مقدمة الطبعة الأولى

الأنبياء والرسُل في القرآن الكريم

إنّ النظرة الفاحِصَة إلى الكون والحياة والإنسان تشهد بأنّ الخلق لم يكن عبثًا وسدى، وأنّ الإنسان لم يُخلَق بلا غاية ولا هدف، إنّما خلقه الله سبحانه، وأتى به إلى فسيح هذا الوجود لغاية روحيّة عليا، وللوصول إلى كمالٍ معنوىّ ممكنٍ.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بمختلف التعابير قال سبحانه: (ؤما خَلَقْنَا السَّماءَ ؤالأرضَ ؤما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَؤيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ).(1) وقال سبحانه أيضًا: (أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا ؤأنَّكُمْ إلَيْنا لا تُرجَعُون).(2)

غير أنّ بلوغ تلك الغاية المنشودة يتوقف على أمرين:

1. مؤهلاتٍ تكوينية ذاتيةٍ كامنةٍ في وجود الإنسان، تبعثه بدافع من ذاته للسير باتجاه الكمال.

2. قادة أقوياءٍ متعلّمين بتعليمٍ من الله ومرسلين من جانبه لقيادة الإنسان وهدايته إلى ما خُلِق له، فإذا تجاوبَ العاملان الداخلىُّ والخارجىُّ تم سوقه إلى الهدف المنشود.

وهذا ممّا يشهد به العقل السليم، والذكر الحكيم.

غير أنّ قيادة الإنسان التي بُعِثَ من أجلها الأنبياء ليست أمرًا سهلاً يمكن القيام به لكلّ من هبّ ودبّ، بل القائم به لمّا كان يُفترضُ أن يكون أُسوة للناس في العلم والعمل، وجب أن يكون موصوفًا بأمثل الصفات وأكملها وأقواها، وأن يكون منزّهًا عن كلّ مَينٍ وشينٍ وعن كلّ نقصٍ وعيبٍ، وفي مقدمة كلّ ذلك يجب أن يكون عاملاً بما يقول، قائمًا بما يدعو إليه، مؤتمرًا بما يأمر به، منتهيًا عمّا ينهى عنه، وإلاّ لزلّ كلامه عن القلوب، كما يزل المطر عن الحَجر الصلد، ولما تحقّق هدفُ البعث والإرسال فانّ الناس يميلون بطبعهم إلى رجالٍ يُوصَفونَ بالمُثُل العُليا، ويرغبون في من يقرن منهم العلمَ بالعمل، فيما ينفرون بطبعهم عن ما يقابل هذا الطراز من الرجال وإن كانوا قمّةً في قوة الفكر، وحلاوة الكلام.

وهذا هو الذي دعا المسلمين إلى القول بوجوب عصمة الأنبياء والرسل عن الخطأ و الزلل وعن الإثم والعصيان.

وقد استشهدوا على ذلك بالذكر الحكيم، وحكم العقل السليم الذي لا يفارق الكتابَ الكريم.

فلأجل ذلك أخذت مسألة "العصمة" في كتب الكلام والتفسير مكانةً خاصةً، وأسهب المحقّقون فيه الكلام، وإن كان بين المسلمين من شذّ ولم يصف الأنبياء بالعصمة.

البحث عن العصمة من صميم الحياة

إنّ البحث عن "العصمة" ليس بحثًا عن مسائل جانبيةٍ لا تمتُّ إلى الحياة الإنسانية، خصوصًا الجانب المعنوي فيها، فانّها من الأمور التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقافة والحياة الإسلامية الحاضرة.

فإنّ البحث في العصمة بحثٌ عمّا يضمن سلامة هذه الثقافة، واستقامتها، وبالتالي بحثٌ عمّا يضمن مطابقة حياتنا الحاضرة مع ما أنزله الله من تشريع، وما تركه نبيّه الكريم من سنّة.

من هنا يكون من المحبَّذ المؤكَّد بل من اللازم الإمعان في حياة الأنبياء وسيرتهم، والإمعان في الآيات التي وردت في حقّهم، فهو بالاضافة إلى أنّه يعين على فهم حقيقة "العصمة"، ويؤكّد ارتباطها بسلامة الثقافة الإسلامية، امتثالاً لقوله سبحانه: (أفَلا يَتَدبَّرُونَ القُرآن).(3) وقوله سبحانه: (كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ؤلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْباب).(4) فالنظرة الفاحصة إلى الآيات الورادة في شأن الأنبياء، وكذا القصص المذكورة حولهم على الوجه العام، والآيات التي ترجع إلى عصمتهم من الخطأ والزلل، والإثم والعصيان بصورة خاصة يعتبر عبادة عمليةً يُثاب عليها المفكّر المتدبر فيها.

غير أنّه للأسف اتّخذ بعض الكتاب المتسرّعين موقفًا سلبيًا في مقابل العلماء الذين بحثوا عن "العصمة" ضمن تفاسيرهم أو كتبهم الاعتقادية فقال مستنكرًا، ومتهجّمًا عليهم:

"ما سمعنا عن أحد من الصحابة أنّه ناقش النبي في كيف أكل آدم من الشجرة؟ وكيف عصى ربّه؟ ولا ناقشوا الرسولَ في غير آدم من الأنبياء على هذا المنحى الذي نحاه المتأخرون، ولا والله ما كان أُولئك الصحابة أقلَّ معرفةً لمكانة الأنبياء من أُولئك المتأخّرين، ولا أقلَّ احترامًا وإجلالاً لشأنهم من أُولئك المتكلّفين مالا يعنيهم، والداخلين فيما ليس من شؤونهم.

وأمّا القلوب السقيمة فهي قلوب المتأخرين الذين فتح عليهم الشيطان بابًا واسعًا من فنون الجدل، وكثرة القيل والقال، والمماحَكات اللفظية وأقوال أهل الكتاب من اليهود أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء، وتحقيرًا لهم، ومشاقّة لهم، وكفرًا بهم وتقتيلاً.(5)

نحن لا نعلّق على هذا الكلام، لأنّه كلام ساقط جدًا، فانّ كاتبًا يدّعي الإسلام وفي الوقت نفسه يصف علماء الإسلام-الذين أوكل الله إليهم قيادة الأمّة الإسلامية-بأنّهم ممّن تأثروا بفتنة الشيطان، وجعل التدبّر في آيات الكتاب العزيز من وحي الشيطان، انسان متناقض لا يستحق كلامه الردّ والنقد.

والعجب أنّ هذا الكاتب (المجهول) استثنى من الفرق الإسلامية فرقةً واحدةً وُقُوا من كيد الشيطان ووساوسه وفتنته "وهم أهل الحديث المقتفون للأثر، الذين جعلوا عقولهم وآراءهم تحت حكم ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) استمساكًا بالعروة الوثقى والحبل المتين"(6)عزب عنه أنّ أحدًا من المسلمين لا يعدل عن السنّة إلى غيرها بعد القرآن الكريم وأنّ إنكار السنّة إنكار لنبوة النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه أبد الآبدين.

غير أنّ الكلام هو في تشخيص (الصحيح) عن غيره، و(الموضوع) عمّا عداه، فانّ تاريخ الحديث يكشف عن أنّ الحديث وقع في مشاكل كثيرة، فهذه هي المجسمة والمشبّهة لله تعالى بخلقه، يستندون إلى هذه الأحاديث المدؤنة في الصحاح والسنن، والمسانيد.

لا ذاكرة لكذوب!!

والذي أظن أنّ هذه المقدمة كتبت لغاية خاصة وهي الحطُّ من مكانة أهل البيت النبويّ وأئمتهم الذين فرض الله تعالى على الناس محبّتهم ومودّتهم، وجعلها أجر الرسالة إذ قال: (قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إلاّ الْمَؤدَّةَ فِي القُربى).(7) فانّ هذا الكاتب (المجهول) تارة يعرف اليهود بأنّهم أشدّ الناس كراهيةً للأنبياء وتحقيرًا لهم إلى آخر ما قال... ولازم ذلك التحقير أن لا يكون الأنبياء عندهم معصومين بل متهتكين لحرم الله.

وتارة يُشبّه المقتفين لآثار أهل البيت، باليهود، لأنّهم أثبتوا العصمة لأئمتهم كما أثبت اليهود العصمة للأنبياء تكريمًا لهم، وتعظيمًا لشأنهم.

فما هذا التناقضُ الصريح بين الكلامين ياترى؟! فلو كان اليهود-كما وصفهم في العبارة الأولى-من أشدّ الناس عداوةً للأنبياء وتحقيرًا لهم، لما أثبتوا للأنبياء العصمة التي هي من أعظم المواهب الإلهية المفاضة للإنسان. ولو كانت الشيعة كاليهود في القول بالعصمة فما معنى كون اليهود أشدّ الناس عداوة للأنبياء؟! أضف إلى ذلك أنّه بأىّ دليل ينسب إلى اليهود القول بالعصمة بل هم حسب نصوص التوراة زاعمين خلافها؟

فلأجل توقير الأنبياء وتكريمهم، وامتثال قوله سبحانه: (ليدبروا...) عمدنا إلى جمع الآيات المتعلّقة بعصمة الأنبياء والرسل، ما يدل منها على عصمتهم وما يتوهّم منه خلاف ذلك، ونحن نحاول بذلك سدّ فراغ ملموسٍ في المكتبة الإسلامية بهذه الصورة الملموسة.

على أنّه وإن كان ثلةٌ من علماء الإسلام القدامى نظير الشريف المرتضى (355-436 هـ) والخطيب الفخر الرازي (543-606 هـ) وغيرهما قد أشبعوا هذه المسألة بحثًا ودراسة، غير أنّ لكلِّ تأليفٍ مزيّتُه، كما أنّ كلّ مؤلّف يناسب عصره، وثقافة بيئته.

نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لما يحب ويرضى.

جعفر السبحاني

قم-الحوزة العلمية

شهر ذي القعدة 1408 هـ


1-ص: 27.

2-المؤمنون: 115.

3-النساء: 82.

4-ص: 29.

5-من مقدمة "عصمة الأنبياء" للرازي، بقلم كاتب مجهول الهوية، نشر دار المطبوعات الحديثة ـ جدّة.

6-من المقدمة أيضًا.

7-الشورى: 23.