2- سعيد بن المسيب

قال أبونعيم الاصبهاني: فاما أبومحمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي، فكان من الممتحنين، امتحن فلم تاخذه في اللّه لومة لائم صاحب عبادة وجماعة وعفة وقناعة وكان كاسمه بالطاعات سعيدا، ومن المعاصي والجهالات بعيدا (1).

قال ابن المديني: لا اعلم في التابعين أوسع علما من سعيد بن المسيب قال: وإذا قال سعيد: مضت السنة، فحسبك به قال: هو عندي اجل التابعين.

وقال ابوحاتم: ليس في التابعين انبل منه.

وقال سليمان بن موسى: كان افقه التابعين.

وقال أبوزرعة: مدني قرشي ثقة امام.

وقال قتادة: ما رايت احدا قط اعلم بالحلال والحرام منه.

وقال ابن شهاب: قال لي عبد اللّه بن ثعلبة: ان كنت تريد هذا - يعني الفقه - فعليك بهذا الشيخ، سعيد بن المسيب.

وعن عمروبن ميمون بن مهران عن ابيه، قال: قدمت المدينة فسالت عن اعلم اهلها، فدفعت إلى سعيد بن المسيب.

قال مكحول: طفت الارض كلها في طلب العلم فما لقيت اعلم منه.

قال احمد بن حنبل: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى اصح من مرسلاته.

وقال الشافعي: ارسال ابن المسيب عندنا حسن (2).

قال ابن خلكان: كان سعيد بن المسيب سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، وهو احد الفقها السبعة بالمدينة (3) ولد سنة -15- وتوفي سنة -95-.

واسند ابن سعد - كاتب الواقدي - إلى الإمام أبي جعفر الباقر(ع) قال: سمعت ابي، على بن الحسين (ع)يقول:﴿سعيد بن المسيب اعلم الناس بما تقدمه من الاثار، وافقههم في رايه﴾.

وله ترجمة مسهبة في الطبقات، وفيها من احواله وقضاياه العجيبة الشي الكثير (4).

اضف إلى ذلك ما ورد بشانه من الثنا عليه عند اصحابنا الإمامية:

وأول شي، انه تربية الإمام امير المؤمنين (ع)، رباه في حجره بوصية من جده ﴿حزن﴾ فقد نشا وترعرع في اهل بيت العلم والورع والطهارة، كما واصبح من خلص اصحاب الإمام على بن الحسين زين العابدين، واحدالأوتاد الخمسة الذين ثبتوا على الاستقامة في الدين على ما وصفهم الفضل بن شإذان قال: ولم يكن في زمان على بن الحسين في أول امره الا خمسة انفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيب، محمد بن جبير بن مطعم، يحيى بن ام الطويل، ابوخالد الكابلي.

وكان يرى من الإمام السجاد(ع) النفس الزكية، لم يعرف له نظيرا ولا راى مثله كما كان يرى في مثاله القدوسي مثال دأود القديس (ع) تسبح معه الجبال بالعشي والاشراق والطير محشورة كل له أواب.

روى الكشي باسناده إلى الزهري عن ابن المسيب، قال: كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج على بن الحسين سيد العابدين فخرج وخرجت معه، فنزل في بعض المنازل، فصلى ركعتين فسبح في سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر الا سبحوا معه، ففزعنا فقلت: نعم، يا ابن رسول اللّه (ع)فقال: هذا التسبيح الاعظم، حدثني أبي عن جدي رسول اللّه، انه لا يبقي الذنوب مع هذا التسبيح فقلت: علمنا.

وروى عن محمد بن قولويه باسناده إلى اسباط بن سالم عن الإمام موسى بن جعفر(ع) في حديث حواريي (5) النبي والائمة (ع)، وعد من حواريي الإمام زين العابدين: جبير بن مطعم، ويحيى بن ام الطويل، واباخالد، وسعيد بن المسيب.

كما روى عنه باسناده إلى أبي مروان عن أبي جعفر قال: سمعت على بن الحسين يقول: ﴿سعيد بن المسيب اعلم الناس بما تقدمه من الاثار وافهمهم - أوافقههم - في زمانه﴾ (6) وقد تقدم الحديث، برواية ابن خلكان عن أبي مروان ايضا، مع اختلاف في العبارة الاخيرة: ﴿افقههم في رايه﴾.

وروى الشيخ المفيد باسناده إلى أبي يونس محمد بن احمد قال: حدثني أبي وغيرواحد من اصحابنا، ان فتى من قريش جلس إلى سعيد بن المسيب، فطلع على بن الحسين، فقال القرشي لابن المسيب: من هذا يا ابا محمد؟ قال: هذا سيد العابدين على بن الحسين بن على بن أبي طالب (ع) (7).

وروى الحميري باسناده إلى البزنطي قال: وذكر عند الرضا(ع) القاسم بن محمد بن أبي بكر خال ابيه، وسعيدبن المسيب، فقال: ﴿كانا على هذا الأمر﴾ (8).

وروى ثقة الاسلام الكليني - في باب مولد الصادق (ع) - باسناده إلى اسحاق ابن جرير، قال: قال أبوعبد اللّه (ع): ﴿كان سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر، وابوخالد الكابلي، من ثقات على بن الحسين (ع) (9).

وفي مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب بشان كرامات الإمام زين العابدين (ع)، روايات عن سعيد بن المسيب، تدل على مبلغ ولائه لال البيت ومدى صلته بسيد الساجدين، فراجع (10).

وللمحقق البحراني - في حاشية البلغة - استظهار تشيعه من كلام الشيخ في أوائل التبيان (11).

وهو الذي روى قضية بجدل الجمال وقطعه لاصبع السبط الشهيد، وتعلقه باستار الكعبة، آيسا من رحمة اللّه (12).

وقد عده الشيخ من اصحاب الإمام زين العابدين ومن السابقين الأولين قال: سعيد بن المسيب بن حزن ابومحمد المخزومي سمع من الإمام على بن الحسين، وروى عنه (ع) وهو من الصدر الأول (13).

وقد استوفى السيد الامين الكلام بشانه وشان ولائه لال البيت، وذكر انه صحب عليا امير المؤمنين (ع) ولم يفارقه حتى في حروبه ونقل عن ابن أبي الحديد وغيره بعض الطعن عليه، وفنده على اسلوب حكيم (14).

نموذج من تفسيره. اخرج أبونعيم - في الحلية - باسناده إلى يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: ﴿ربكم اعلم بما في نفوسكم، ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفورا﴾ (15)، قال: ﴿الذي يذنب الذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، ولا يعود في شي قصدا﴾ (16).

وهذا ادق تفسير للاية الكريمة فان الاية قد فسرت على وجوه:

1- فقيل: هم المسبحون عن ابن عباس وعمروبن شرحبيل.

2- وقيل: المطيعون المحسنون عن ابن عباس ايضا.

3- هم المطيعون واهل الصلاة عن قتادة.

4- الذين يصلون بين المغرب والعشا عن ابن المنكدر يرفعه، وكذلك عن الإمام الصادق (ع).

5- يصلون صلاة الضحى عن عون العقيلي.

6- الراجع من ذنبه التائب إلى اللّه.

وهذا المعنى الاخير هو الراجح، واختلفوا في شرائطه وكيفيته:

فمن سعيد بن جبير: الراجعون إلى الخير.

وعن مجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر اللّه منها.

وعن عطا بن يسار: يذنب العبد ثم يتوب، فيتوب اللّه عليه، ثم يذنب فيتوب اللّه عليه، ثم يذنب الثالثة فان تاب تاب اللّه عليه توبة لاتمحى.

وعن عبيد بن عمير: الأواب: الحفيظ ان يقول: اللهم اغفر لي ما اصبت في مجلسي هذا.

لكن سعيد بن المسيب فسرها بالذي يذنب ويتوب ثم يذنب ويتوب، ولكن ليس يعود في شي من ذنوبه قصدا، وانما هو شي فرط منه وهذه النكتة الظريفة هي بيت القصيد، نظرا لان ﴿الأواب﴾ مبالغة في الأوب والرجوع والمراد: الكثرة والتكرار فيه، لكنه هل هو مطلق، ام الذي يصدر منه الذنب لا تمردا وعصيانا، وانماهو شي قد يفرط منه أوتغلبه نفسه ثم يتذكر عن قريب؟.

قال تعالى: ﴿انما التوبة على اللّه للذين يعملون السؤ بجهالة ثم يتوبون من قريب﴾ (17).

وقال: ﴿ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ (18).

وهذا هو معنى اللمم المغفور في الاية الكريمة: ﴿ويجزى الذين احسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الا ثم والفواحش الا اللم ان ربك واسع المغفرة هو اعلم بكم إذانشاكم من الا رض﴾ (19).

قال الإمام الصادق (ع): ﴿اللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر اللّه منه قال: ما من ذنب الا وقد طبع عليه عبدمؤمن يهجره الزمان ثم يلم به قال: اللمام: العبد الذي يلم بالذنب ليس من سليقته﴾ اي من طبيعته وفي رواية قال: ﴿الهنة بعد الهنة﴾ اي الذنب بعد الذنب يلم به العبد وفي اخرى: ﴿هو الذنب يلم به الرجل، فيمكث ما شااللّه ثم يلم به بعد﴾ (20).

فالعبد قد تغلبه نفسه فيرتكب اثما ليس من دابه، ومن ثم يتذكر فيتوب إلى اللّه مما اغترف، وهكذا فلوعادليس من عادته، وتاب تاب اللّه عليه، ان اللّه هو التواب الرحيم.

وهذه هي النكتة الدقيقة التي جات الاشارة اليها في تفسير ابن المسيب ﴿ولايعود في شي قصدا﴾، وهذاالمعنى هو الذي يفيده صدر الاية ﴿ربكم اعلم بما في نفوسكم، ان تكونوا صالحين فانه كان للأوابين غفورا﴾ (21).

وإلى هذا المعنى يشير التفسير الوارد عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (ع)، قال: ﴿والأواب:النواح المتعبد الراجع عن ذنبه﴾ وهكذا روي عن مجاهد بن جبر ايضا (22).

النواح: مبالغة في النوح، وهو الذي ينوح على نفسه وندبها ندما على ما فرط منه، منيبا مستغفرا أوابا وتدل اداة الاعراض ﴿عن﴾ على ندم بالغ، وعزم صارم على الترك ابدا.

واما ما روي من التفسير ب ﴿الصلاة﴾ بين المغرب والعشا، فهذا من الوسيلة التي يجب ابتغاءؤها إلى اللّه عز شانه ﴿يا ايها الذين امنوا اتقوا اللّه وابتغوا اليه الوسيلة﴾ (23) ومن ثم سميت صلاة الأوابين.

روى هشام بن سالم عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق (ع)، قال: صلاة اربع ركعات، يقرا في كل ركعة خمسين مرة ﴿قل هو اللّه احد﴾ هي صلاة الأوابين (24) وقد ورد الترغيب في التنفل باربع ركعات بعد المغرب، لايدعهن العبد في حضر ولا سفر (25).

من نوادر حكمته:

ولما ان جرد ليضرب على امتناعه من البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك، قالت امراة: ان هذا لمقام الخزي فقال سعيد: ﴿من مقام الخزي فررنا﴾ (26).

وقال: ﴿يد اللّه فوق عباده، فمن رفع نفسه وضعه اللّه، ومن وضعها رفعه اللّه الناس تحت كنفه يعملون اعمالهم، فإذا اراد اللّه فضيحة عبد، اخرجه من تحت كنفه، فبدت للناس عورته﴾ (27).

وقال: ﴿لا خير فيمن لا يحب هذا المال، يصل به رحمه، ويؤدي به امانته، ويستغني به عن خلق ربه﴾ (28).

وروي عن الإمام امير المؤمنين (ع) انه سال فاطمة ﴿س﴾: ما خير للنسا؟ قالت: ان لا يرين الرجال ولايرونهن فذكره للنبي (ع) فقال: ﴿انما فاطمة بضعة مني﴾.

وايضا عن الإمام امير المؤمنين (ع) ﴿من اتقى اللّه عاش قويا وسار في بلاده آمنا﴾ (29).

وقال: ﴿لا تملؤا اعينكم من اعوان الظلمة الا بانكار من قلوبكم، لكي لا تحبط اعمالكم الصالحة﴾ (30).

وكان معبرا للرؤيا، معروفا بذلك فوجه اليه عبد الملك بن مروان من يساله عن منامه، كان قد راى كانه قد بال في المحراب اربع مرات قال، فانه ولي الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وهم أولاد عبد الملك لصلبه (31).


1- الحلية، ج4، ص 288.

2- الحلية، ج2، ص 161 رقم 170.

3- تهذيب التهذيب لابن حجر، ج4، ص 84 88.

4- وفيات الاعيان، ج2، ص 375 رقم 262.

5- طبقات ابن سعد، ج5، ص 88 106.

6- الحواري: من الحوار، اي صاحب السر.

7- اختيار معرفة الرجال، ج1، ص 43 وص 332-335.

8- الارشاد للمفيد، ص 257 ﴿ط نجف﴾.

9- قرب الاسناد﴿ط حجرية﴾، ص 157 الجز الثالث.

10- الكافي الشريف، ج1، ص 472 كتاب الحجة.

11- المناقب، ج4، ص 133 و134 وص 143.

12- تنقيح المقال للمامقاني، ج2، ص 31 رقم 4870.

13- بحار الانوار، ج45 ﴿ط بيروت﴾، ص 316.

14- رجال الطوسي، ص 90.

15- راجع: اعيان الشيعة للسيد محسن الامين العاملي طبعة دار التعارف، ج7، ص 249 255.

16- الاسراء/ 25.

17- حلية الأوليا، ج2، ص 165 وراجع: مجمع البيان للطبرسي، ج6، ص 410 وجامع البيان للطبري، ج15، ص 51 52.

18- النساء/ 17.

19- الاعراف / 201.

20- النجم / 32.

21- تفسير الصافي للمولى محسن الفيض، ج2، ص 626.

22- الاسراء/ 25.

23- راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج6، ص 410.

24- المائدة / 35.

25- مجمع البيان، ج6، ص 410.

26- راجع: وسائل الشيعة للحر العاملي، ج3، ص 63 باب 24 اعداد الفرائض والنوافل وج5،ص 247 و249.

27- الحلية، ج2، ص 172.

28- المصدر نفسه، ص 166.

29- المصدر نفسه، ص 173.

30- المصدر نفسه، ص 175.

31- الحلية، ج2، ص 170، وابن خلكان، ج2، ص 378.