الآية 259

واما قوله ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فإنه حدثني أبي عن النضر بن سويد عن يحيي الحلبي عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (ع) قال لما عملت بنو إسرائيل المعاصي وعتوا عن امر ربهم فأراد الله ان يسلط عليهم من يذلهم ويقتلهم فأوحى الله تعالى إلى إرميا يا إرميا ما بلد انتخبته من بين البلدان وغرست فيه من كرائم الشجر فاخلف فأنبت خرنوبا؟(1) فأخبر إرميا اخيار علماء بني إسرائيل فقالوا له راجع ربك ليخبرنا ما معنى هذا المثل؟

فصام إرميا سبعا، فأوحى الله إليه يا ارميا اما البلد فبيت المقدس واما ما انبت فيها فبنو إسرائيل الذين أسكنتهم فيها فعملوا بالمعاصي وغيروا ديني وبدلوا نعمتي كفرا، فبى حلفت لامتحننهم بفتنة يظل الحكيم فيها حيرانا ولأسلطن عليهم شر عبادي ولادة وشرهم طعاما فليسلطن عليهم بالجبرية فيقتل مقاتليهم ويسبي حريمهم ويخرب ديارهم التي يغترون بها ويلقي حجرهم الذي يفتخرون به على الناس في المزابل مأة سنة، فأخبر ارميا أحبار بني إسرائيل فقالوا له راجع ربك فقل له ما ذنب الفقراء والمساكين والضعفاء، فصام ارميا سبعا ثم اكل اكلة فلم يوح إليه شئ ثم صام سبعا واكل اكلة ولم يوح إليه شئ ثم صام سبعا فأوحى الله إليه يا ارميا لتكفن عن هذا أو لأردن وجهك في قفاك، قال ثم أوحى الله تعالى إليه قل لهم لأنكم رأيتم المنكر فلم تنكروه، فقال ارميا رب اعلمني من هو حتى آتيه وآخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا قال إيت موضع كذا وكذا فانظر إلى غلام أشدهم زمانا وأخبثهم ولادة وأضعفهم جسما وشرهم غذاءا فهو ذلك، فاتى إرميا ذلك البلد فإذا هو غلام في خان زمن(2) ملقى على مزبلة وسط الخان وإذا له أم تزني بالكسر وتفت الكسر في القصعة وتحلب عليه خنزيرة لها ثم تدنيه من ذاك الغلام فيأكله، فقال ارميا إن كان في الدنيا الذي وضعه الله فهو هذا، فدنى منه فقال له ما اسمك؟ فقال بخت نصر(3)، فعرفه انه هو فعالجه حتى برأ ثم قال له تعرفني؟

قال لا أنت رجل صالح، قال انا ارميا نبي بني إسرائيل، أخبرني الله انه سيسلطك على بني إسرائيل فتقتل رجالهم وتفعل بهم كذا وكذا، قال فتاه في نفسه في ذاك الوقت ثم قال ارميا اكتب لي كتابا بأمان منك فكتب له كتابا، وكان يخرج في الجبل ويحتطب ويدخله المدينة ويبيعه.

فدعا إلى حرب بني إسرائيل فأجابوه وكان مسكنهم في بيت المقدس واقبل بخت نصر نحو بيت المقدس واجتمع إليه بشر كثير، فلما بلغ ارميا اقباله نحو بيت المقدس استقبله على حمار له ومعه الأمان الذي كتب له بخت نصر فلم يصل إليه ارميا من كثرة جنوده وأصحابه، فصير الأمان على قصبة ورفعها، فقال من أنت؟

فقال انا ارميا النبي الذي بشرتك بأنك سيسلطك الله على بني إسرائيل وهذا أمانك لي، قال اما أنت فقد امنتك واما أهل بيتك فانى ازمى من ههنا إلى بيت المقدس فان وصلت رميتي إلى بيت المقدس فلا أمان لهم عندي وان لم تصل فهم آمنون، وانتزع قوسه ورمى نحو بيت المقدس فحملت الريح النشابة حتى علقتها في بيت المقدس، فقال لا أمان لهم عندي، فلما وافى نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة وإذا دم يغلي وسطه كلما القي عليه التراب خرج وهو يغلي فقال ما هذا فقالوا هذا؟

دم نبي كان لله فقتله ملوك بني إسرائيل ودمه يغلي وكلما ألقينا عليه التراب خرج يغلي، فقال بخت نصر لأقتلن بني إسرائيل ابدا حتى يسكن هذا الدم وكان ذلك الدم دم يحيى بن زكريا (ع) وكان في زمانه ملك جبار يزني بنساء بني إسرائيل وكان يمر بيحيى بن زكريا فقال له يحيى اتق الله أيها الملك، لا يحل لك هذا فقالت له امرأة من اللواتي كان يزني بهن حين سكر " أيها الملك اقتل هذا " فأمر ان يؤتى برأسه فأتوا برأس يحيى (ع) في طشت وكان الرأس يكلمه ويقول له يا هذا اتق الله لا يحل لك هذا، ثم غلى الدم في طشت حتى فاض إلى الأرض فخرج يغلى ولا يسكن، وكان بين قتل يحيى وبين خروج بخت نصر مأة سنة، ولم يزل بخت نصر يقتلهم وكان يدخل قرية قرية فيقتل الرجال والنساء والصبيان وكل حيوان والدم يغلى ولا يسكن حتى أفناهم، فقال أبقي أحد في هذه البلاد؟

قالوا عجوز في موضع كذا وكذا فبعث إليها فضرب عنقها على الدم فسكن، وكانت آخر من بقي، ثم اتى بابل فبنى بها مدينة واقام وحفر بئرا فالقى فيها دانيال والقى معه اللبوة(4) فجعلت اللبوة تأكل من طين البئر ويشرب دانيال لبنها فلبث بذلك زمانا، فأوحى الله إلى النبي الذي كان ببيت المقدس ان اذهب بهذا الطعام والشراب إلى دانيال واقرأه مني السلام، قال وأين دانيال يا رب؟

قال في بئر ببابل في موضع كذا وكذا قال فاتاه فاطلع في البئر فقال يا دانيال، فقال لبيك صوت غريب قال إن ربك يقرؤك السلام وقد بعث إليك بالطعام والشراب فأدلاه إليه فقال دانيال " الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره الحمد لله الذي لا يخيب من دعاه الحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره الحمد له الذي يجزي بالاحسان إحسانا الحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة الحمد لله الذي يكشف حزننا (ضرنا ط) عند كربتنا الحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل منا الحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ساء ظننا بأعمالنا".

قال فأوري بخت نصر في نومه كأن رأسه من حديد ورجليه من نحاس وصدره من ذهب، قال فدعا المنجمين فقال لهم ما رأيت؟ قالوا ما ندري ولكن قص علينا ما رأيت؟

فقال وانا أجري عليكم الأرزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام، فأمر بهم فقتلوا، قال فقال له بعض من كان عنده، إن كان عند أحد شئ فعند صاحب الجب فان اللبوة لم تعرض له وهي تأكل الطين وترضعه فبعث إلى دانيال فقال ما رأيت في المنام؟

قال رأيت كان رأسك من حديد ورجليك من نحاس وصدرك من ذهب، قال هكذا رأيت فما ذاك؟

قال قد ذهب ملكك وأنت مقتول إلى ثلاثة أيام يقتلك رجل من ولد فارس، قال فقال له ان علي سبع مدائن، على باب كل مدينة حرس وما رضيت بذلك حتى وضعت بطة من نحاس على باب كل مدينة لا يدخل غريب الا صاحت عليه حتى يؤخذ قال فقال له ان الامر كما قلت لك قال فبث الخيل وقال لا تلقون أحدا من الخلق الا قتلتموه كائنا من كان وكان دانيال جالسا عنده، وقال لا تفارقني هذه الثلاثة أيام فان مضت قتلتك، فلما كان اليوم الثالث ممسيا اخذه الفم فخرج فتلقاه غلام كان يخدم ابنا له من أهل فارس وهو لا يعلم أنه من أهل فارس، فدفع إليه سيفه وقال له يا غلام لا تلقى أحدا من الخلق الا وقتلته وان لقيتني انا فاقتلني، فأخذ الغلام سيفه فضرب به بخت نصر ضربة فقتله.

فخرج إرميا على حماره ومعه تين قد تزوده وشئ من عصير فنظر إلى سباع البر وسباع البحر وسباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه ساعة ثم قال إني يحيي هذه الله بعد موتها وقد أكلهم السباع، فأماته الله مكانه وهو قول الله تبارك وتعالى " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال إني يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مأة عام ثم بعثه " اي أحياه فلما رحم الله بني إسرائيل وأهلك بخت نصر رد بني إسرائيل إلى الدنيا، وكان عزيز لما سلط الله بخت نصر على بني إسرائيل هرب ودخل في عين وغاب فيها وبقي ارميا ميتا مأة سنة ثم أحياه الله تعالى فأول ما أحيا منه عينيه في مثل غرقئ(5) البيض فنظر فأوحى الله تعالى إليه ﴿كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا﴾ ثم نظر إلى الشمس وقد ارتفعت فقال ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فقال الله تعالى ﴿بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ - اي لم يتغير - وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًاذ﴾ فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة تجمع إليه والى اللحم الذي قد اكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا وههنا ويلتزق بها حتى قام وقام حماره فقال ﴿أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.


1- الخرنوب بالضم والفتح شجرة برية ذات شوك وحمل كالتفاح لكنه بشع ق.

2- اي مخروبة.

3- بخت نصر بضم الباء وتشديد الصاد أصله بوخت ومعناه ابن ونصر اسم صنم لأنه كان وجد ملقى عنده فنسب إليه لأنه لم يعرف له أب ق ومجمع ج. ز.

4- اللبوة أنثى الأسد، ج - ز.

5- بكسر الغين بياض البيض. ج - ز.