الآيات 8-14

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿8﴾ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿9﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿10﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿11﴾ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴿12﴾ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿13﴾ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴿14﴾

بيان:

اتصال الآيات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من كليات أمورهم في آخرتهم ودنياهم منفردين ومجتمعين.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا﴾ الآية نظيره الآية التي في سورة النساء ﴿يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾: النساء: 153.

وإنما الفرق بين الآيتين أن آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة ونحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، وهذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن وبغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه ودحض لحقه.

وهذا الاختلاف في غرض البيان هو الذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال في آية النساء: ﴿كونوا قوامين بالقسط شهداء لله﴾ وفي آية المائدة: ﴿كونوا قوامين لله شهداء بالقسط﴾.

وذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة وأن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لأحد بغير الحق لسابق حب وهوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة وانحرافا عن العدل وإن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم وحيف، ولذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، وفرعه على الأمر بالقيام لله، وأمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، وفرعه على الأمر بالقيام بالقسط.

ولذلك أيضا فرع في آية المائدة على الأمر بالشهادة بالقسط قوله: ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله﴾ فدعا إلى العدل، وعده ذريعة إلى حصول التقوى، وعكس الأمر في آية النساء ففرع على الأمر بالشهادة لله قوله: ﴿فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ فنهى عن اتباع الهوى وترك التقوى، وعده وسيلة سيئة إلى ترك العدل.

ثم حذر في الآيتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: ﴿وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ أي إن لم تتقوا، وقال في آية المائدة: ﴿واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ وأما معنى القوامين لله شهداء بالقسط إلخ فقد ظهر في الكلام على الآيات السابقة.

قوله تعالى: ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: ﴿اعدلوا﴾ والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ الجملة الثانية أعني قوله: ﴿لهم مغفرة﴾، إنشاء للوعد الذي أخبر عنه بقوله: ﴿وعد الله﴾، وهذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: ﴿وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾: الفتح: 29 لا لما قيل: إنه لكونه خبرا، بعد خبر فإن ذلك خطأ، بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا كآية سورة الفتح.

قوله تعالى: ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾ قال الراغب: الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، والآية تشتمل على نفس الوعيد، وتقابل قوله تعالى في الآية السابقة: ﴿لهم مغفرة وأجر عظيم﴾.

وتقييد الكفر بتكذيب الآيات للاحتراز عن الكفر الذي لا يقارن تكذيب الآيات الدالة، ولا ينتهي إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن أمره إلى الله إن يشأ يغفره وإن يشأ يعذب عليه فهاتان الآيتان وعد جميل للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيعاد شديد للذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وبين المرحلتين مراحل متوسطة ومنازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها وعقباها.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا﴾ إلخ هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار والمسلمين كغزوات بدر وأحد والأحزاب وغير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون من قتل المؤمنين وإمحاء أثر الإسلام ودين التوحيد.

وما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - وسيجيء قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ أمر بالتقوى والتوكل على الله، والمراد بالحقيقة النهي والتحذير الشديد عن ترك التقوى وترك التوكل على الله سبحانه، والدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة أخذ الميثاق من بني إسرائيل ومن الذين قالوا إنا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الإلهي وابتلاء الله إياهم باللعن وتقسية القلوب، ونسيان حظ من دينهم، وإغراء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة.

ولم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، ويجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها وينتبهوا بأن اليهود والنصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه ولم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله، واثقوه بالسمع والطاعة، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم وأن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، ويتركون ما يكرهه لهم، وطريقه طاعة رسلهم بالإيمان بهم، وترك متابعة غير الله ورسله، ممن يدعو إلى نفسه والخضوع لأمره من الجبابرة والطغاة وغيرهم حتى الأحبار والرهبان فلا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.

لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فأبعدوا من رحمة الله وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الأركان والأصول وذلك كمن يصلي لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحق.

فلا ما بقي في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، ولا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، ولا غنى عن الدين ولا سيما أصوله وأركانه.

فمن هنا يعلم أن المقام يقتضي أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى وترك التوكل على الله بذكر هذه القصة ودعوتهم إلى الاعتبار بها.

ومن هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الأمور التشريعية والتكوينية جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله في أحكامه الدينية وما أتاهم به وبينه لهم رسوله ويكلوا أمر الدين والقوانين الإلهية إلى ربهم، ويكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، والتصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الأسباب والمسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد بها وإعطاء استقلال وربوبية لها، وينتظروا ما يريده الله ويختاره لهم من النتائج بتدبيره ومشيئته.

قوله تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا﴾ الآية قال الراغب: النقب في الحائط والجلد كالثقب في الخشب.

قال: والنقيب الباحث عن القوم وعن أحوالهم، وجمعه نقباء.

والله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الأمة ما جرى على بني إسرائيل من إحكام دينهم وتثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، وبعث النقباء، وإبلاغ البيان، وإتمام الحجة ثم ما قابلوه به من نقض الميثاق، وما قابلهم به الله سبحانه من اللعن وتقسية القلوب إلخ.

فقال: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل﴾ وهو الذي يذكره كثيرا في سورة البقرة وغيرها: ﴿وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا﴾ والظاهر أنهم رؤساء الأسباط الاثني عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولون أمورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولي الأمر إلى الأفراد في هذه الأمة لهم المرجعية في أمور الدين والدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، ولا يشرعون شريعة وإنما ذلك إلى الله ورسوله ﴿وقال الله إني معكم﴾ إيذان بالحفظ والمراقبة فيتفرع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه ويخذلهم إن عصوه ولذلك ذكر الأمرين جميعا فقال: ﴿لئن أقمتم الصلاة وءاتيتم الزكاة وءامنتم برسلي وعزرتموهم﴾ والتعزير هو النصرة مع التعظيم، والمراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته ودعوته كعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر من بعثه الله بين موسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وأقرضتم الله قرضا حسنا﴾ وهو الإنفاق المندوب دون الزكاة الواجبة ﴿لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد.

ثم قال: ﴿فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل﴾. قوله تعالى: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية﴾، ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، وهو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الآية من أنواع النقم التي نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن وتقسية القلوب مما تستقيم فيه النسبة، وبعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذي يعني بقوله: ﴿ولا تزال تطلع على خائنة منهم﴾ فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التي على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذي ضلوه هو سبيل السعادة التي بها عمارة دنياهم وأخراهم.

فقوله: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم﴾ الظاهر أنه هو الكفر الذي توعد الله عليه في الآية السابقة، ولفظة ﴿ما﴾ في قوله: ﴿فبما﴾ للتأكيد، ويفيد الإبهام لغرض التعظيم أو التحقير أو غيرهما، والمعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم ﴿لعناهم﴾ واللعن هو الإبعاد من الرحمة ﴿وجعلنا قلوبهم قاسية﴾ وقسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة وهي صلابتها والقسي من القلوب ما لا يخشع لحق ولا يتأثر برحمة، قال تعالى: ﴿أ لم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون﴾: الحديد: 16.

وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه﴾ بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، وأفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين ﴿ونسوا حظا مما ذكروا به﴾ ولم يكن إلا حظا من الأصول التي تدور على مدارها السعادة، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، وخاتمية نبوة موسى، ودوام شريعة التوراة، وبطلان النسخ والبداء إلى غير ذلك.

﴿ولا تزال تطلع على خائنة منهم﴾ أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم ﴿إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين﴾ وقد تقدم مرارا أن استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التي هي الشعب والأمة.

قوله تعالى: ﴿ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا﴾، قال الراغب: غري بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.

وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم، ويندبهم إلى الإشراف على الآخرة، والإعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها، وينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم والصلح حربا، وبدل المؤاخاة والموادة التي ندبوا إليها معاداة ومباغضة كما يقول: ﴿فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة﴾.

وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الأمم المسيحية وكالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

ولم يزل منذ رفع عيسى بن مريم (عليهما السلام)، واختلف حواريوه والدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، ولم يزل ينمو ويكثر حتى تبدل إلى الحروب والمقاتلات والغارات وأنواع الشرد والطرد وغير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى تهدد الأرض بالخراب والإنسانية بالفناء والانقراض.

كل ذلك من تبدل النعمة نقمة وإنتاج السعي ضلالا ﴿وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون﴾.