السابع - الطلاق الثلاث

مما وقع الخلاف بين الفقها قديما ولا يزال هي مسالة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، فقد ذهب فقها الإمامية إلى انها طلاق واحد لعدم فصل الرجوع بينهن اما باقي الفقها فاقروها ثلاثا وكانت بائنة.

وقد عد ائمة اهل البيت (ع) ذلك مخالفا للكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ (1) وقال:﴿الطلاق مرتان فامساك بمعروف أوتسريح باحسان - إلى قوله - فان طلقها فلاتحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره﴾ (2).

فقد روى عبد اللّه بن جعفر باسناده إلى صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه الصادق (ع) ان رجلا قال له: اني طلقت امراتي ثلاثا في مجلس؟ قال: ليس بشي ثم قال: اما تقرا كتاب اللّه: ﴿يا ايها النبي إذا طلقتم النسافطلقوهن لعدتهن﴾ كلما خالف كتاب اللّه والسنة فهو يرد إلى كتاب اللّه والسنة (3).

وباسناده إلى اسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت الصادق (ع) يقول: طلق عبد اللّه بن عمر امراته ثلاثا، فجعلها رسول اللّه (ع) واحدة، ورده إلى الكتاب والسنة (4).

قال الشيخ: معنى قوله تعالى: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾: ان يطلقها وهي طاهر من غير جماع ويستوفى باقي الشروط (5) اي يكون الطلاق في حالة تمكنها ان تعتد عدتها.

فمعنى ﴿لعدتهن﴾: لقبل عدتهن وهكذا قرئ ايضا قال الشيخ: ولاخلاف انه اراد ذلك اي تفسيرا وتوضيحاللاية - وان لم تصح القراة به (6).

وفي سنن البيهقي عن ابن عمر: قرا النبي - ص - ﴿في قبل عدتهن﴾ وفي رواية: ﴿لقبل عدتهن﴾ (7).

وفي شواذ ابن خالويه: ﴿فطلقوهن في قبل عدتهن﴾ عن النبي وابن عباس ومجاهد (8).

قال الطبرسي: انه تفسير للقراة المشهو رة: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ اي عند عدتهن، ومثله قوله: ﴿لا يجليها لوقتها﴾اي عند وقتها (9).

فقال الزمخشري: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: اتيته ليلة بقيت من الشهر، اي مستقبلا لها وفي قراة رسول اللّه (ع): ﴿في قبل عدتهن﴾ (10).

قال الرازي: اللام - هنا - بمنزلة ﴿في﴾، نظير قوله تعالى: ﴿هو الذي اخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر﴾ (11) والاية بهذا المعنى، لان المعنى، فطلقوهن في عدتهن، اي في الزمان الذي يصلح لعدتهن (12).

قال الزمخشري: اللام في ﴿لأول الحشر﴾ هي اللام في قوله تعالى: ﴿يا ليتنى قدمت لحياتي﴾ (13) وقولك: جئته لوقت كذا والمعنى: اخرج الذين كفروا عند أول الحشر ومعنى ﴿أول الحشر﴾: ان هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلا قط، وهم أول من اخرج من اهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام أوهذا أول حشرهم (14).

قال ابن المنير في الهامش: كانه يريد انها اللام التي تصحب التاريخ، كقولك: كتبت لعام كذا وشهركذا.

اذن فمعنى الاية الكريمة: فطلقوهن لمبدا عدتهن، اي في زمان يمكن بد العدة منه.

والطلاق ينقسم - في الشريعة - إلى طلاق سنة وطلاق بدعة والأول ما كان مجتمعا للشرائط، ففي المدخول بها: ان تكون في طهر غير مواقع فيه، فتطلق تطليقة ثم تترك حتى تنقضي عدتها، ثم يعقد عليها وتطلق ثانية على نفس الشرائط، وهكذا في الثالثة وهذا من احسن طلاق السنة.

ويجوز ان يراجعها زوجها في عدتها ويطاها ثم يطلقها، أويطلقها بعد الرجوع من غير وط وهذا من الطلاق العدي كل هذا من الطلاق السني الجائز بالاتفاق ويقابله الطلاق البدعي، وهو الطلاق غير المستجمع للشرائط.

قال الشيخ: الطلاق المحرم ﴿البدعي﴾ هو ان يطلق مدخولا بها، غير غائب عنها غيبة مخصوصة، في حال الحيض، أوفي طهر جامعها فيه فانه لا يقع عندنا ﴿الإمامية﴾ والعقد ثابت بحاله وقال جميع الفقها: انه يقع وان كان محظورا، ذهب اليه أبوحنيفة واصحابه، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي.

وقال - ايضا: إذا طلقها ثلاثا بلفظ واحد كان مبدعا، وقعت واحدة عند تكامل الشروط عند اكثر اصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شي اصلا وقال الشافعي: المستحب ان يطلقها طلقة، فان طلقها ثنتين أوثلاثا في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أومتفرقة، كان ذلك مباحا غير محظور، ووقع وبه قال احمد واسحاق وابوثور.

وقال قوم: إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أوثلاثا، دفعة واحدة أومتفرقة، فعل محرما وعصى واثم وفي الفقهامن قال بالحرمة الا انه يقع، وهم أبوحنيفة واصحابه ومالك (15).

والخلاصة ان الشافعي واحمد لا يريان ذلك طلاق بدعة، فيجيزان الطلاق الثلاث بلفظ واحد وان كان الثاني والثالث لغير عدة فانه جائز ونافذ ايضا.

اما أبوحنيفة ومالك فيريانه بدعة واثما، لكنه يقع نافذا (16).

وعلى اي تقدير، فالمذاهب الاربعة متفقة على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد قال الجزيري: فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة، بان قال لها: انت طالق ثلاثا، لزمه ما نطق به من العدد، في المذاهب الاربعة، وهو راي الجمهو ر (17).

وهذا من جملة الموارد التي خالف الفقها صريح الكتاب، لزعم انه وردت السنة به، اما تأويلا لنص الاية أونسخا لها فيما زعموا حاشا فقها الإمامية، لم يخالفوا الكتاب في شي، كما هم عملوا بالسنة الصحيحة الواردة عن طرق اهل البيت (ع).

وقد اصر ائمة اهل البيت على ان مثل هذا الطلاق ﴿ثلاثا بلفظ واحد﴾ مخالف لصريح الكتاب، وما كان مخالفاللكتاب فهو باطل يجب ضربه عرض الجدار.

اذ قوله تعالى: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ يشمل الطلاق الثاني والطلاق الثالث، لم يقعا للعدة، حيث كانت العدة عدة للطلقة الأولى فحسب.

قال الإمام الصادق (ع) لابن اشيم: ﴿إذا طلق الرجل امراته على غير طهر ولغير عدة كما قال اللّه عز وجل، ثلاثاأوواحدة فليس طلاقه بطلاق وإذا طلق الرجل امراته ثلاثا وهي على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين فقدوقعت واحدة وبطلت الثنتان وإذا طلق الرجل امراته ثلاثا على العدة كما امر اللّه عز وجل فقد بانت منه ولاتحل له حتى تنكح زوجا غيره﴾ (18).

اذن فالطلقة الثانية وكذا الثالثة، لم تقع للعدة حسبما ذكره اللّه تعالى في كتابه، ومن ثم وقع الطلاق الثلاث بلفظواحد، موضع انكار رسول اللّه (ع) في الجراة على مخالفة صريح الكتاب:

اخرج النسائي من طريق مخرمة عن ابيه بكير بن الاشج، قال: سمعت محمود بن لبيد قال: اخبر رسول اللّه (ع) عن رجل طلق امراته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: ايلعب بكتاب اللّه وانا بين اظهركم: حتى قام رجل وقال: يا رسول اللّه، الا اقتله؟ (19).

وذكر الشارح المراد به قوله تعالى: ﴿الطلاق مرتان - إلى قوله - ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا﴾ (20) فان معناه: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع، والارسال مرة واحدة ولم يردبالمرتين التثنية ومثله قوله تعالى: ﴿ثم ارجع البصر كرتين﴾ (21) اي كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين ومعنى قوله: ﴿فامساك بمعروف﴾ (22) تخيير لهم - بعد ان علمهم كيف يطلقون - بين ان يمسكوا النسا بحسن العشرة - وهو الرجوع اليها - وبين ان يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم والحكمة في التفريق ما يشيراليه قوله تعالى: ﴿لعل اللّه يحدث بعد ذلك امرا﴾ اي قد يقلب اللّه تعالى قلب الزوج بعد الطلاق، من بغضها إلى محبتها (23).

وهكذا روى اصحاب السنن: ان ركانة طلق امراته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها وندم، فاتى رسول اللّه (ع) وذكر ندمه وحزنه الشديد على ذلك، فساله رسول اللّه: كيف طلقتها ثلاثا؟ قال: في مجلس واحد وفي حديث ابن عباس: ان عبد يزيد طلق زوجته وتزوج باخرى، فاتت النبي (ع) فشكت اليه فقال النبي لعبد يزيد: راجعها، فقال: اني طلقتها ثلاثا يا رسول الل ه قال: قد علمت، راجعها، وتلا: ﴿يا ايها النبي إذا طلقتم النسا فطلقوهن لعدتهن﴾ (24).

قال أبودأود:ان ركانة طلق امراته البتة ﴿اي الثلاث البائن﴾ فجعلها النبي (ع)واحدة.

ومعنى ذلك: ان الثلاث بلفظ واحد - من غير مراجعة بينهن - تكون الواحدة منهن للعدة، دون مجموع الثلاث.

فتلأوة النبي (ع) للاية تلميح إلى عدم وقوع الثلاث جميعا للعدة سوى واحدة، ومن ثم كانت رجعية وليست بائنة.

ومن غريب الأمر ان جمهو ر الفقها، مع علمهم بان الثلاث بلفظ واحد مخالف للكتاب والسنة اما الكتاب فلماعرفت، واما السنة فلما رواه مسلم في الصحيح باسناده إلى ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللّه (ع) وابي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوافي امر قد كانت لهم فيه اناة، فلوامضيناه عليهم: فامضاه عليهم (25).

نرى الفقها مع علمهم بذلك، فانهم تبعوا سنة عمر، وتركوا صريح الكتاب وسنة الرسول والصحابة المرضيين.

يقول الجزيري: ان الائمة سلموا جميعا بان الحال في عهد النبي (ع) كان كذلك، ولم يطعن احد منهم في حديث مسلم وكل ما احتجوا به: ان عمل عمر وموافقة الاكثرين له مبنى على ان الحكم كان مؤقتا، فنسخه عمر بحديث لم يذكره لنا والدليل على ذلك الاجماع قال: ولكن الواقع انه لم يوجد اجماع، فقد خالفهم كثيرمن المسلمين ومما لا شك فيه ان ابن عباس من المجتهدين المعول عليهم في الدين، فتقليده جائز، ولايجب تقليد عمر فيما رآه قال: ولعله كان تحذيرا للناس من ايقاع الطلاق على وجه مغاير للسنة، فان السنة ان تطلق المراة في أوقات مختلفة، فإذا تجرا احد على تطليقها دفعة واحدة فقد خالف السنة، وجزاؤه ان يعامل بقوله زجرا له (26).

وناقش ابن حزم الاندلسي فيما اخرجه النسائي عن طريق مخرمة عن ابيه بكير بن عبد اللّه بن الاشج انه سمع محمود بن لبيد الخ بان خبر محمود مرسل لا حجة فيه وان مخرمة لم يسمع من ابيه شيئا.

وكذا ناقش فيما اخرجه مسلم عن طريق محمد بن رافع باسناده إلى ابن عباس، بجهالة ابن رافع هذا (27).

اما محمود بن لبيد فزعموا انه لم تصح له رؤية ولا سماع من النبي لانه كان طفلا لم يبلغ الحلم يومذاك.

لكن ذكر الواقدي: وغيره انه مات سنة ست وتسعين، وهو ابن تسع وتسعين سنة، قال ابن حجر: على هذا يكون له يوم مات النبي ثلاث عشرة سنة، وهذا يقوي قول من اثبت الصحبة، وهو قول البخاري ومن ثم قال ابن عبد البر: قول البخاري أولى، يعني في اثبات الصحبة وهو الذي روى ان النبي (ع)اسرع يوم مات سعد بن معاذ حتى تقطعت نعالنا قال الترمذي: راى النبي وهو غلام صغير (28).

قلت: لا يقل هذا عن ابن عباس الذي كان يوم مات النبي ابن ثلاث عشرة سنة ايضا.

اما عدم سماع مخرمة من ابيه فليس يضره، بعد ان كان يروي من كتاب ابيه قال أبوطالب: سالت احمد عنه، قال: ثقة ولم يسمع من ابيه انما يروي من كتاب ابيه وقال مالك: حدثني مخرمة بن بكير وكان رجلاصالحاقال أبوحاتم: سالت اسماعيل بن أبي أويس، قلت: هذا الذي يقول مالك بن انس:حدثني الثقة، من هو ؟قال مخرمة بن بكير بن الاشج وقال الميموني عن احمد: اخذ مالك كتاب مخرمة فنظر فيه، فكل شي يقول فيه: بلغني عن سليمان بن يسار، فهو من كتاب مخرمة، يعني عن ابيه عن سليمان (29).

واما المناقشة في اسناد مسلم بجهالة ابن رافع ولاحجة في مجهو ل فيدفعها ان مسلما رواه من طريق اسحاق بن ابراهيم ومحمد بن رافع، جميعا عن عبد الرزاق.

اما محمد بن رافع فقد وثقه الائمة كلمة واحدة قال البخاري: حدثنا محمد ابن رافع بن سابور، وكان من خيارعباد اللّه وقال النسائي حدثنا محمد بن رافع الثقة المامون وقال أبوزرعة: شيخ صدوق وقال الحاكم: هو شيخ ‌عصره بخراسان في الصدق والرحلة (30).

وهكذا اسحاق بن ابراهيم بن مخلد المعروف بابن راهو يه المروزي، هو احد الائمة المرموقين بخراسان ممن قل نظيره قال أبوزرعة: ما رؤي احفظ من اسحاق وقال احمد: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثله قال: لا اعرف له بالعراق نظيرا (31).

فقد صح قول الجزيري: لم يطعن احد في حديث مسلم حيث كان طعن ابن حزم موهو نا إلى حد بعيد.

وبعد فمما يبعث على الاعتزاز، ذلك موقف فقها الإمامية جنبا إلى جنب من صراحة الكتاب والصحيح من سنة الرسول (ع) حتى وان خالفهم الجمهو ر وهذا من بركات تعاليم ائمة اهل البيت (ع) الثابتين على صلب الشريعة والحافظين لناموس الدين، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشا واللّه ذوالفضل العظيم.


1- الطلاق / 1.

2- البقرة / 229- 230.

3- قرب الاسناد للحميري، ص 30 الوسائل، ج15، ص 317 رقم 25.

4- قرب الاسناد، ص 60 والوسائل رقم 26.

5- تفسير التبيان، ج10، ص 29 30.

6- كتاب الخلاف، ج2، ص 224 كتاب الطلاق.

7- السنن الكبرى، ج7، ص 327.

8- الشواذ لابن خالويه، ص 158.

9- مجمع البيان، ج10، ص 302 303.

10- الكشاف، ج4، ص 552.

11- الحشر/ 2.

12- التفسير الكبير، ج30، ص 30.

13- الفجر/ 24.

14- الكشاف، ج4، ص 499.

15- راجع: الخلاف، ج2، ص 224 م 2 وص 226 م 3.

16- راجع: صحيح النسائي، ج6، ص 116 الهامش.

17- الفقه على المذاهب الاربعة، ج4، ص 341. لكن في كتاب مسائل الامام احمد بن حنبل الذي جمعه ابودأود السجستاني صاحب السنن ﴿ص 169﴾: ان ابا دأود قال: سمعت احمد، سئل عن الرجل يطلق امراته ثلاثا بكلمة واحدة، فلم ير ذلك لكنه في موضع آخر ﴿ص 173﴾ في البكر تطلق ثلاثا، قال: هي ثلاث لاتحل له حتى تنكح زوجا غيره.

18- وسائل الشيعة للحر العاملي، ج15، ص 319 رقم 28.

19- سنن النسائي، ج6، ص 116وراجع: ابن جزم، المحلى، ج10، ص 167.

20- البقرة / 229 231.

21- الملك / 4.

22- البقرة / 229.

23- هامش النسائي، ج6، ص 116، الطلاق / 1.

24- سنن البيهقي، ج7، ص 339.

25- صحيح مسلم، ج4، ص 183.

26- الفقه على المذاهب، ج4، ص 341 342.

27- المحلى، ج10، ص 168.

28- تهذيب التهذيب، ج10، ص 65 66.

29- المصدر نفسه، ص 70.

30- تهذيب التهذيب، ج9، ص 161.

31- المصدر، ج1، ص 217 و218.