الآية 1
مائة وسبعون آية كوفي. وخمس وسبعون بصري وهي مدينة كلها.
وقد روي عن بعضهم أنه قال: كلما في القرآن من قوله: (يا أيها الناس) نزل بمكة، والأول قول قتادة، ومجاهد، وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعه، وقال بعضهم: ان جميعها نزلت بالمدينة إلا آية واحدة وهي قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (1) فإنها نزلت بمكة حين أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يأخذ مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ويسلمها إلى عمه العباس.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
القراءة والحجة:
قرأ أهل الكوفة (تساءلون به) بتخفيف السين، الباقون بتشديدها، وقرأ حمزة وحده " والأرحام " بجر الميم، الباقون بفتحها. فمن قرأ من أهل الكوفة " تساءلون به " بالتخفيف فوجهه ان أصله تتساءلون، فحذف احدى التاءين وهي الأصلية: لان الأخرى للمضارعة، وإنما حذفوها لاستثقالهم إياها في اللفظ فحذفت لان الكلام غير ملتبس. ومن شدد أدغم احدى التاءين في السين، لقرب مكان هذه من هذه.
المعنى:
ومعنى " تساءلون به " تطلبون حقوقكم به " والأرحام " القراءة المختارة عند النحويين النصب في الأرحام على تقدير: واتقوا الأرحام. وتكون (2) معطوفة على موضع " به " ذكره أبو علي الفارسي، فأما الخفض فلا يجوز عندهم إلا في ضرورة الشعر كما قال الشاعر أنشده سيبويه:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا * فاذهب فما بك والأيام من عجب
فجروا الأيام عطفا على موضع الكاف في " بك " وقال آخر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا * وما بينها والكعب غوط نفانف (3)
فعطف الكعب على الهاء والألف في (بينها) وهو ظاهر على مكنى وقال آخر:
وان الله يعلمني ووهبا * وانا سوف نلقاه سوانا
فعطف وهبا على الياء في يعلمني، ومثل ذلك لا يجوز في القرآن والكلام. قال المازني: لان الثاني في العطف شريك للأول، فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكا للثاني جاز وإن لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له لم يجز، قال: فكما لا تقول: مررت بزيد وذاك (4) لا تقول مررت بك وزيد. وقال أبو علي الفارسي: لان المخفوض حرف متصل غير منفصل فكأنه كالتنوين في الاسم فقبح أن يعطف باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. ويفسد من جهة المعنى من حيث إن اليمين بالرحم لا يجوز، لان النبي صلى الله عليه وآله قال: (لا تحلفوا بآبائكم) فكيف تساءلون به وبالرحم على هذا وقال إسماعيل بن إسحاق: الحلف بغير الله أمر عظيم، وان ذلك خاص لله تعالى، وهو المروي في أخبارنا. وقال إبراهيم النخعي وغيره: انه من قولهم: نشدتك بالله وبالرحم. وقال ابن عباس، والسدي، وعكرمة، والحسن، والربيع، والضحاك، وابن جريج، وابن زيد، وقتادة: المعنى والأرحام فصلوها. وهذه الآية خطاب لجميع المكلفين من البشر. وقوله: (واتقوا ربكم) فيه وعظ بان يتقى عصيانه بترك (5) ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه. وحذر من قطع الأرحام لما أراد من الوصية بالأولاد والنساء والضعفاء، فأعلمهم انهم جميعا من نفس واحدة، فيكون ذلك داعيا لهم إلى لزوم أمره وحدوده في ورثتهم ومن يخلفون بعدهم، وفي النساء والأيتام عطفا لهم عليهم. ثم اخبر تعالى انه خلق الخلق من نفس واحدة فقال: " الذي خلقكم من نفس واحدة " والمراد بالنفس ههنا آدم عند جميع المفسرين: السدي وقتادة ومجاهد وغيرهم. وقوله: (وخلق منها زوجها) يعني حواء. روي أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم، ذهب إليه أكثر المفسرين. وقال أبو جعفر (ع): خلقها من فضل الطينة التي خلق منها آدم، ولفظ النفس مؤنث بالصيغة، ومعناه التذكير ههنا، ولو قيل نفس واحد لجاز.
المعنى واللغة:
وقوله: (وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) معنى بث نشر، يقال: بث الله الخلق. ومنه قوله: " كالفراش المبثوث " (6) وذلك يدل على بث. وبعض العرب يقول أبث الله الخلق، ويقال بثثتك سري، وأبثثتك سري لغتان. وقوله: (إن الله كان عليكم رقيبا) أي حافظا تقول رقب يرقب رقابا وإنما قال: " كان عليكم " ولفظ كان يفيد الماضي لأنه أراد أنه كان حفيظا على من تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين، وانه كان عالما بما صدر منهم، لم يخف عليه منه شئ. والرقيب الحافظ في قول مجاهد. وقال ابن زيد: الرقيب العالم، والمعنى متقارب، يقال: رقب يرقب رقوبا ورقبا ورقبة. قال أبو داود: كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد (7) وقيل في معنى " الذي تسألون به " قولان:
أحدهما: قال الحسن ومجاهد وإبراهيم: هومن قولهم: أسألك بالله والرحم، فعلى هذا يكون عطفا على موضع به كأنه قال: وتذكرون الأرحام في التساؤل.
الثاني: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (ع): واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فعلى هذا يكون معطوفا على اسم الله تعالى، ووجه النعمة في الخلق من نفس واحدة انه أقرب إلى أن يتعطفوا ويأمن بعضهم بعضا ويحامي بعضهم عن بعض، ولا يأنف بعضهم عن بعض، لما بينهم من القرابة والرجوع إلى نفس واحدة، لان النفس الواحدة ههنا آدم (ع) باجماع المفسرين: الحسن وقتادة والسدي ومجاهد. وجاز من نفس واحدة لان حواء من آدم على ما بيناه، فرجع الجميع آدم وإنما أنث النفس والمراد بها آدم لان لفظ النفس مؤنثة، وان عني بها مذكر كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى * وأنت خليفة ذاك الكمال (8)
فانث على اللفظ، وقد حكينا عن أكثر المفسرين: ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن إسحاق: ان حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (المرأة خلقت من ضلع، وانك ان أردت أن تقيمها كسرتها وان تركتها وفيها عوج استمعت بها). وروي عن أبي جعفر (ع) أن حواء خلقت من فضل طينة آدم (ع).
1- سورة النساء: آية 57.
2- في المطبوعة: (أو يكون).
3- قائله مسكين الدارمي معاني القرآن للقراء 1: 253، والانصاف: 193 والخزانة 3382. السواري جمع سارية وهي الأسطوانة والغوط: المطمئن من الأرض. والنفانف جمع نفنف وهو الهواء بين الشيئين * والبيت كناية عن طول قامتهم.
4- في النسخ المخطوطة والمطبوعة (كذلك) والظاهر ما ذكرنا.
5- في المطبوعة: (بقول).
6- سورة القارعة: آية 4.
7- مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 113، واللسان (رقب) وهو من أبيات في نعت النور الأبيض. الرقباء جمع رقيب وهو أمين أصحاب الميسر يحفظ ضربهم بالقداح. والضرباء جمع ضريب وهو: الضارب بالقداح. وقيل أن الضمير في (أيديهم) يعود إلى الضرباء. وقيل إنه يعود إلى الرقباء، وهو الأصح.
8- انظر 2: 449 تعليقة. 3.