قيمة تفسير التابعي

لقد اهتم ارباب التفسير بالماثور من تفاسير الأوائل، ولا سيما الصحابة والتابعين لهم باحسان ولم يكن ذلك منهم الا عناية بالغة بشانهم وبمواضعهم الرفيعة من التفسير.

ان ذلك الحجم المتضخم من التفسير المنقول عن السلف الصالح، واكثرها الساحق من التابعين بعد ان كان الماثور عن ابن عباس منقولا عن طريق متخرجي مدرسته التابعين ايضا ان ذلك، ان دل فانما يدل على مبلغ ‌الاهتمام بتفاسيرهم والاجلال بمقامهم الرفيع وليس الا لانهم اقرب عهدا بنزول الوحي، واطول باعا في الاحاطة باسباب النزول، واسهل تنأولا لفهم معاني القرآن الكريم فان كان القرآن قد نزل بلغة العرب وعلى اساليب كلامهم، فان الأوائل اصفى ذهنا واقرب تنأوشا لتصاريف اللغة ومجاري الفاظها وتعابيرها انهم اعرف بمواضع اللغة في عهد خلوصها، واطول يدا في البلوغ إلى مجانيها من ثمرات واعواد.

كما انهم امس جانبا باحاديث الرسول (ع)، والعلما من صحابته الاخيار فهم اقرب فهما لابعاد الشريعة في اصولها والفروع، والاحاطة بجوانب الكتاب والسنة والسيرة الكريمة.

فكان الاهتمام بشانهم، والرجوع إلى آرائهم ونظراتهم، ومعرفة اقوالهم في التفسير انما هو لمكان تقدمهم وسبقهم في الحيازة على قصب السبق في هذا المضمار شان كل متاخر في التفسير يرجع إلى آرا سلفه لاليتقلدها أويتعبد بها بل ليستعين بها ويستفيد في سبيل الوصول إلى اقصاها، والصعود على اعلاها فكان تمحيصا وتحقيقا في الاختيار، لا تقليدا، أوتعبدا براي.

ولا شك ان الاحاطة برا العلما سلفا وخلفا، لهي من اكبر وسائل التوسعة في الفكر والاجالة في النظر، وبالتالي اكثر توسعا في العلوم والمعارف والصعود على مدارج الفضيلة والكمال هكذا تقدم العلم وازدهرت معارف الانسان.

فلارا السلف قيمتها ووزنها في سبيل الرقي على مدارج الكمال ولولاه لتوقف العلم على نقطته الأولى، ولم يخط خطواته تلك الواسعة، في مسيرته هذه الحثيثة، نحوالتكامل والازدهار.

قال الإمام بدر الدين الزركشي: وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن احمد واختار ابن عقيل (1) المنع وحكوه عن شعبة (2).

لكن عمل المفسرين على خلافه، وقد حكوا في كتبهم اقوالهم، كالضحاك ابن مزاحم -105- وسعيد بن جبير-95- ومجاهد بن جبر -103- وقتادة بن دعامة -117- وابي العالية الرياحي -90- والحسن البصري -110-والربيع بن انس -139- ومقاتل بن سليمان -150- وعطا بن أبي سلمة الخراساني -135- ومرة بن شراحيل الهمدانى -76- وعلي بن أبي طلحة الوالبي -143- ومحمد بن كعب القرظي -119- وابي بكر الاصم عبدالرحمان بن كيسان، واسماعيل بن عبد الرحمان السدي الكبير-127- وعكرمة مولى ابن عباس -105- وعطية بن سعد بن جنادة العوفي -111- وعطا بن أبي رباح -114- وعبد اللّه بن زيد بن اسلم -164-.

ومن المبرزين في التابعين، الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير ثم يتلوهم عكرمة والضحاك.

قال: وهذه تفاسير القدما المشهو رين، وغالب اقوالهم تلق وها من الصحابة ولعل اختلاف الرواية عن احمدانما هو فيما كان من اقوالهم وآرائهم (3).

قلت: ان اريد التعبد باقوالهم، فلا ولعل المانعين يريدون ذلك ولكنا ذكرنا ان اعتبار آرائهم ونظراتهم انما كان لاجل تقدمهم وكونهم اقرب عهدا إلى نزول الوحي واصفى ذهنا لفهم معانيه وكان الرجوع اليهم لاجل التمحيص والنقد لا التعبد المحض.

ومن ثم اهتم القدما بضبط تفاسيرهم وجمعها وتهذيبها وسار على منهاجهم المتاخرون ولا يزال.

قال الحافظ أبواحمد ابن عدى: للكلبي (4) احاديث صالحة، وخاصة عن أبي صالح (5)، وهو معروف:بالتفسير، وليس لاحد تفسير اطول منه ولا اشيع فيه وبعده مقاتل بن سليمان -150- الا ان الكلبي يفضل عليه.

ثم بعد هذه الطبقة الفت تفاسير تجمع اقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة -198- ووكيع بن الجراح -196- وشعبة بن الحجاج -160- ويزيد بن هارون -206- والمفضل بن صالح -181-وعبد الرزاق بن همام الصنعاني -211- واسحاق بن ابراهيم المعروف بابن راهو يه -238- وروح بن عبادة -205- ويحيى بن قريش، ومالك بن سليمان الهروي، وعبد بن حميد بن نصر الكشي -249- وعبد اللّه بن الجراح -237-وهشيم بن بشير -283- وصالح ابن محمد اليزيدي، وعلي بن حجر بن اياس السعدي -244- ويحيى بن محمد ابن عبد اللّه الهروي، وعلي بن أبي طلحة -143- وابن مردويه احمد بن موسى الاصبهاني -401- وسنيد بن دأود -220- والنسائي، وغيرهم ووقع في مسند احمد بن حنبل والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم، كثيرمن ذلك ثم ان محمد بن جرير الطبري (6) جمع على الناس اشتات التفاسير، وقرب البعيد، وكذلك عبدالرحمان بن أبي حاتم الرازي، واضرابهم (7).

قال جلال الدين السيوطي: وكتاب ابن جرير الطبري اجل التفاسير واعظمها، ثم ابن أبي حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وابوالشيخ بن حيان، وابن المنذر، في آخرين وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين واتباعهم، وليس فيها غير ذلك، الا ابن جرير، فانه يتعرض لتوجيه الاقوال وترجيح بعضها على بعض، والاعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك.

ثم قال: فان قلت: فاى التفاسير ترشد اليه، وتامر الناظر ان يعول عليه؟.

قلت: تفسير الإمام أبي جعفر ابن جرير الطبري، الذي اجمع العلما المعتبرون على انه لم يؤلف في التفسير مثله قال النوري - في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف احد مثله.

قال: وقد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج اليه، من التفاسير المنقولة، والاقوال المقولة، والاستنباطات، والاشارات، والاعاريب، واللغات، ونكت البلاغة، ومحاسن البدائع وغيره، ذلك بحيث لا يحتاج معه إلى غيره اصلا، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين وهو الذي جعلت هذا الكتاب ﴿الاتقان﴾ مقدمة له واللّه اسال ان يعين على اكماله، بمحمد وآله (8).

وهكذا ذكر في مقدمة الاتقان: انه جعله مقدمة للتفسير الكبير الذي شرع فيه، وسماه بمجمع البحرين ومطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية (9).

لكنه لم يذكر انه اتمه واخرجه للنشر ام لا (10) والظاهر انه لم يتمه، إذ لا اثر له اطلاقا نعم اخرج كتابه ﴿الدرالمنثور في التفسير بالماثور﴾ حافلا باقوال الصحابة والتابعين واتباعهم، مستوعبا ومستقصيا كل ما ورد بذلك من نقول وروايات وبذلك كان اجمع كتاب في هذا الباب ﴿التفسير النقلي﴾ وليس فيه شي من تقرير الدراية اصلا وقد اصبح بذلك مخزنا كبيرا يجمع في طيه من كل رطب ويابس، والاعتبار فيها انما هو بذكر السند، وهو المعيار لتمييز الصحيح عن السقيم عند العلما.

وقال احمد بن عبد الحليم: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الائمة في ذلك إلى اقوال التابعين:

كمجاهد بن جبر، فانه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن اسحاق: حدثنا ابان بن صالح عن مجاهد قال:عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه واساله عنها وقال: ما في القرآن آية الا وقد سمعت فيها شيئا وعن ابن أبي مليكة قال: رايت مجاهدا يسال ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه الواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب حتى ساله عن التفسير كله ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

وكسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطا بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الاجدع، وسعيد بن المسيب، وابي العالية، والربيع بن انس -139- البصري الخراساني وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم، من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم (11).

وقال: اعلم الناس بالتفسير اهل مكة، لانهم اصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطابن أبي رباح، وعكرمة، وغيرهم من اصحاب ابن عباس كطأووس، وابي الشعثا، وسعيد بن جبير وامثالهم وكذلك اهل الكوفة من اصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلما اهل المدينة في التفسير، مثل زيد بن اسلم -136- الذي اخذ عنه التفسير مالك، وكذا ابنه عبدالرحمان (12).

وعد السيوطي من مبرزي التابعين مجاهدا، قال خصيف: كان اعلمهم بالتفسير، ولهذا على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من اهل العلم - كما قال ابن تيمية - وكان غالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه.

ومنهم سعيد بن جبير قال الثوري: خذوا التفسير من اربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك وقال قتادة: كان اعلم التابعين اربعة: كان عطا بن أبي رباح اعلمهم بالمناسك، وكان عكرمة اعلمهم بالسير، وكان الحسن اعلمهم بالحلال والحرام، وكان اعلمهم بالتفسير سعيد بن جبير.

ومنهم عكرمة مولى ابن عباس قال الشعبي: ما بقي اخد اعلم بكتاب اللّه من عكرمة وكان ابن عباس يجعل في رجليه الكبل، يعلمه القرآن والسنن.

ومنهم الحسن البصري، وعطا بن أبي رباح، وعطا بن أبي سلمة الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي، وابوالعالية، والضحاك، وعطية، وقتادة، وزيد بن اسلم، ومرة الهمداني، وابومالك.

ويليهم الربيع بن انس، وعبد الرحمان بن زيد بن اسلم، (13) في آخرين فهؤلا قدما المفسرين، وغالب اقوالهم تلقوها عن الصحابة.

ثم بعد هذه الطبقة الفت تفاسير تجمع اقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وآدم بن أبي اياس، واسحاق بن راهو يه، وروح بن عبادة، وعبد بن حميد، وسنيد، وابي بكر ابن أبي شيبة وآخرين (14).

هذا وقد تعلل بعضهم في اعتبار ما ورد من تفاسير التابعين، إذ ليس لهم سماع من رسول اللّه (ع) فهي من آرائهم، ويجوز عليهم الخطا كما لم ينص على عدالتهم كما نص على عدالة الصحابة فقد نقل عن أبي حنيفة انه قال: ما جا عن رسول اللّه، فعلى الراس والعين، وما جا عن الصحابة تخيرنا، وما جا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.

وقال شعبة بن الحجاج: اقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ وقد عرفت عن احمد روايتين، احداهما بالقبول، والاخرى بالرفض.

قال الاستاذ الذهبي: والذي تميل اليه النفس، هو ان قول التابعي في التفسير لا يجب الاخذ به، الا إذا كان مما لامجال للراي فيه، فانه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة فان ارتبنا فيه، بان كان ياخذ من اهل الكتاب، فلنا ان نترك قوله ولا نعتمد عليه اما إذا اجمع التابعون على راي فانه يجب علينا ان ناخذ به ولا نتعداه إلى غيره (15).

قلت: ان كان اريد التعبد باقوال التابعين والتسليم لارائهم فهذا لا وجه له، ولا مبرر لذلك، فانهم - كما قال ابوحنيفة - رجال ونحن رجال.

لكن مقصود البحث غير ذلك، وانما هو الاعتبار العقلاني، بالنظر إلى اسبقيتهم واقربيتهم إلى منابع الوحي ومهبط التنزيل، وامس بجوانب الشريعة، واقرب تنأولا إلى اعتاب اعلام الصحابة والائمة الهداة، كما نبهنافضلاعن انهم اعرف بمواضع اللغة واساليب العرب الفصحى ممن نزل القرآن بلغتهم وعلى اساليب كلامهم المعروف.

فكانت آراؤهم ونظراتهم المستنبطة من اصول متينة، المستقاة من مناهل صافية وضافية، من خير الوسائل السليمة لفهم معاني القرآن الكريم فهي بالاستعانة بها والاستفادة منها اقرب منها إلى التعبد والتقليد.

وقد عرفت ان جل التابعين من متخرجي مدارس الصحابة الأولين كعبد اللّه ابن مسعود، وابن عباس، الذي كان هذا بدوره متخرجا من مدرسة الإمام امير المؤمنين (ع) فجملة علومهم واصول معارفهم مستندة إلى منابع اصيلة منتهية إلى مصدر الوحي الامين الأمر الذي يجعل الفرق واضحا بين من كان شانهم هذا، وبين من كان مستقى علمه بعيد المنال، ينتهي اليه بوسائط كثيرة، وفي جهد بليغ كما هي حالتنا الحاضرة بالنسبة إلى حالة التابعين، وهم على مشارف المنابع الأولى يستقون منها بالمباشرة، وعن متنأول قريب.

وعلى اى حال، فان اجتهاد من كانت المنابع في متنأوله القريب، اصوب واسد وابين طريقا، ممن كان على مراحل من منابع الاجتهاد ولا اقل من كون اجتهاد السابقين دلائل تنير الدرب لاجتهاد اللاحقين الأمر الذي لا ينبغي انكاره.


1- معجم رجال الحديث، ج4، ص 25.

2- هو عبد اللّه بن محمد بن عقيل الهاشمي: ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من اهل المدينة كان كثير العلم توفي سنة ﴿145﴾.

3- هو شعبة بن الحجاج ابوبسطام الواسطي ثم البصري اجمع الناس حديثا وأوثقهم رواية توفي سنة ﴿160﴾.

4- البرهان للزركشي، ج2، ص 158.

5- هو ابوالمنذر هشام بن ابي النضر محمد بن السائب الكلبي الكوفي كان اعلم الناس بعلم الانساب كان من اصحاب الامامين الباقر والصادق (ع) وكان الى جنب علمه بالانساب عالما بالتفسير كبيرا توفي سنة ﴿146﴾.

6- هو بإذام مولى ام هانئ بنت ابي طالب وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس.

7- ابوجعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري قال الذهبي: الامام الجليل المفسر، ثقة صادق،فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر ﴿ميزان الاعتدال، ج3، ص 498 499، رقم 7306﴾.

8- البرهان للزركشي، ج2، ص 158 159.

9- الاتقان، ج4، ص 212 214.

10- الاتقان، ج1، ص 14.

11- كشف الظنون لحاجي خليفة، ج2، ص 1599.

12- مقدمته في اصول التفسير، ص 49 50.

13- المصدر نفسه، ص 23 24.

14- الاتقان، ج4، ص 210 212.

15- التفسير والمفسرون، ج1، ص 128 129.