الآية 29
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾
القراءة والاعراب:
قرأ أهل الكوفة: " تجارة " نصبا، الباقون: بالرفع، فمن رفع ذهب إلى أن معناه: إلا أن تقع تجارة، ومن نصب فمعناه: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو أموال تجارة، وحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ويكون الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، كما قال الشاعر: إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (1) وتقديره: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب، ذكره أبو علي النحوي. وقال الرماني التقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، ولم يبين. والقول ما قال أبو علي، لان الأموال ليست تجارة. ومن شأن خبر كان أن يكون هو اسمها في المعنى. وقيل: الرفع أقوى، لأنه أدل في الاستثناء على الانقطاع، فان التحريم لاكل المال بالباطل على الاطلاق. وفي الناس من زعم أن نصبه على قول الشاعر: إذا كان طعنا بينهم وعناقا (2) أي إذا كان الطعن طعنا. قال الرماني: وهذا ليس بقوي، لان الاضمار قبل الذكر ليس يكثر في مثل هذا، وإن كان جائزا، فالرفع يغني عن الاضمار فيه.
المعنى:
وفي معنى قوله: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قولان:
أحدهما: قال السدي: بالربا، والقمار، والبخس، والظلم، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).
الثاني: قال الحسن: بغير استحقاق من طريق الاعواض. وكان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، إلى أن نسخ ذلك بقوله في سورة النور: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم.. " إلى قوله: " جميعا أو أشتاتا " (3) والأول أقوى، لان ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فليس هو أكل بالباطل. وقيل: معناه التخاون، ولذلك قال: " بينكم ". وقوله: " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " فيه دلالة على بطلان قول من حرم المكاسب، لأنه تعالى حرم أكل الأموال بالباطل، وأحله بالتجارة على طريق المكاسب. ومثل قوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا " (4) وقيل في معنى التراضي بالتجارة قولان:
أحدهما: إمضاء البيع بالتفرق، أو بالتخاير بعد العقد في قول شريح، وابن سيرين، والشعبي، لقوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيع خيار. وربما قالوا: أو يقول أحدهما للآخر اختر، وهو مذهبنا.
الثاني: إمضاء البيع بالعقد - على قول مالك بن أنس، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، - ومحمد - بعلة رده إلى عقد النكاح، ولا خلاف أنه لا خيار فيه بعد الافتراق، وقيل: معناه إذا تغابنوا فيه مع التراضي فإنه جائز. وقوله: " ولا تقتلوا أنفسكم " قيل فيه: ثلاثة أقوال:
أحدها: قال عطاء، والسدي، وأبو علي الجبائي، والزجاج: لا يقتل بعضهم بعضا من حيث كانوا أهل دين واحد، فهم كالنفس الواحدة، كما يقول القائل: قتلنا ورب الكعبة، ومعناه قتل بعضنا، لأنه صار كالقتل لهم، ومثله قوله: " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم " (5).
الثاني: قال البلخي: فيه نهي عن قتل نفسه في حال غضب، أو زجر، والأول أقوى، لأنه أكثر وأغلب، وأيضا فإنه إذا حرم عليه قتل غيره من أهل دينه، لأنه بمنزلة قتل نفسه، فقد حرم عليه قتل نفسه.
الثالث: قال قوم: معناه: لا تقتلوا أنفسكم، بان تهلكوها بارتكاب الآثام، والعدوان في أكل المال بالباطل، وغيره من ارتكاب المعاصي، التي تستحقون بها العقاب. وروي عن أبي عبد الله (ع): أن معناه لا تخاطروا بنفوسكم في القتال، فتقاتلون من لا تطيقونه. وقوله: " إن الله كان بكم رحيما " قال ابن عباس: كان صلة، والمعنى إن الله غفور رحيم، ويحتمل أن يكون المراد: " إن الله كان بكم رحيما " حيث كلفكم الامتناع من أكل المال بالباطل الذي يؤدي إلى العقاب، وحرم عليكم قتل نفوسكم التي حرمها عليكم، ويعلم انه رحيم فيما بعد بدليل آخر.1- في المخطوطة والمطبوعة (لصاحبه) يدل (على صاحبه).
2- لم يعرف قائله معاني القرآن للفراء 1: 186 وسيبويه 1: 22 وصدره: ولله قومي أي قوم لحرة.
3- لم يعرف قائله معاني القرآن 1: 186 وصدره: أعيني هلا تبكيان عفاقا. وعفاق: اسم رجل.
4- سورة النور: آية 61.
5- سورة البقرة: آية 275.