ميزات تفسير التابعي
يمتاز التفسير في عهد التابعين بمميزات، تفصلها عن تفاسير الصحابة من وجوه: أولا: التوسع فيه فقد تعرض التابعون لمختلف ابعاد التفسير، وخاضوا معاني القرآن، من مختلف الجهات والمناحي بينما كان تفسير الصحابة مقتصرا على جوانب محدودة من اللغة، وشان النزول، وبعض المفاهيم الشرعية، لرفع ما ابهم على الناس من هذه الجهات فحسب فقد خطا تفسير التابعي خطوات أوسع وفي جوانب اكثر.
ومن ثم فان التفسير في هذا العهد، يشمل جوانب الادب واللغة في ابعاد مترامية وهكذا التاريخ لامم سالفة، وامم معاصرة مجأورة لجزيرة العرب، تاريخ حياتهم وبلادهم، على ما وصلت اليهم من اخبارهم وحتى بعض لغاتهم وثقافاتهم، مما يمس جانب القرآن وهكذا دخل في التفسير بحوث كلامية نشات ذلك العهد، وارتبطت مع كثير من آي القرآن بعض الربط كيات الصفات والمبدأ والمعاد وما شابه.
وقد اخذ هذا التوسع بازدياد مطرد، وفي ابعاد مستجدة كلما توسعت العلوم والمعارف، وازداد التعرف إلى آداب وثقافات كان يملكها امم يدخلون في دين اللّه افواجا، ومعهم علومهم ومعارفهم، يحملونها ويجعلونهافي خدمة الاسلام والمسلمين، وكانت لم تزل تتسع مع اتساع رقعة الاسلام.
ولا يزال حجم التفسير يتضخم، حيث وفرة العلوم والمعارف المساعدة لحل قسط وافر من مشاكل غامضة مما تحتضنه كثير من آيات كونية أولافتة إلى خبايا اسرار الوجود وللعلم والفلسفة في جميع مناحيهما حظهماالأوفر في هذا المجال.
ثانيا: تشكله وثبته ثم تدوينه.
كان التفسير على عهد الصحابة كحاله في عهد الرسالة، منتثرا على افواه الرجال، ومبثوثا بين اظهرهم، محفوظا في الصدور لقصر خطاه وقرب مداه ومقتصرا على بضع كلمات لبضع آيات، كانت خافية المفاد، أومبهمة المراد حينذاك.
اما وكونه منتظما رتيبا، ومثبتا ذا تشكيل وتدوين فهذا قد حصل أواخذ في الحصول على عهد التابعين وتابعي التابعين كان احدهم يعرض القرآن من بدئه إلى الختم، على شيخه يقرؤه عليه، يقف لدى كل آية آية يساله عنها ويستفهمه معانيها، أويستعلم منه مقاصدها ومراميها، ولا يجوزها حتى يدونها في سجل، أويثبتهافي دفتر أولوح، كان يحمله معه وهكذا اخذ التفسير، يتشكل ويتدون ذلك العهد.
قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، اقف عند كل آية، اساله فيم انزلت، وكيف نزلت قال ابن أبي مليكة: رايت مجاهدا يسال ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه الواحه فيقول له ابن عباس: اكتب حتى ساله عن التفسير كله ومن ثم قيل: اعلمهم بالتفسير مجاهد (1).
وكان ابن عباس يجتهد في تربية عكرمة مولاه، فرباه فاحسن تربيته، وعلمه فاحسن تعليمه، حتى اصبح فقيها، واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (2).
ولقتادة كتاب في التفسير، وربما كان كبير الحجم ضخما فقد استخدمه الخطيب البغدادي، كما استخدمه الطبري في اكثر من ثلاثة آلاف موضع من تفسيره (3).
وهكذا لجابر بن يزيد الجعفي (4) والحسن البصري (5) وابان بن تغلب (6) وزيدبن اسلم (7) وغيرهم كتب معروفة في التفسير وعلوم القرآن.
قال عادل نويهض: ابان بن تغلب، مقرئ جليل، مفسر، نحوى، لغوي، محدث، من اهل الكوفة وثقه احمد وابن معين وابوحاتم خرج له مسلم والاربعة من آثاره ﴿معاني القرآن﴾ و﴿غريب القرآن﴾ ولعله أول من صنف في هذا الموضوع توفي سنة -141- (8).
وسنذكر في فصل قادم، بد التدوين في التفسير، الأمر الذي تحقق منذ عهد التابعين.
وثالثا: النظر والاجتهاد كانت هي ميزة كبرى حظي بها عهد التابعين، ان قام عديد من كبار العلما ذاك العهد، فاعملوا النظر في كثير من مسائل الدين، ومنها مسائل قرآنية، كانت تعود الى: معاني الصفات، واسرار الخليقة، واحوال الانبيا والرسل، وما شاكل فكانوا يعرضونها على شريعة العقل، ويحاكونها وفق حكمه الرشيد، وربما يؤولونها إلى ما يتوافق مع الفطرة السليمة.
وأول مدرسة اخذت في الاجتهاد واعمال النظر لاستنباط معاني القرآن، مدرسة مكة، التي اشادها الصحابي الجليل تلميذ الإمام امير المؤمنين (ع) الموفق، عبد اللّه بن عباس وكان متخرجوا هذه المدرسة هم الذين اسسوا بنيان الاجتهاد في التفسير وعلى يدهم شاعت وذاعت طريقة الاجتهاد في مناحي الشريعة المقدسة، على الاطلاق.
ثم مدرسة الكوفة، تاسست على يد عبد اللّه بن مسعود، وتخرجت منها علما افذاذ، اصحاب نظر واجتهاد واصبحت مدرسة الكوفة بعدئذ معهد الدراسات الإسلامية، يقصدها رواد العلم من جميع اطراف البلاد، حيث محط جل الصحابة، ولا سيما بعد مهجر الإمام امير المؤمنين (ع) فقد ارتحل اليها العلم برمته، واخذت مجامع الكوفة تحتضن الكبار من علما الاسلام يومذاك وعليهم دارت رحى العلم وفاضت ينابيع المعارف إلى ارجاالبلاد.
ولم تدم مدرسة مكة طويلا، واخذت بالافول بعد وفاة صاحبها ومؤسسهاعام -68- وتفرق متخرجيها وانتشارهم في اكناف الارض فقد ارتحلوا إلى خراسان ومصر والشام وسائرالديار.
غير ان مدرسة الكوفة اخذت تزدهر وتزداد صيتا ونشاطا مع تقادم الايام.
وهاتان المدرستان هما الاساس لنشر العلم وبث المعارف بين العباد، وان كانت احداهما اخذت في الاندثار، بينما الاخرى استمرت في الازدهار والتوسع والانتشار.
واكثر العلما التابعين بل الغالبية الساحقة، هم المتخرجون من هاتين المدرستين.
فكان لهما الفضل الكبير على الامة، في تثقيفهم والتنشيط في السعي ورا العلم والمعرفة ويعود الفضل في ذلك إلى الصحابيين الجليلين: ابن عباس وابن مسعود، وعلى راسهما الإمام اميرالمؤمنين (ع).
هذا مجاهد بن جبر، متخرج مدرسة ابن عباس، وقد اجمعت الامة على امامته والاحتجاج بكلامه (9).
رمي بحرية الراي في التفسير، وان شئت فقل: حظي بقوة الفهم وحدة النظر ووفور العقل والذكا.
نعم حيث كانت عقلية الجمود، هي الساطية على غوغا الناس حينذاك، كان توجيه هكذا تهم إلى امثال هؤلاالافذاذ، يبدوطبيعيا في ظاهر الحال.
قيل له: انت الذي تفسر القرآن برايك؟ مبانيه وطرائق استنباط معانيه﴾ عن بضعة عشر رجلا من اصحاب النبي (ع).
نعم كان مجاهد يحمل ذهنية متحررة عن قيود الأوهام، وعقلية واعية تمكنه من ادراك الحقائق ولمسها في واقع امرها، دون الاقتصار على الظاهر والاقتناع بالقشور.
انه كان يعرض الاي القرانية - لغرض فهم معانيها على المتفاهم العام من الالفاظ والكلمات، ثم على مباني الشريعة وشواهد التاريخ ونحوها مما كان متعارفا لفهم المعاني لدى العرف العام لكن من غير ان يقتنع بذلك، حتى يعرضها على فهم العقل وتوافق الفطرة، من غير ان يختفي عنه شي من الشواهدودقائق الكلام.
قال - في تفسير قوله تعالى: ﴿فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾: (10) لم يمسخوا قردة، وانما هو مثل ضربه اللّه، كما قال: ﴿كمثل الحمار يحمل اسفارا﴾ (11) قال: انه مسخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، لا تقبل وعظا ولا تتقي زجرا (12).
وقد تكلمنا عن تفسيره هذا لهذه الاية، في ترجمته السالفة، وذكر أوجه ترجيحه وكلام السلف وعلما المفسرين بشانه.
وقال - في تفسير قوله تعالى: ﴿ربنا انزل علينا مائدة من السما تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك﴾ - (13) قال: مثل ضرب لم ينزل عليهم شي قال أبوجعفر الطبري: قال قوم: لم ينزل على بني اسرائيل مائدة، فقال بعضهم: انما هذا مثل ضربه اللّه تعالى لخلقه نهاهم به عن مسالة نبى اللّه الايات ثم اسند ذلك إلى مجاهد (14).
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (15)، قال: تنتظر الثواب من ربهاقيل له: ان اناسا يقولون: انه تعالى يرى، فيرون ربهم: فقال: لا يراه من خلقه شي (16).
قال الاستاذ الذهبي: ان مثل هذا التفسير عن مجاهد، اصبح متكئا قويا للمعتزلة فيما بعد، فيما ذهبوا اليه من مذاهب عقلية.
قلت: ليس مجاهد وحده ممن فتح باب الاجتهاد والنظر في مفاهيم القرآن، بل كان يرافقه - ذلك العهد - كثير من ارباب العقول الراجحة، ممن سماهم اللّه تعالى ﴿أولي الا لباب﴾، وهم وفرة في اصحاب النبي (ع) والتابعين لهم باحسان وفي هذا التاليف تنويه بجلة من اعلامهم.
كما ان المعتزلة ليسوا هم وحدهم - ممن تبعوا طريقة العقل الرشيد، ونبذوا الجمودفي الراي ورا الظهو ر ففيما عدى السلفيين الحفاة الجفاة واذنابهم الاشاعرة العراة، خلق كثير وزرافات من الامة المرحومة، واكبوا اهل الاعتزال أوسبقوهم في هذا المضار، ولا يزال.
ومن الموصوفين بحرية الراي والاجتهاد في التفسير، عكرمة مولى ابن عباس، الذي رباه فاحسن تربيته وعلمه فاحسن تعليمه، حتى اصبح من الفقها واعلم الناس بالتفسير ومعاني القرآن (17).
كان يرى مسح الارجل في الوضؤ مستفادا من الكتاب، كما فهمه شيخه ابن عباس ويرفض ما استظهره سائرالفقها ويخطؤهم في استظهار الخلاف (18).
وهكذا في المسح على الخفين كان ينكره اشد الانكار كان يقول: ﴿سبق الكتاب المسح على الخفين﴾ (19) يعني: ان الكتاب جا بالمسح على الارجل اما المسح على الخفين فامر حادث، لا يجوز ترك القرآن بذلك.
اما القوم فكانوا يرون المسح على الخفين ناسخا للمسح على الارجل ذكر الجصاص ان ابا يوسف كان يرى ان سن ة المسح على الخفين نسخت آية المسح على الارجل (20).
وزيد بن اسلم مولى عمر، الفقيه المفسر، برع حتى اصبح من كبار التابعين المرموقين كانت له حلقة في مسجدالمدينة يحضرها جل الفقها وربما بلغوا اربعين فقيها له تفسير يرويه عنه ولده عبد الرحمان قال ابن حجر:اخذ العلم من جماعة، منهم علي بن الحسين زين العابدين (ع)، وعده أبوجعفر الطوسي من اصحاب الإمام السجاد قال: كان يجالسه كثيرا له رواية عن الإمامين الباقر والصادق (ع).
وقد اخذ عليه حريته في الراي والاجتهاد، على خلاف مذهب الاحتياط والوقوف لدى الماثور قال حماد:قدمت المدينة وهم يتكلمون في زيد بن اسلم فقال لي عبيد اللّه بن عمر: ما نعلم به باسا الا انه يفسر القرآن برايه والمعروف عن اهل المدينة انهم اصحاب وقف واحتياط (21).
هذا وقد راج التفسير العقلي فيما بعد، ولا سيما عند المعتزلة ومن حذا حذوهم في تقديم العقل على ظاهرالنقل.
هذا أبومسلم محمد بن بحر الاصفهاني ﴿255 - 344﴾ قد وضع تفسيره على اساس من التفكير الصحيح وفق ما يرتضيه الدين الاسلامي الحنيف، من نبذ التقليد والتمسك بعرى التحقيق ﴿افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها﴾ ﴿وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون﴾ (22).
هو عند ما يفسر قوله تعالى: ﴿قال رب اجعل لي آية قال آيتك ان لا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والا بكار﴾ (23) بان زكريا لما طلب من اللّه تعالى آية تدله على حصول العلوق ﴿انعقاد النطفة في رحم زوجه﴾ قال: آيتك ان لا تكلم، اي تصير مامورا بان لا تتكلم ثلاثة ايام بلياليها مع الخلق ﴿اي إذا جاك الأمر بذلك، فاعلم ان الحمل بيحيى قد تحقق عند ذلك﴾ اي تكون مشتغلا بالذكر والتسبيح والتهليل، معرضا عن الخلق والدنيا، شاكرا للّه تعالى على اعطا مثل هذه الموهبة فان كانت لك حاجة، دل عليها بالرمز فإذا امرت بهذه الطاعة فاعلم انه قد حصل المطلوب.
يقول الإمام الرازي بشانه - وهو اشعري يخالفه في المذهب: ﴿وهذا القول عندي حسن معقول وابومسلم حسن الكلام في التفسير، كثيرالغوص على الدقائق واللطائف﴾ (24).
هذه شهادة راقية من اكبر علم من اعلام التحقيق في الفلسفة والكلام، بشان المع شخصية بارزة، مارس عقله وشأور لبه عند تفهم القرآن، ممن نبذ التقليد واخذ في التدقيق.
وانت إذا قارنت هذا التفسير لهذا الموضع بالذات، مع سائر التفاسير التي عرضهاالقوم، تجد الفرق بائنا والبون شاسعا.
ذكر أبوجعفر الطبري: ان عدم التكلم هناكان عن عجز، سلبه اللّه القدرة على الكلام، فيما سوى التسبيح والتحميد وذلك تمحيصا له من هفوته وخطا قيله في سؤاله الاية قيل: انه لما سمع ندا الملائكة يبشرونه بيحيى جاه الشيطان من فوره وقال له: يا زكريا، ان الصوت الذي سمعت ليس من عند اللّه، انما هو الشيطان يسخر بك قالوا: فشك زكريا في مكانه، وقال: ﴿انى يكون لى غلام﴾ (25) ومن ثم طلب من اللّه ان يجعل له آية، يرتفع بها شكه، فعاتبه اللّه على مسالته تلك وانه لا ينبغي لنبى ان يشك.
قال الطبري - فيما رواه: انما عوقب بذلك، لان الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشرته بيحيى، فلما سال الاية بعد كلام الملائكة مشافهة، اخذ اللّه عليه بلسانه، فكان لا يقدر على الكلام الاايما (26).
وقال القرطبي: لما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة اللّه، طلب آية يعرف بها صحة هذا الأمر، وكونه من عند اللّه، فعاقبه اللّه بان اصابه السكوت عن كلام الناس، لسؤاله الاية بعد مشافهة الملائكة اياه (27) وهكذااكثر المفسرين من اصحاب النقل في التفسير كابن كثير واضرابه (28).
غير ان ارباب التحقيق رفضوا تلك النقول المنافية لاصول العقيدة الإسلامية، ولاسيما فيما يمس جانب عصمة الانبيا وصيانتهم عن امكان غلبة الشيطان على مشاعرهم.
قال الشيخ محمد عبده: ومن سخافات بعض المفسرين، والتي لا تليق بمقام الانبيا(ع) زعمهم ان زكريا(ع) اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم، بوحي الشياطين، ولذلك سال سؤال التعجب، ثم طلب آية للتثبت روى ابن جرير فيما روى: ان الشيطان هو الذي شككه في ندا الملائكة، وقال له: انه من الشيطان.
قال: ولولا الجنون (29) بالروايات مهما هزلت وسمجت، لما كان لمؤمن ان يكتب مثل هذا الهز والسخف الذي ينبذه العقل، وليس في الكتاب ما يشير اليه ولولم يكن لمن يروي مثل هذا الاهذا، لكفى في جرحه، وان يضرب بروايته على وجهه فعفا اللّه عن ابن جرير، إذ جعل هذه الرواية مما ينشر.
ثم فسر الاية وفق ما فسرها أبومسلم: ﴿قال رب اجعل لي آية﴾ اي علامة تتقدم هذه العناية وتؤذن بها﴿قال آيتك ان لا تكلم الناس﴾ اي تترك ذلك مختارا لتفرغ لعبادة اللّه (30).
وهكذا في قصة ابراهيم الخليل والطيور الاربعة: ﴿قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل جز ثم ادعهن ياتينك سعيا﴾ (31).
قال الرازي: اجمع اهل التفسير على ان المراد: قطعهن غير أبي مسلم فانه انكر ذلك، وقال: ان ابراهيم (ع) لماطلب احيا الميت من اللّه تعالى اراه اللّه مثالا قرب اليه الأمر، والمراد ب ﴿فصرهن اليك﴾: الامالة والتمرين على الاجابة، اي فعود الطيور الاربعة ان تصير بحيث إذا دعوتها اجابتك واتتك، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ثم ادعهن ياتينك سعيا والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الارواح إلى الاجساد على سبيل السهو لة وانكر القول بان المراد منه: فقطعهن.
قال: واحتج على مذهبه بوجوه:
الأول: ان المشهو ر في اللغة في قوله ﴿فصرهن﴾: املهن اما التقطيع والذبح فليس في الاية ما يدل عليه فكان ادراجه في الاية الحاقا لزيادة بالاية لم يدل الدليل عليها، وانه لا يجوز.
الثاني: انه لوكان المراد ب ﴿صرهن﴾: قطعهن، لم يقل: ﴿اليك﴾، فان ذلك لا يتعدى بالى، وانما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الامالة فان قيل: لم لا يجوز ان يقال في الكلام تقديم وتاخير، والتقدير: فخذ اليك اربعة من الطير فصرهن؟ قلنا: التزام التقديم والتاخيرمن غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر.
وايضا الضمير في ﴿ياتينك﴾ عائد اليها لا إلى اجزائها، وعلى قولكم: إذا سعى بعض الاجزا إلى بعض كان الضمير في ﴿ياتينك﴾ عائدا إلى اجزائها لا إلى الطيورانفسها (32).
ثم ان الإمام الرازي يذكر حجج المشهو ر رادا على أبي مسلم وقد نقلها صاحب تفسير المنار وضعفها، وايدمذهب أبي مسلم في تفسير الاية في شرح وتفصيل، ثم قال:
وجملة القول: ان تفسير أبي مسلم لهذه الاية هو المتبادر الذي يدل عليه النظم، وهو الذي يجلي الحقيقة في المسالة واخذ في تقريب ذلك واخيرا قال: وللّه در أبي مسلم، ما ادق فهمه واشد استقلاله فيه (33).
وهذه ايضا شهادة بشان أبي مسلم من اكبر علما التفسير في العصر الاخير.
هذا ولامثال أبي مسلم مواقف مشرفة تجاه سائر المفسرين الظاهريين كانت نوافذ قلوب امثاله متفتحة، يسيرون في ضؤ العقل وعلى مناهج التفكير المتين (34).
وهذا ان دل فانما يدل على مدى قوة الاجتهاد ودوره المجيد في تفسير القرآن الكريم، والذي فتح بابه بمصراعين، نبها السلف الصالح ايام الصحابة والتابعين، واستمرت طريقتهم الحميدة، سنة حسنة متبعة حتى اليوم.
قال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجهاليسكن اليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به، فلما اثقلت دعوا اللّه ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركافيما آتاهما، فتعالى اللّه عما يشركون﴾ (35).
قال - بعد ايراد اشكال واعتراضات على ظاهر الاية: إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الاية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد:
الأول: فما ذكره القفال (36)، انه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل، وبيان ان هذه الحالة هي صورة حالة هؤلا المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك.
قال: وتقرير هذا الكلام، كانه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسهازوجها انسانا يسأويه في الانسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما اللّه ولدا صالحا سويا، جعل الزوج والزوجة للّه شركا فيما آتاهما، لانهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كماهو داب المنجمين، وتارة إلى الاصنام والأوثان كما هو قول عبدة الاصنام.
ثم قال الرازي: وهذا جواب في غاية الصحة والسدادثم ذكر بقية الوجوه فراجع (37).
وقد حمل العلامة جار اللّه الزمخشري آية عرض الامانة على السمأوات والارض ﴿الاحزاب: 72﴾ على ضرب من التمثيل ثم قال: ونحوهذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جا القرآن الا على طرقهم واساليبهم من ذلك قولهم: لوقيل للشحم: اين تذهب؟ لقال: اسوي العوج وكم وكم لهم من امثال على السنة البهائم والجمادات (38).
ويروي ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿الم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثم احياهم﴾ (39) باسناده إلى ابن جريج عن عطا - قال: هذامثل يعني انها ضرب مثل لا قصة وقعت (40).
رابعا: رواج الاسرائيليات في هذا العهد.
ففي هذا الدور دخل كثير من الاسرائيليات في التفسير، وذلك لكثرة من دخل من اهل الكتاب، في الاسلام في هذا العهد بالذات، وكان لا يزال عالقا باذهانهم من الاقاصيص واساطير اسلافهم، ما يعود إلى بد الخليقة واسرار الوجود وبدالكائنات واخبار الامم الخالية واحاديث الانبيا، وكثيرمن القصص الاسطورية التي جات في التوارة، وسائر الكتب السالفة.
وكانت النفوس ميالة لسماع تفاصيل ما جا اجمالها في القرآن الكريم، ولا سيما فيما يعود إلى احداث يهو دية أونصرانية، مما جا في العهدين فكان المسلمون يستمعون إلى اقاصيص هؤلا، ويصغون مسامعهم إلى تلكم الاساطير.
وقد تساهل التابعون - رغم مناهي النبي (ع) واصحابه الكرام - فزجوا في التفسير بكثير من هذه الاسرائيليات، بدون تحر وتمحيص واكثر من روى عنه ذلك من مسلمي اهل الكتاب: عبد اللّه بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن جريج واضرابهم.
الأمر الذي يؤخذ على التابعين مساهلتهم هذه، كما هو ماخوذ على من جا بعدهم، وسارعلى نفس المنوال من غير روية وتحقيق (41).
وسوف نستعرض هذه الناحية عرضا موسعا، عند الكلام عن اسباب الوهن في التفسير بالماثور، وان الروايات التفسيرية غير نقية، هي بحاجة إلى تنقيح.
1- وقد سبق ذلك في ترجمته.
2- راجع: ترجمته هنا.
3- الشواخ في معجم مصنفات القرآن الكريم، ج2، ص 163، رقم999.
4- فهرست مصنفي الشيعة، ص 93.
5- الشواخ، ج2، ص 161.
6- طبقات المفسرين، ج1، ص 1.
7- الطبقات للدأودي، ج1، ص 176.
8- معجم المفسرين، ج1، ص 7 8.
9- هكذا ذكر الذهبي وعن سفيان: إذا جاك التفسير عن مجاهد فحسبك به وعن الاعمش:إذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ راجع: ترجمته فيما قدمنا.
10- البقرة / 65.
11- الجمعة / 5.
12- راجع: مجمع البيان الطبرسي ، ج1، ص 129 والطبري، ج1، ص 263 وتفسيرمجاهد، ص 75 76.
13- المائدة / 114.
14- جامع البيان للطبري، ج7، ص 87.
15- القيامة / 23.
16- تفسير الطبري، ج29، ص 120 وقد اسبقنا الحديث عن ذلك ايضا في ترجمته.
17- ابن خلكان، ج3، ص 265 رقم 421.
18- راجع: الطبري، ج6، ص 82 83 والطبرسي، ج3، ص 165.
19- تهذيب التهذيب، ج7، ص 268.
20- احكام القرآن للجصاص، ج2، ص 348.
21- طبقات المفسرين للدأودي، ج1، ص 176 وميزان الاعتدال للذهبي، ج2، ص 98، وراجع: ترجمته هنا.
22- محمد/ 24،النحل / 44.
23- آل عمران / 41.
24- التفسير الكبير، ج8، ص 40- 41.
25- آل عمران / 40.
26- جامع البيان للطبري، ج3، ص 176 177.
27- الجامع لاحكام القرآن، ج4، ص 80.
28- راجع: تفسير ابن كثير، ج1، ص 362.
29- اي الشغف بجمع الاخبار مهما كان نمطها.
30- تفسير المنار، ج3، ص 298 299 ولسيدنا العلامة الطباطبائي هنا كلام غريب رجح راي سائر المفسرين وجوز اشتباه الامر على الانبيا لولا عنايته تعالى برفعه منهم هو عجيب منه راجع: الميزان ج 3، ص 194.
31- البقرة / 260.
32- التفسير الكبير، ج7، ص 41 42.
33- راجع: تفسير المنار، ج3، ص 56 58.
34- وسنعرض نماذج من تفاسيرهم التي جا نسجها على نفس المنوال، في فصول قادمة ان شا اللّه.
35- الاعراف / 189 190.
36- توفي سنة ﴿365 ق﴾.
37- التفسير الكبير، ج15، ص 86 87.
38- الكشاف، ج3، ص 565.
39- البقرة / 243.
40- تفسير ابن كثير، ج1، ص 298.
41- راجع: احمد امين فجر الاسلام، ص 205 والتفسير والمفسرون، ج1، ص 130.