الآيات 57-66

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿57﴾ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴿58﴾ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴿59﴾ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ﴿60﴾ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ﴿61﴾ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿62﴾ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴿63﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿64﴾ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿65﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ﴿66﴾

بيان:

الآيات تنهى عن اتخاذ المستهزءين بالله وآياته من أهل الكتاب والكفار أولياء وتعد أمورا من مساوي صفاتهم ونقضهم مواثيق الله وعهوده وما يلحق بها بما يناسب غرض السورة الحث على حفظ العهود والمواثيق وذم نقضها.

وكأنها ذات سياق متصل واحد وإن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقل من حيث النزول.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم﴾ (إلخ) قال الراغب: الهزء مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح انتهى، وقال: ولعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا، يلعب لعبا، انتهى، وإنما يتخذ الشيء هزؤا ويستهزء به إذا اتخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جد لإظهار أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكذا الشيء يلعب به إذا كان مما لا يتخذ لواحد من الأغراض الصحيحة العقلائية إلا أن يتخذ لبعض الشئون غير الحقيقية فالهزؤ بالدين واللعب به إنما هما لإظهار أنه لا يعدل إلا بعض الأغراض الباطلة غير الصحيحة وغير الجدية، ولو قدروه دينا حقا أو قدروا أن مشرعه والداعي إليه والمؤمنين به ذووا أقدام جد وصدق، واحترموا له ولهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتخاذهم الدين هزؤا ولعبا قضاء منهم بأن ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شيء إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا.

ومن هنا يظهر أولا: أن ذكر اتخاذهم الدين هزؤا ولعبا في وصف من نهي عن ولايتهم إنما هو للإشارة إلى علة النهي فإن الولاية التي من لوازمها الامتزاج الروحي والتصرف في الشئون النفسية والاجتماعية لا يلائم استهزاء الولي ولعبة بما يقدسه وليه ويحترمه ويراه أعز من كل شيء حتى من نفسه فمن الواجب أن لا يتخذ من هذا شأنه وليا، ولا يلقي أزمة التصرف في الروح والجسم إليه.

وثانيا: ما في اتخاذ وصف الإيمان في الخطاب في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ من المناسبة لمقابلته بقوله: ﴿الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا﴾ وكذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله: ﴿دينكم﴾.

وثالثا: أن قوله: ﴿واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ بمنزلة التأكيد لقوله: ﴿لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا﴾ إلخ، بتكراره بلفظ أعم وأشمل فإن المؤمن وهو الآخذ بعروة الإيمان لا معنى لأن يرضى بالهزء واللعب بما آمن به فهؤلاء إن كانوا متلبسين بالإيمان - أي كان الدين لهم دينا - لم يكن لهم بد من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتخاذهم أولياء.

ومن المحتمل أن يكون قوله: ﴿واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾ إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات: ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾ والمعنى: واتقوا الله في اتخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، والمعنى الأول لعله أظهر.

قوله تعالى: ﴿وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا﴾ إلخ تحقيق لما ذكر أنهم يتخذون دين الذين آمنوا هزوا ولعبا، والمراد بالنداء إلى الصلاة الأذان المشروع في الإسلام قبل الصلوات المفروضة اليومية، ولم يذكر الأذان في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع - كما قيل -.

والضمير في قوله ﴿اتخذوها﴾ راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله: ﴿إذا ناديتم﴾ أعني المناداة، ويجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير والتأنيث، وقوله: ﴿ذلك بأنهم قوم لا يعقلون﴾ تذييل يجري مجرى الجواب عن فعلهم وبيان أن صدور هذا الفعل أعني اتخاذ الصلاة أو الأذان هزوا ولعبا منهم إنما هو لكونهم قوما لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحققوا ما في هذه الأركان والأعمال العبادية الدينية من حقيقة العبودية وفوائد القرب من الله، وجماع سعادة الحياة في الدنيا والعقبى.

قوله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله﴾ إلى آخر الآية قال الراغب في مفردات القرآن: نقمت الشيء بالكسر ونقمته بالفتح إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة، قال تعالى: ﴿وما نقموا إلا أن أغناهم الله، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، هل تنقمون منا﴾ الآية والنقمة: العقوبة قال تعالى: ﴿فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم﴾ انتهى.

فمعنى قوله: ﴿هل تنقمون منا إلا أن آمنا﴾ ﴿إلخ﴾: هل تنكرون أو تكرهون منا إلا هذا الذي تشاهدونه وهو أنا آمنا بالله وما أنزله وإنكم فاسقون؟ نظير قول القائل: هل تكره مني إلا أني عفيف وأنك فاجر، وهل تنكر مني إلا أني غني وأنك فقير؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة والإزدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلا أنا مؤمنون وأن أكثركم فاسقون.

وربما قيل: إن قوله: ﴿وأن أكثركم فاسقون﴾ بتقدير لام التعليل والمعنى: هل تنقمون منا إلا لأن أكثركم فاسقون؟.

وقوله: ﴿أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل﴾ في معنى ما أنزل إلينا وإليكم، ولم ينسبه إليهم تعريضا بهم كأنهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه ولم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم وليسوا بأهلها.

ومحصل المعنى: أنا لا نفرق بين كتاب وكتاب مما أنزله الله على رسله فلا نفرق بين رسله، وفيه تعريض لهم أنهم يفرقون بين رسل الله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما كانوا يقولون: آمنوا بما أنزل على المؤمنين وجه النهار واكفروا آخره، قال تعالى: ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا﴾: النساء: 115.

قوله تعالى: ﴿قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله﴾ إلى آخر الآية ذكروا أن هذا أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب أولئك المستهزءين اللاعبين بالدين على طريق التسليم أخذا بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله وما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لأنهم شر مكانا وأضل عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الإلهي والمسخ بالقردة والخنازير وعبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلا بما هو دونه في الشر، وهم المؤمنون في إيمانهم على تقدير تسليم أن يكون إيمانهم بالله وكتبه شرا، ولن يكون شرا.

فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، ولعلها استعيرت للعاقبة والصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله: ﴿بشر من ذلك مثوبة﴾ بقوله: ﴿عند الله﴾ فإن الذي عند الله هو أمر ثابت غير متغير وقد حكم به الله وأمر به، قال تعالى: ﴿وما عند الله باق﴾: النحل: 96، وقال تعالى: ﴿لا معقب لحكمه﴾: الرعد: 41، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عند الله سبحانه.

وفي الكلام شبه قلب، فإن مقتضى استواء الكلام أن يقال: إن اللعن والمسخ وعبادة الطاغوت شر من الإيمان بالله وكتبه وأشد ضلالا، دون أن يقال: إن من لعنه الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت شر مكانا وأضل إلا بوضع الموصوف مكان الوصف، وهو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿ولكن البر من آمن بالله﴾ الآية.

وبالجملة فمحصل المعنى أن إيماننا بالله وما أنزله على رسله إن كان شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من ذلك يجب عليكم أن تنقموه وهو النعت الذي فيكم.

وربما قيل: إن الإشارة بقوله: ﴿ذلك﴾ إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله: ﴿هل تنقمون منا﴾ وعلى هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، والمعنى هل أنبئكم بمن هو شر من المؤمنين لتنقموهم؟ وهم أنتم أنفسكم، وقد ابتليتم باللعن والمسخ وعبادة الطاغوت.

وربما قيل: إن قوله: ﴿من ذلك﴾ إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله ﴿هل تنقمون منا﴾ أي هل أنبئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة وجزاء؟ هو ما ابتليتم به من اللعن والمسخ وغير ذلك.

قوله تعالى: ﴿وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به﴾ إلى آخر الآية يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم وإضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: وإذا جاءوكم قالوا آمنا أي أظهروا الإيمان والحال أنهم قد دخلوا عليكم مع الكفر وقد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند الدخول والخروج وهو الكفر لم يتغير عنه وإنما يظهرون الإيمان إظهارا، والحال أن الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقا من الغدر والمكر.

فقوله: ﴿وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به﴾ في معنى قولنا: لم يتغير حالهم في الكفر، والضمير في قوله: ﴿هم قد خرجوا﴾ جيء به للتأكيد، وإفادة تمييزهم في الأمر وتثبيت الكفر فيهم.

وربما قيل: إن المعنى أنهم متحولون في أحوال الكفر المختلفة.

قوله تعالى: ﴿وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت﴾ إلى آخر الآية، الظاهر أن المراد بالإثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين والقول في معارف الدين بما يوجب الكفر والفسوق على ما يشهد به ما في الآية التالية من قوله: ﴿عن قولهم الإثم وأكلهم السحت﴾.

وعلى هذا فالأمور الثلاثة أعني الإثم والعدوان وأكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول والفعل، فهم يقترفون الذنب في القول وهو الإثم القولي، والذنب في الفعل وهو إما فيما بينهم وبين المؤمنين وهو التعدي عليهم، وإما عند أنفسهم كأكلهم السحت، وهو الربا والرشوة ونحو ذلك ثم ذم ذلك منهم بقوله: ﴿لبئس ما كانوا يعملون﴾ ثم أتبعه بتوبيخ الربانيين والأحبار في سكوتهم عنهم وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام والمعاصي وهم عالمون بأنها معاص وذنوب فقال: ﴿لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون﴾.

وربما أمكن أن يستفاد من قوله: ﴿عن قولهم الإثم وأكلهم السحت﴾ عند تطبيقه على ما في الآية السابقة: ﴿يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت﴾ حيث ترك العدوان في الآية الثانية أن الإثم والعدوان شيء واحد، وهو تعدي حدود الله سبحانه قولا تجاه المعصية الفعلية التي أنموذجها أكلهم السحت.

فيكون المراد بقوله: ﴿يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت﴾ إراءة سيئة قولية منهم وهي الإثم والعدوان، وسيئة أخرى فعلية منهم وهي أكلهم السحت.

والمسارعة مبالغة في معنى السرعة وهي ضد البطء، والفرق بين السرعة والعجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أن السرعة أمس بعمل الأعضاء والعجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع والخشوع، والخوف والخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضد البطء، ويستعمل في الأجسام والأفعال، يقال: سرع بضم الراء فهو سريع وأسرع فهو مسرع، وأسرعوا صارت إبلهم سراعا نحو أبلدوا، وسارعوا وتسارعوا، انتهى.

وربما قيل: إن المسارعة والعجلة بمعنى واحد غير أن المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، وأن استعمال المسارعة في المقام - وإن كان مقام الذم وكانت العجلة أدل على الذم منها - إنما هو للإشارة إلى أنهم يستعملونها كأنهم محقون فيها، انتهى ولا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية، ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الأحكام، وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنية كما تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾: الآية البقرة: 160، في الجزء الأول من هذا الكتاب وفي موارد أخر.

والآية أعني قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة﴾ تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم: ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ يأبى عن ذلك، ويدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شيء من أمر الرزق أما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر والمذلة، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش وسعة من الرزق ورفاهية من الحال.

وإما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، ونكدت حالهم، واختل نظام حياتهم، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أيضا يأباه سياق الآيات فإن الظاهر أن الآيات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.

وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا﴾: البقرة: 254، وقوله تعالى: ﴿وأقرضوا الله قرضا حسنا﴾: المزمل - 20، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه وإحياء دعوته.

وقد قالوا ذلك سخرية واستهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أقرب إلى النظر.

وكيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غل اليد والمغلوبية عند بعض الحوادث مما لا يأباه تعليمهم الديني والآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوز أن يكون الأمور معجزا لله سبحانه وصادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الأنبياء كآدم وغيره.

فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادىء في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها ويتجرأ بها.

وأما قوله: ﴿غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا﴾ فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، وهو مغلولية اليد وانسلاب القدرة على ما يحبه ويشاؤه، وعلى هذا فقوله: ﴿ولعنوا بما قالوا﴾ عطف تفسير على قوله: ﴿غلت أيديهم﴾ فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، ولعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره.

وربما احتمل كون قوله: ﴿غلت أيديهم﴾ إلخ إخبارا عن وقوع كلمة العذاب وهو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: ﴿يد الله مغلولة﴾ عليهم، والوجه الأول أقرب من الفهم.

وأما قوله: ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ فهو جواب عن قولهم: ﴿يد الله مغلولة﴾ مضروب في قالب الإضراب.

والجملة أعني قوله: ﴿يداه مبسوطتان﴾ كناية عن ثبوت القدرة، وهو شائع في الاستعمال.

وإنما قيل: ﴿يداه﴾ بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: ﴿يد الله مغلولة﴾ بصيغة الإفراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: ﴿قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين﴾: ص - 75 لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، ونحو قولهم: ﴿لا يدين بها لك﴾ فإن ذلك مبالغة في نفي كل قدرة ونعمة.

وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة والنعمة والملك وغير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، وإنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشئون المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الإنفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها، وانتساب الملك إليها من حيث التصرف والوضع والرفع وغير ذلك.

فما يثبته الكتاب والسنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ الآية، وقوله: ﴿أن تسجد لما خلقت بيدي﴾: ص - 75 يراد به القدرة وكمالها، وقوله: ﴿بيدك الخير﴾: آل عمران: 26، وقوله: ﴿فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء﴾: يس: 83، وقوله: ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾: الملك: 1، إلى غير ذلك يراد بها الملك والسلطة، وقوله: ﴿لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾: الحجرات: 1 يراد بها الحضور ونحوه.

وأما قوله: ﴿ينفق كيف يشاء﴾ فهو بيان لقوله: ﴿يداه مبسوطتان﴾.

قوله تعالى: ﴿وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا﴾ هذه الجملة وما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا﴾ على ما يعطيه السياق.

فأما قوله: ﴿وليزيدن كثيرا منهم﴾ إلخ، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم وتفوههم بمثل قولهم: ﴿يد الله مغلولة﴾ ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء والكفر من قديم أيامهم، وقد أورثهم ذلك البغي والحسد، ولا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا وكفرا.

واليهود كانت ترى لنفسها السيادة والتقدم على الدنيا، وكانت تتسمى بأهل الكتاب، وتتباهى بالربانيين والأحبار، وتفتخر بالعلم والحكمة، وتسمي سائر الناس أميين، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها وكتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها وبين العرب في الجاهلية - ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية، ومشتملا على الحق الصريح والتعليم العالي والهداية التامة ثم أحست بما يتعقبه من ذلتها واستكانتها في نفس ما كانت تتعزز وتتباهى به وهو العلم والكتاب.

لا جرم تستيقظ من رقدتها، وتطغى عاديتها، ويزيد طغيانها وكفرها.

فنسبة زيادة طغيانهم وكفرهم إلى القرآن إنما هي بعناية أن أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان والكفر بمشاهدة نزول القرآن وإدراك ما يتضمنه من المعارف الحقة والدعوة الظاهرة.

على أن الله سبحانه ينسب الهداية والإضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كقوله: ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾: الإسراء: 20 وقال في خصوص القرآن: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا﴾: الإسراء: 82 والإضلال أو ما يشبهه إنما يعد مذموما إذا كان إضلالا ابتدائيا، وأما ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق ومعصية من الضال يوجب نزول السخط الإلهي عليه ويستدعي حلول ما هو أشد مما هو فيه من الضلال فلا ضير في الإضلال بهذا المعنى ولا ذم يلحقه كما يشير إليه قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾: البقرة: 26، وقوله: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾: الصف - 5.

وبالأخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم وكفرهم إلى سلب التوفيق وعدم تعلق العناية الإلهية بردهم مما هم فيه من الطغيان والكفر بآيات الله إلى التسليم والإيمان بإجابة الدعوة الحقة، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾: البقرة: 26 في الجزء الأول من هذا الكتاب.

ولنرجع إلى أول الكلام فقوله: ﴿وليزيدن كثيرا منهم﴾ إلخ، كأنه مسوق لرفع الاستبعاد والتعجب الناشىء من اجتراء هؤلاء المتسمين بأهل الكتاب، والمدعين أنهم أبناء الله وأحباؤه على ربهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: يد الله مغلولة.

وإن من المحتوم اللازم لهم هذه الزيادة في الطغيان والكفر التي هذه الكلمة من آثارها وسيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، وهذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم ونون التأكيد في قوله: ﴿ليزيدن﴾.

وفي تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعي فإن الكفر من آثار الطغيان وتبعاته.

قوله تعالى: ﴿وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾ ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصة وإن كانت الآيات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامة، وعلى هذا فالمراد بالعداوة والبغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب والآراء، وقد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله: ﴿ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة - إلى أن قال - فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾: الجاثية: 17 وغير ذلك من الآيات.

والعداوة كان المراد بها البغض الذي يستصحب التعدي في العمل، والبغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار وإن لم يستعقب التعدي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الذي يوجب الظلم على الغير والبغض الذي يقصر عنه.

وفي قوله تعالى: ﴿إلى يوم القيامة﴾ ما لا يخفى من الدلالة على بقاء أمتهم إلى آخر الدنيا.

قوله تعالى: ﴿كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله﴾ إيقاد النار إشعالها، وإطفاؤها إخمادها، والمعنى واضح، ومن المحتمل أن يكون قوله: ﴿كلما أوقدوا﴾ إلخ بيانا لقوله: ﴿وألقينا بينهم العداوة﴾ إلخ فيعود المعنى إلى أنه كلما أثاروا حربا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم.

والآية على ما يدل عليه السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله سبحانه، وعلى المسلمين بما أنهم مؤمنون بالله وآياته، وأما الحروب التي ربما أمكن أن يوقدوا نارها لا لأمر الدين الحق بل لسياسة أو تغلب جنسي أو ملي فهي خارجة عن مساق الآية.

قوله تعالى: ﴿ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين﴾ السعي هو السير السريع، وقوله: ﴿فسادا﴾ مفعول له أي يجتهدون لإفساد الأرض، والله لا يحب المفسدين فلا يخليهم وأن ينالوا ما أرادوه من فساد الأرض فيخيب سعيهم، والله أعلم.

فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، وما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.

قوله تعالى: ﴿ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم﴾ إلخ عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة، وختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة والدنيا، وهي جنة النعيم ونعمة الحياة السعيدة.

والمراد بالتقوى بعد الإيمان التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التي تحتم السخط الإلهي وعذاب النار، وهي الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التي أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيئات التي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، وينطبق على قوله سبحانه: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما﴾: النساء: 31.

قوله تعالى: ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ المراد بالتوراة والإنجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى (عليهما السلام) دون ما بأيدي القوم من الكتب التي يذكر أنه لعبت بها يد التحريف.

والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذي يسميه القرآن بالزبور، وغيره من الكتب.

وأما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة والإنجيل فلا وجه لعدهما معه وتمني أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، والقول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا، كما أن العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمنة للناسخ والمنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا، غاية الأمر أن بعض الأحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالإقامة وهي حفظ الشيء على ساق، ولا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة والإنجيل إنما يصح حين كانت الشريعتان لم تنسخا بشريعة أخرى، والإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة.

على أن قوله تعالى: ﴿وما أنزل إليهم من ربهم﴾ يعدهم منزلا إليهم، وغير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم.

فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة والإنجيل سائر الكتب وأقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود وغيره، والمراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى، والاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدأ والمعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف والكتمان والترك الصريح، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

وأما قوله تعالى: ﴿لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ فالمراد بالأكل التنعم مطلقا سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره، واستعمال الأكل في مطلق التصرف والتنعم من غير مزاحم شائع في اللغة.

والمراد من فوقهم هو السماء، ومن تحت أرجلهم هو الأرض، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء والأرض وإحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾: الأعراف: 96.

والآية من الدليل على أن لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان وأعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكوني من حيث ارتباطه بالنوع الإنساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم.

ويدل على ذلك آيات أخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين﴾: الروم - 42 وقوله تعالى ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾: الشورى - 30 إلى غير ذلك وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى ﴿منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون﴾ الاقتصاد أخذ القصد وهو التوسط في الأمور فالأمة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين والتسليم لأمر الله.

والكلام مستأنف أريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله والكفر بآيات الله ونزول السخط واللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم وهو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم وأن منهم أمة معتدلة ليست على هذا النعت وهذا من نصفة الكلام الإلهي حيث لا يضيع حقا من الحقوق ويراقب إحياء أمر الحق وإن كان قليلا.

وقد تعرض لذلك أيضا في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله وأن أكثركم فاسقون وقوله وترى كثيرا منهم يسارعون إلخ وقوله وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا.

بحث روائي:

في تفسير القمي، : في قوله تعالى وإذا جاءوكم قالوا آمنا الآية قال نزلت في عبد الله بن أبي لما أظهر الإسلام وقد دخلوا بالكفر.

أقول: ظاهر السياق أنها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلا أن تكون نزلت وحدها.

وفيه في قوله تعالى ﴿وهم قد خرجوا به﴾ الآية قال قال قد خرجوا به من الإيمان.

وفي الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له بلغني أنك تقول من طلق لغير السنة أنك لا ترى طلاقه شيئا فقال أبو جعفر (عليه السلام) ما أقول بل الله عز وجل يقوله أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا شرا منكم إن الله يقول لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار - عن قولهم الإثم وأكلهم السحت وفي تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر بن رياح زعم أنك قلت: لا طلاق إلا ببينة؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك وتعالى يقول: أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا أشر منكم! إن الله يقول: ﴿لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار﴾.

وفي مجالس الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة﴾: فقال كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر.

أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب وعن حماد عنه (عليه السلام).

وفي تفسير القمي، : قال: قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الأول، فرد الله عليهم فقال: ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ أي يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص وله البداء والمشية.

أقول: وروى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن إسحاق بن عمار عمن سمعه عن الصادق (عليه السلام).

وفي تفسير العياشي، عن هشام المشرقي عن أبي الحسن الخراساني (عليه السلام) قال: إن الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثم قال: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ فقلت له: أ فله يدان هكذا؟ وأشرت بيدي إلى يده فقال: لو كان هكذا كان مخلوقا.

أقول: ورواه الصدوق في العيون، بإسناده عن المشرقي عنه (عليه السلام).

وفي المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت جعفرا (عليه السلام) فقلت: قوله عز وجل: ﴿يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي﴾؟ قال: اليد في كلام العرب القوة والنعمة قال: ﴿واذكر عبدنا داود ذا الأيد، والسماء بنيناها بأيد أي بقوة وإنا لموسعون﴾ قال: ﴿وأيدهم بروح منه﴾ قال: أي قواهم، ويقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل﴾ الآية: يعني اليهود والنصارى ﴿لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ قال: قال: من فوقهم المطر، ومن تحت أرجلهم النبات.

وفي تفسير العياشي، : في قوله تعالى: ﴿منهم أمة مقتصدة﴾ الآية عن أبي الصهباء الكبرى قال: سمعت علي بن أبي طالب دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ثم دعا أسقف النصارى فقال: أنشدك بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رجله البركة، وكان يبرىء الأكمة والأبرص، وأزال ألم العين، وأحيا الميت، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون فقال: دون هذا أصدق. فقال علي (عليه السلام): بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى؟ فقال: لا والله ولا فرقة واحدة فقال علي (عليه السلام): كذبت والله الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة إن الله يقول: ﴿منهم أمة مقتصدة - وكثير منهم ساء ما يعملون﴾ فهذه التي تنجو.

وفيه، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات، الجماعات.

وفيه: قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا فيه قرآنا: ﴿ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا - لكفرنا عنهم سيئاتهم إلى قوله ساء ما يعملون﴾، وتلا أيضا: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ يعني أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).