الآية 94

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾

القراءة والحجة:

قرأ أهل المدينة، وابن عباس، وخلف (السلم) بغير الف. الباقون بألف. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما فتثبتوا (بالثاء) من الثبوت في الموضعين ههنا وفي الحجرات الباقون (فتبينوا) من التبين. وقرئ من طريق النهرواني لست مؤمنا - بفتح الميم الثانية - الباقون بكسرها وبه قرأ أبو جعفر محمد بن علي (ع) على ما حكاه البلخي. فمن قرأ بالثاء من الثبوت. فإنما أراد التثبت الذي هو خلاف العجلة. ومن قرأ بالياء والنون، أراد من التبيين الذي هو النظر، والكشف عنه حتى يصح. والمعنيان متقاربان، لان المثبت متبين، والمتبين مثبت. ومن قرأ (السلم) بلا الف أراد الاستسلام. ومنه قوله: " والقوا إلى الله يومئذ السلم " (1) أي استسلموا. وقوله: " ورجلا سلما " أي مستسلما. وروى أبان عن عاصم بكسر السين. والمعنى خلاف الحرب. ومن قرأ بألف ذهب إلى التحية. ويحتمل أن يكون المراد لا تقولوا لمن اعتزلكم وكف عن قتالكم: لست مؤمنا. قال أبو الحسن: يقولون: إنما فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا.

المعنى:

خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين الذين إذا ضربوا في الأرض بمعنى ساروا فيها للجهاد وأن يتأنوا في قتال من لا يعلمون كفره، ولا ايمانه، وعن قتل من يطهر الايمان وان ظن به الكفر باطنا. ولا يعجلوا حتى يبين لهم أمرهم فإنهم ان بادروا ربما أقدموا على قتل مؤمن. ولا يقتلوا من استسلم لهم، وكف عن قتالهم، واظهر انه أسلم. والا يقولوا لمن هذه صورته: لست مؤمنا، فيقتلوه طلب عرض " الحياة الدنيا " يعني متاع الحياة الدنيا الذي لا بقاء له. فان عند الله مغانم كثيرة وفواضل جسيمة فهو خير لكم ان أطعتم الله فيما أمركم به، وانتهيتم عما نهاكم عنه.

النزول:

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال عمر بن شبة: نزلت في مرداس رجل من غطفان، غشيتهم خيل المسلمين، فاستعصم قومه في الجبل، وأسهل هو مسلما مستسلما، فاظهر لهم اسلامه، فقتلوه، وأخذوا ما معه. وقال أبو عمر والواقدي، وابن إسحاق. نزلت في عامر بن الأضبط الأشجعي لقيته سرية لأبي قتادة فسلم عليه فشد محلم بن جثامة فقتله لاحنة كانت بينهم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وآله وسأل ان يستغفر له فقال النبي صلى الله عليه وآله لا غفر الله لك. وانصرف باكيا فما مضت عليه سبعة أيام حتى هلك فدفن، ثم لفظته الأرض فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وأخبروه فقال (ع): إن الأرض تقبل من هو شر من محلم صاحبكم، لكن الله أراد أن يعظم من حرمتكم، ثم طرحوه بين صد في جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: لحق ناس رجلا في غنيمة له، فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنمه. فنزلت الآية. قال ابن عباس: فكان الرجل يسلم في قومه، فإذا غزاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وهرب أصحابه وقف، وأظهر تحية الاسلام (السلام عليكم) فيكفون عنه، فلما خالف بعضهم، وقتل من أظهر ذلك نزلت فيه الآية وبه قال السدي: وقال الرجل السلام عليكم، أشهد ان لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله. فشد عليه أسامة بن زيد وكان أمير القوم، فقتله، فنزلت الآية. وقال قوم: كان صاحب السرية المقداد. وقال آخرون: ابن مسعود. وكل واحد من هذه الأسباب يجوز أن يكون صحيحا، ولا يقطع بواحد منها بعينه. والذي يستفاد من ذلك أن من اظهر الشهادتين لا يجوز لمؤمن أن يقدم على قتله، ولا إذا أظهر ما يقوم مقامها من تحية الاسلام.

المعنى:

وقوله (كذلك كنتم من قبل) اختلفوا في معناه، فقال قوم: كما كان هذا الذي قتلتموه بعدما القى إليكم السلام مستخفيا من قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم فمن الله عليكم، ذهب إليه سعيد بن جبير وقال ابن زيد معناه كما كان هذا المقتول كافرا فهداه الله، كذلك كنتم كفارا، فهداكم الله. وبه قال الجبائي. وقال المغربي: معناه كذلك كنتم أذلاء آحادا إذا صار الرجل منكم وحده، خاف أن يختطف. وقوله: (فمن الله عليكم) قيل في معناه قولان:

أحدهما: قال سعيد بن جبير: فمن الله عليكم باظهار دينه، واعزاز أهله حتى أظهرتم الاسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك. وقال السدي: معناه تاب الله عليكم " فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا " معناه انه كان عليما بما تعملونه قبل أن تعملوه. قال البلخي في الآية دلالة على أن المجتهد لا يضل، لان النبي صلى الله عليه وآله لم يضلل مقدادا ولا تبرأ منه. ومن قرأ " لست مؤمنا " بفتح الميم الثانية، قال: معناه لا تقولوا لمن استسلم لكم لسنا نؤمنك. وهو وجه حسن.


1- سورة الرعد: آية 7 وسورة حم السجدة: آية 43.