الآية 114
قوله تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾
القراءة والحجة:
قرأ " فسوف يؤتيه " - بالياء - أبو عمر، وحمزة، وقتيبة، وخلف. الباقون بالنون من قرأ بالياء حمله على قوله: " ومن يفعل ". ومن قرأ بالنون حمله على المعنى. أخبر الله تعالى: أنه لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. والنجوى هو ما ينفرد به الاثنان أو الجماعة سرا كان أو جهرا. ويقال: نجوت الشئ: إذا خلصته وألقيته. يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير، وغيره قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه * سيرضيكما منها سنام وغاربه (1)
ونجوت فلانا: إذا استنكهته قال الشاعر:
نجوت مجالدا فوجدت منه * كريح الكلب مات حديث عهد (2)
ونجوت الوتر واستنجيته إذا خلصته كما قال الشاعر:
فتبازت فتبازخت لها * جلسة الأعسر يستنجي الوتر (3)
وأصله كله من النجوة، وهوما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلا:
فمن بنجوته كمن بعقوته * والمستكن كمن يمشي بقرواح (4)
ويقول: ما أنجا فلان شيئا وما نجا شيئا منذ أيام إذا لم يتغوط. والتقدير في الآية " لا خير في كثير " مما يديرونه بينهم من الكلام " إلا " كلام " من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ".
الاعراب:
قال الزجاج يحتمل موضع من نصبا وأن يكون خفضا، فالخفض على إلا في نجوى من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح. والنصب على أن يكون استثناء منقطعا بمعنى لكن كأنه قال: لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير. وطعن بعضهم على الوجه الأول بأن قال لا يجوز أن يعطف بالأعلى الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد. وقال الفراء: يحتمل الخفض على تقدير لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة فيكون النجوى على هذا هم الرجال المتناجون كما قال: (ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم) (5) وكما قال: " واذهم نجوى " (6) والنصب على أن يجعل النجوى فعلا فيكون نصبا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا، لان (من) خلاف النجوى ومثله قول الشاعر:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها * أعيت جوابا وما بالدار من أحد (7)
إلا الاواري لاياما أبينها * والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ويحتمل وجها ثالثا أن يكون رفعا كما قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير والا العيس (8)
وأقوى الوجوه أن تجعل (من) في موضع خفض بالرد النجوى، ويكون بمعنى المتناجين، خرج مخرج السكري والجرحى، ويكون التقدير لا خير في كثير من نجواهم يعني من المتناجين يا محمد إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس، فان أولئك فيهم الخير. وقوله: " ومن يفعل ذلك " إشارة إلى ما تقدم من الامر بالصدقة والمعروف والاصلاح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلب مرضاة الله ونصب ابتغاء على أنه مفعول له وتقديره لابتغاء مرضاة الله، وهو في معنى المصدر، لان التقدير ومن يتبع ذلك ابتغاء مرضاة الله، وقوله: " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " يعني ثوابا جزيلا في المستقبل.
1- انظر 1: 194.
2- لسان العرب: (نجا).
3- انظر: 218، اللسان (بحا).
4- اللسان " نجا " ويروى. جلسة الجازر. قائله عبد الرحمن بن حسان.
5- قائله عبيد بن الأبرص. مر في 1: 218. اللسان نجا.
6- سورة المجادلة، آية / 7.
7- سورة الاسرى، آية 47.
8- أنظر 1: 44 (وأصيلالا) فيها روايتان أخريان: أصيلانا وأصيلا كي. والبيتان للنابغة من معلقته المشهورة.