الآية 47

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً﴾

المعنى:

هذه الآية خطاب لأهل الكتاب: اليهود، والنصارى أمرهم الله بان يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وما أنزل عليه من القرآن، وغيره من الاحكام مصدقا لما معهم من التوراة والإنجيل اللذين تضمنا صفة النبي صلى الله عليه وآله وصحة ما جاء به. وقوله: (من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها) قيل في معناه أربعة أقوال:

أحدها: قال ابن عباس وعطية العوفي وقتادة: معناه نمحو آثارها حتى تصير كالقفا. ونجعل عيونها في قفاها، فتمشي القهقرى.

الثاني: قال الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن أبي نجيح، والسدي، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (ع): أن معناه نطمسها عن الهدى، فنردها على أدبارها في ضلالتها ذما لها (1) بأنها لا تصلح أبدا، وهم وإن كانوا في الضلالة في الحال فتوعدهم بأنهم متى لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله ازدادوا بذلك ضلالا إلى ضلالتهم وإياسا لهم أن يؤمنوا فيما بعد.

الثالث: قال الفراء، واختاره البلخي، والحسين بن علي المغربي: إن معناه نجعل في وجوههم الشعر كوجه القرود.

الرابع: قال قوم: معناه أن يردهم إلى الشام من الحجاز الذي هو مسكنهم، وهو أضعف الوجوه، لأنه ترك للظاهر، وخلاف أقوال المفسرين: والادبار: جمع دبر. فان قيل: كيف يجوز تأويل من قال نجعلها كالاقفاء وهذا لم يجز على ما توعد به؟قيل عنه جوابان:

أحدهما: لأنه آمن جماعة من أولئك الكفار كعبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن ربيعة، وأسد بن عبيد، ومخيرق (2)، وغيرهم. وأسلم كعب في أيام عمر حين سمع هذه الآية، فاما من لم يؤمن منهم فإنه يفعل به ذلك في الآخرة على أنه تعالى قال: أو نلعنهم، والمعنى أنه يفعل أحدهما، ولقد لعنهم الله بذلك. وقوله: " كما لعنا أصحاب السبت " يعني المسخ الذي جرى عليهم، ذكره البلخي.

والجواب الثاني: أن الوعيد يقع بهم في الآخرة، لان الله تعالى لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا تعجيلا للعقوبة ذكره البلخي أيضا، والجبائي.

اللغة:

والطمس هو الدثر، وهو عفو الأثر، والطامس، والداثر، والدارس بمعنى واحد. وطمست أعلام الطريق تطمس طموسا: إذا دثرت، قال كعب بن زهير: من كل نضاحة الذفرى إذا غرق عرضتها طامس الاعلام مجهول (3) والعين التي هي الجارحة عبارة عن الشق بين الجفنين. والادبار جمع دبر، وأصله من الدبر يقولون دبره يدبره دبرا فهو دابر: إذا صار خلفه. والدبر: خلاف القبل. والدابر: التابع. ومنه قوله: " والليل إذا أدبر " (4) أي تبع النهار. فاما أدبر فمعناه ولى. والدبور: الريح، لأنها تدبر الكعبة إلى جهة المشرق. والدبار الهلاك. ودابرة الطائر: الإصبع التي من خلف. والدبر: النحل. والدبر: المال الكثير، والتدبير، لأنه احكام ادبار الأمور، وهي عواقبها.

المعنى:

وقوله: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) قال السدي، وقتادة، والحسن: معناه نمسخهم قردة وإنما كنى عنهم بقوله: " أو نلعنهم " بعد أن خاطبهم بقوله: " يا أيها الذين " لامرين:

أحدهما: التصرف في الخطاب، والانتقال من مواجهة إلى كناية كما قال: " حتى إذا كنتم في الفلك " فخاطب ثم قال: " وجرين بهم " (5) فكنى.

والثاني: أن يعود الضمير على أصحاب الوجوه، لأنه بمنزلة المذكور. وقوله: " وكان أمر الله مفعولا " قيل في معناه قولان:

أحدهما: ان كل أمر من أمور الله من وعد أو وعيد أو مخبر خبر فإنه يكون على ما أخبر به، ذكره الجبائي.

والثاني: ان معناه " وكان أمر الله مفعولا " أي الذين يأمر به بقوله: " كن " وذلك يدل على أن كلامه محدث. وقال البلخي: معناه أنه إذا أراد شيئا من طريق الاجبار. والاضطرار كان واقعا لا محالة. لا يدفعه دافع، كقبض الأرواح، وقلب الأرض وارسال الحجارة، والمسخ وغير ذلك، فاما ما يأمر به على وجه الاختيار، فقد يقع، وقد لا يقع. ولا يكون في ذلك مغالبة له لأنه تعالى لو أراد إلجاءه إلى ما أمره به لقدر عليه.

1- انظر 2، 76 تعليقة 2، 3.

2- في المخطوطة (ومآبها).

3- في المطبوعة: (وثعلبة بن سعنه)، (وأحد بن عبيد)، (ومخبريق).

4- ديوانه: 9 نضح الرجل العرق سال منه. الذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الاذن، والاعلام: أعلام الطريق.

5- سورة المدثر: آية 33.