3- مجاهد بن جبر

هو أبوالحجاج المخزومي المكي، المقرئ المفسر ولد سنة -21-، وتوفي بمكة ساجدا سنة -104- كان أوثق اصحاب ابن عباس، ومن ثم اعتمده الائمة واصحاب الحديث والتفسير.

وروي عنه انه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، اقف عند كل آية، اساله فيم نزلت، وكيف نزلت.

قال ابن أبي مليكة (1): رايت مجاهدا يسال ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه الواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى ساله عن التفسير كله ومن ثم قيل: اعلمهم بالتفسير مجاهد.

وقال سفيان الثوري: إذا جاك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

قال الذهبي: اجمعت الامة على امامة مجاهد والاحتجاج به كان ثقة مامونا، وفقيها ورعا، وعالما كثيرالحديث، جيد الحفظ متقنا.

قال الاعمش: إذا رايت مجاهدا كانه جمال أوخربندج (2)، فإذا نطق خرج من فيه الؤلؤ (3).

مكانته في التفسير: استفاضت شهادة العلما بعلومكانته في التفسير وثقته وامانته وسعة علمه وقداحتج بتفسيره الائمة النقاد والعلما واصحاب الحديث.

اتهم بالاخذ من اهل الكتاب، ولكن شدة نكير شيخه ابن عباس على الاخذين من اهل الكتاب، يتنافى وهذه التهمة والارجح ان رجوعه اليهم كان في امور لا تدخل في دائرة النهي الوارد عن رسول اللّه (ع)، وربما كان لغرض التحقيق لا التقليد.

وكذلك اتهم بانه يفسر القرآن برايه - كان قد اعطى نفسه حرية واسعة في التفسير العقلي - فقد روى ابنه عبدالوهاب ان رجلا قال لابيه: انت الذي تفسر القرآن برايك؟ فبكى أبي ثم قال: اني اذن لجري، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من اصحاب النبى (ع) (4).

قلت: وهذه التهمة يرجع سببها إلى الجوالحاكم آنذاك من التحاشي عن الخوض في معاني القرآن، ولا سيماالمتشابهات، غير ان شريعة العقل ترفض كل مناشئ الجمود وسنبحث عن مسالة التفسير بالراي الممنوع.

حريته في التفسير العقلي: كان مجاهد حر الراي، يفسر القرآن حسبما يبدوله من ظاهر اللفظ، ويرشده اليه عقله الرشيد وفطرته السليمة، بعد احاطته بمفاهيم الكلمات والأوضاع اللغوية والعرفية ﴿حسب متفاهم العرف العام آنذاك﴾ وما كان قد عهده من مباني الشريعة واسس الدين القويمة وبعد مراجعة كلمات اعلام الامة وخيار الصحابة الأولين، الأمر الذي يجب توفره في كل مفسر حر الراي ومضطلع خبير.

قال - في تفسير قوله تعالى: ﴿فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين﴾ (5): لم يمسخوا قردة، وانما هو مثل ضربه اللّه، كما قال: ﴿كمثل الحمار يحمل اسفارا﴾ (6) قال: انه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا ولا تتقي زجرا قال الطبرسي: وهذا يخالف الظاهر الذي عليه اكثر المفسرين من غير ضرورة تدعواليه (7).

وللزمخشري هنا كلام يشبه تفسير مجاهد، في دقة ادبية لطيفة قال: قوله تعالى: ﴿كونوا قردة خاسئين﴾خبران، اي كونوا جامعين بين القردية والخسؤ، وهو الصغار والطرد (8).

ومن ثم قال المولى جمال الدين أبوالفتوح الرازي - من اعلام القرن السادس: مجاهد گفت: معنى آن است ﴿اذلا صاغرين﴾ ذليل ومهين ودر اين عظمتى وعبرتى است آنانرا (9).

قال الإمام الرازي ﴿544 - 606﴾: ان ما ذكره مجاهد - رحمه اللّه - غير مستبعد جدا، لان الانسان إذا اصر على جهالته بعد ظهو ر الايات وجلا البينات، فقد يقال - في العرف الظاهر: انه حمار وقرد وإذا كان هذا المجازمن المجازات الظاهرة المشهو رة، لم يكن في المصير اليه محذور البتة (10).

قلت: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى - في سورة المائدة: ﴿من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكانا واضل عن سواالسبيل﴾ (11).

بدليل عطف ﴿وعبد الطاغوت﴾، وكذا عطف ﴿الخنازير﴾ وهذان لم يات ذكرهما في سائر القرآن، فيكون المعنى: ان من شديد العقوبة ان يتحول الانسان من شموخ كرامته واعتلا شرفه، إلى سافل مبتذل يحمل سمات القردة والخنازير، مهانا لئيما، يرضخ للطواغيت رضوخ الذليل الحقير.

وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (12)، روى وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد، قال: تنتظر الثواب من رب ها وعن الاعمش عنه: ﴿تنتظر رزقه وفضله﴾ وفي حديث:﴿تنتظر من ربها ما امر لها﴾ قال منصور: قلت لمجاهد: ان اناسا يقولون: انه تعالى يرى، فيرون ربهم؟ شي (13).

وانت ترى ان القول بامتناع الرؤية يخالف عقيدة السلفيين من اصحاب الظواهر، ومن ثم رموه بالحياد عن طريقة السلف، وانه يفسر برايه، أوانه يرى مذهب الاعتزال، كما رموا تلاميذه حسبما ياتي في ابن أبي نجيح رأوي تفسيره.

ومن ثم قال الطبري - تعقيبا على ذلك: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرمة، من ان معنى ذلك: تنظر إلى خالقها.

قال الاستاذ الذهبي: وهذا التفسير عن مجاهد كان فيما بعد متكا قويا للمعتزلة فيما ذهبوا اليه في مسالة الرؤية (14).

قلت: والعجيب ان الارا المستقيمة المتوافقة مع الفطرة والعقل الرشيد، حيث صدرت قديما وحديثا، فانها تعزى إلى فريق المعتزلة، أوهي منشا لمذاهبهم في العقيدة الإسلامية، الأمر الذي يجعل من العقل والفطرة - في نظر اهل الجمود - في قبضة اهل الاعتزال، وفي منحصر آرائهم ومذاهبهم.

قال الزمحشري: ينظرون إلى اشيا لا يحيط بها الحصر، فان المؤمنين نظارة ذلك اليوم، لانهم الامنون الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون فاختصاصه بنظرهم اليه لوكان منظورا اليه، محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص والذي يصح منه ان يكون من قول الناس: انا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقع والرجا، ومنه قول القائل:

وإذا نظرت اليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما.

وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر، حين يغلق الناس ابوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عيينتي نويظرة إلى اللّه واليكم.

والمعنى: انهم لا يتوقعون النعمة والكرامة الا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجعون الااياه (15).

وعلق عليه ابن المنير - في الهامش - بان عدم كونه تعالى منظورا اليه، مبني على مذهب المعتزلة، وهو عدم جواز رؤيته تعالى ومذهب اهل السنة جوازها وقال الفخر: اعلم ان جمهو ر اهل السنة يتمسكون بهذه الاية في اثبات ان المؤمنين يرون اللّه تعالى يوم القيامة اما المعتزلة فانكروا دلالة الاية على ذلك أولا، وامكان تأويلها على الفرض ثانيا، حيث الرؤية تمتنع عليه تعالى عقلا ونقلا قطعيا، الأمر الذي لا يختلف في هذه الحياة ام في الاخرة (16).

اما المفسرون من علمائنا الإمامية فانهم مطبقون على امتناع الرؤية مطلقا، وليس في الاية دلالة صريحة على ذلك، مع شيوع استعمال النظر في التوقع والانتظار.

قال الشيخ ابوجعفر الطوسي ﴿رض﴾: معناه، منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل اليهم ويكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى: ﴿وانى مرسلة اليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ (17)، اي منتظرة وقال الشاعر:

وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمان ياتي بالفلاح.

وقوله تعالى: ﴿ولا ينظر اليهم يوم القيامة﴾ (18) معناه، لاينيلهم رحمته.

قال ﴿ره﴾: وليس النظر بمعنى الرؤية اصلا، بدلالة انهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم اره فلوكان بمعنى الرؤية لتناقض، ولانهم يجعلون الرؤية غاية للنظر، يقولون: ما زلت انظر اليه حتى رايته، ولا يجعل الشي غاية لنفسه، فلا يقال: مازلت اراه حتى رايته قال: والنظر - في الاصل - تقليب حدقة العين نحوالمرئي طلبا للرؤية، فاستعمل في مطلق التاميل والتوقع والانتظار.

قال: وليس لاحد ان يقول: ان ذا يخالف اجماع المفسرين القدامى، لانا لا نسلم ذلك، بل قد قال مجاهد وابوصالح ﴿والحسن (19) وسعيد بن جبير والضحاك: ان المراد نظر الثواب.

وروى مثله عن على (ع) ثم اخذ في التعمق والاستدلال، جزاه اللّه عن الاسلام خيرا (20).


1- ابن خلكان، ج2، ص 378.

2- هو عبد اللّه بن عبيد اللّه التميمي المدني ادرك ثلاثين من اصحاب النبي (ع) ثقة فقيه مات سنة ﴿117﴾ ولاه ابن الزبير قضا الطائف ﴿تهذيب التهذيب، ج5، ص 307﴾.

3- ضل حماره فهو مهتم.

4- راجع: ترجمته في الطبقات لابن سعد، ج5، ص 343 344 وتهذيب التهذيب لابن حجر، ج10 ص 43 44 وميزان الاعتدال للذهبي، ج3، ص 439 ومقدمة ابن تيمية في اصول التفسير، ص 48 والجرح والتعديل للرازي، ج8، ص 319.

5- التفسير والمفسرون، ج1، ص 107.

6- البقرة / 65.

7- الجمعة / 5.

8- مجمع البيان للطبرسي، ج1، ص 129 وراجع: الطبري التفسير، ج1، ص 263 وتفسيرمجاهد، ص 75 76.

9- الكشاف، ج1، ص 147.

10- تفسير ابي الفتوح، ج1، ص 217.

11- التفسير الكبير، ج3، ص 111.

12- المائدة / 60.

13- القيامة / 23.

14- تفسير الطبري، ج29، ص 120.

15- التفسير والمفسرون، ج1، ص 106.

16- الكشاف، ج4، ص 662.

17- التفسير الكبير، ج30، ص 226.

18- النمل / 35.

19- آل عمران / 77.

20- ضم الحسن الى هؤلا الاعلام يخالف ما نقلناه عن الطبري، روى باسناده عن الحسن،قال: تنظر الى خالقها، وحق لها ان تنظر وهي تنظر الى الخالق ﴿تفسير الطبري، ج29،ص 119 120﴾.