾.

وفيه: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي هو حرام علي، فقالت امرأته: هو علي حرام، قال الضيف: هو علي حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال النبي: (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أصبت فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾.

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، وهو شائع في روايات أسباب النزول، ومن الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

وفي تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما ولا حلالا فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، وأما الحلال فلا يتركه فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله لأن الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ فليس عليه شيء في يمينه من الحلال.

وفي الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول في قول الله عز وجل: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾ قال: ﴿اللغو﴾ قول الرجل: ﴿لا والله، وبلى والله﴾ ولا يعقد على شيء: . أقول: وروى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله، وعن محمد بن مسلم مثله وفيه: ولا يعقد عليها.

وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا - لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم﴾ في القوم الذين حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم﴾.

أقول: والرواية تشاكل ذيل الرواية الأولى التي أوردناها في صدر البحث غير أنها لا تنطبق على ظاهر الآية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، وقد قوبل في الآية قوله: ﴿باللغو في أيمانكم﴾ بقوله: ﴿بما عقدتم الأيمان﴾ ودل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، وهذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل: لا والله، وبلى والله، من غير أن يعقد على شيء، وأما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب.

على أن سياق الآية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين والأمر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير.