التحذير عن مراجعة اهل الكتاب

اخرج البخاري باسناده إلى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس، قال: ﴿يا معشر المسلمين كيف تسالون اهل الكتاب، وكتابكم الذي انزل على نبيه (ع)احدث الاخبار باللّه تقرأونه لم يشب (1)، وقد حدثكم اللّه ان اهل الكتاب بدلوا ما كتب اللّه وغيروا بايديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا، افلاينهاكم ما جاكم من العلم عن مسائلتهم، ولا واللّه ما راينا منهم رجلا قط يسالكم عن الذي انزل عليكم﴾ (2).

واخرج عن أبي هريرة قال: كان اهل الكتاب (3) يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الاسلام، فقال رسول اللّه (ع): ﴿لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا باللّه وما انزل الينا وما انزل اليكم﴾ (4).

واخرج عبد الرزاق من طريق حريث بن ظهير، قال: قال عبد اللّه بن عباس: ﴿لا تسالوا اهل الكتاب، فانهم لن يهدوكم وقد اضلوا انفسهم، فتكذبوا بحق أوتصدقوا بباطل﴾ (5).

وهذا الحديث وضح من كلام النبى (ع) في عدم تصديقهم ولا تكذيبهم، لانهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، فلايمكن تصديقهم، لانه ربما كان تصديقا لباطل، ولا تكذيبهم، لانه ربما كان تكذيبا لحق، فالمعنى: ان لا يعتبرمن كلامهم شي ولا يترتب على مايقولونه شي فلا حجية لكلامهم ولا اعتبار لاقوالهم على الاطلاق، اذن فلاينبغي مراجعتهم ولا الاخذ عنهم في وجه من الوجوه.

واخرج احمد وابن أبي شيبة والبزاز من حديث جابر، ان عمر اتى النبى (ع)بكتاب اصابه من بعض اهل الكتاب، فغضب النبى (ع)، وقال: ﴿لقد جئتكم بها بيضا نقية، لا تسالوهم عن شي، فيخبروكم بحق فتكذبوابه، أوباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لوان موسى كان حيا ما وسعه الا ان يتبعني﴾ وفي رواية اخرى: ﴿لاتسالوا اهل الكتاب عن شي﴾ (6).

تلك مناهي الرسول (ع) الصريحة في المنع عن مراجعة اهل الكتاب اطلاقا، لا في كبير ولا صغير، فهل يا ترى احدا من صحابته الاخيار خالف أوامره وراجعهم في شي من مسائل الدين والقرآن؟ الكتاب وينقلون عنهم (7).

واما الذي استشهدوا به على مراجعة مثل ابن عباس لليهو د، فكله باطل وزور، لم يثبت منه شي.

اما الذي جا به الاستاذ مثلا من قوله تعالى: ﴿هل ينظرون الا ان ياتيهم اللّه في ظلل من الغمام﴾ (8) قال: فاقرا ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير الاية.

فقد راجعنا تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرها من امهات كتب التفسيربالنقل الماثور (9)، فلم نجد فيها ذكرا لكعب ولا مسائلته من قبل احد من الاصحاب، أوغيرهم من التابعين ايضا ولم ندر من اين اخذ الاستاذ هذا المثال، ومن الذي عرفه ذلك، فأوقعه في هذا الوهم الفاضح.

واما قوله: كان ابن عباس يجالس كعب الاحبار، وكان اكثر من نشر علمه (10)، فكلام اشد وهما واكثر جفاعلى مثل ابن عباس الصحابي الجليل، إذ لم نجد ولا رواية واحدة تتضمن نقلا لابن عباس عن احد من اليهو د، فضلا عن مثل كعب الاحبار الساقط الشخصية (11).

نعم اشار المستشرق جولد تسيهر إلى موارد، زعم فيها مراجعة ابن عباس لاهل الكتاب، ولعلها كانت مستند الاستاذ احمد امين تقليدا من غير تحقيق ولكنا راجعنا تلك الموارد، فلم نجدهاشيئا، كسراب بقيعة يحسبه الظمن ما.

منها: ان ابن عباس سال كعب الاحبار عن تفسير تعبيرين قرآنيين: ام الكتاب، والمرجان (12).

روى الطبري باسناده إلى عبد اللّه بن ميسرة الحراني: ان شيخا بمكة من اهل الشام سمع كعب الاحبار يسال عن المرجان ﴿الرحمان / 22﴾ فقال: هو البسذ (13).

لكن من اين علم جولد تسيهر ان الذي سال كعبا هو شيخ مكة وزعيمها ابن عباس؟ وكذا روي عن معتمر بن سليمان عن ابيه عن شيبان، ان ابن عباس سال كعبا عن ام الكتاب ﴿الرعد/ 39﴾ فقال:علم اللّه ما هو خالق وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا (14).

غير ان شيبان هذا - هو ابن عبد الرحمان التميمي مولاهم، النحوي ابومعأوية البصري المؤدب، سكن الكوفة ثم انتقل إلى بغداد - مات في خلافة المهدي سنة -164- وكان من الطبقة السابعة (15)، وعليه فلم يدرك ابن عباس المتوفى سنة -68- ولا كعب الاحبار الذي هلك في خلافة عثمان سنة -32- فالرواية مرسلة لم يعرف الواسطة، فكانت ساقطة عن الاعتبار.

وايضا روي عن اسحاق بن عبد اللّه بن الحرث عن ابيه، ان ابن عباس سال كعبا عن قوله تعالى: ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ و﴿يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسامون﴾ (16) فقال: هل يؤودك طرفك؟ هل يؤودك نفسك؟ قال: لا، قال: فانهم الهموا التسبيح، كما الهمتم الطرف والنفس (17).

وعبد اللّه هذا هو ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولد على عهد رسول اللّه (ع) بالمدينة واصبح من فقهائها، وتحول إلى البصرة ورضيته العامة، واصطلحوا عليه حين هلك يزيد بن معأوية توفي سنة -84- بالابوا ودفن بها، وكان خرج اليها هاربا من الحجاج (18).

غير ان الطبري روى باسناده إلى حسان بن مخارق عن عبد اللّه بن الحرث، انه هو الذي سال كعبا عن ذلك، قال: قلت لكعب الاحبار: ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ اما يشغلهم رسالة أوعمل؟ قال: يا ابن اخي، انهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، الست تاكل وتشرب وتقوم وتقعد وتجي وتذهب وانت تتنفس؟ قلت: بلى (19).

قلت: ياترى، هل كان هو الذي سال كعبا أوانه سمع ابن عباس يسال كعبا؟ في حين انه لايقول: سمعت ابن عباس يساله، بل مجرد ان ابن عباس ساله، الأمر الذي لا يوثق بكون الرواية منتهيه إلى سماع، والظاهر انه ارسال.

على انه من المحتمل القريب ان السائل هو بالذات، لكن ابنه اسحاق كره نسبة السؤال من مثل كعب إلى ابيه، فذكر الحديث عن ابيه مع اقحام واسطة ارسالا من غير اسناد ويؤيد ذلك انه لم تات رواية غير هذه تنسب إلى ابن عباس انه سال مثل كعب، فالارجح في النظر انه مفتعل عليه لا محالة.

واستند جولد تسيهر - في مراجعة ابن عباس لاهل الكتاب - ايضا إلى ما رواه الطبري باسناده إلى أبي جهضم موسى بن سالم مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي جلد ﴿غيلان بن فروة الازدي، كان قرا الكتب، وكان يختم القرآن كل سبعة ايام ويختم التوراة كل ثمانية ايام﴾ (20) يساله عن ﴿البرق﴾ في قوله تعالى: ﴿هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا﴾ فقال: البرق: الما (21).

لكن في طبقات ابن سعد (22) ان ابا الجلد الجوني - حي من الازد - اسمه جيلان بن فروة، كان يقرا الكتب وزعمت ابنته ميمونة: ان اباها كان يقرا القرآن في كل سبعة ايام، ويختم التوراة في ستة، يقراها نظرا، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس.

لا شك انها مغالاة من ابنته يقول جولد تسيهر: ولا يتضح حقا من هذا الخبر الغامض، الذي زادته مغالاة ابنته غموضا، اى نسخة من التوراة كان يستخدمها في دراسته (23).

لان التوراة المعهو دة اليوم وهي تشتمل على -39- كتابا تكون في حجم كبير، ثم هي قصة حياة اسرائيل طول عشرين قرنا، وفيها تاريخ حياة انبيا بني اسرائيل وملوكهم ورحلاتهم وحروبهم طول التاريخ، وهي بكتب التاريخ اشبه منها بكتب الوحي فهل كان يقرا ذلك كله في ستة ايام؟ وما هي الفائدة في ذلك التكرار؟ على ان رأوي الخبر - وهو موسى بن سالم أبوجهضم - لم يلق ابن عباس ولا ادركه، لانه مولى آل العباس، وليس مولى لابن عباس ففي نسخة الطبري المطبوعة خطا قطعا قال ابن حجر: موسى بن سالم ابوجهضم مولى آل العباس، ارسل عن ابن عباس وهو من رواة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) (24) وفي الخلاصة:موسى بن سالم مولى العباسيين ابوجهضم عن أبي جعفر الباقر، وعنه الحمادان (25) والإمام الباقر توفي سنة -114-.

واخيرا، فان الموارد التي ذكروا مراجعة ابن عباس فيها لاهل الكتاب لا تعدومعاني لغوية بحتة، لا تمس قضاياسالفة عن امم خلت كما زعموا، ولا سيما السؤال عن ﴿البرق﴾، وهو لفظ عربي خالص، لا موجب للرجوع فيه إلى رجال اجانب عن اللغة كيف يا ترى يرجع مثل ابن عباس - وهو عربي صميم وعارف بمواضع لغته اكثر من غيره - إلى اليهو د الاجانب؟ للفظ البرق من مفهو م؟ ثم كيف اقتنع بتفسيره بالما؟اللهم ان هذا الا اختلاق الأمر الذي يقضي بالعجب، كيف يحكم هذا العلامة المستشرق حكمه البات، بان كثيرا ما ذكر انه كان يرجع كتابة - في تفسير معاني الالفاظ إلى من يدعى ابا الجلد؟ (26) ويجعل مستنده هذه المراجعة المفتعلة قطعا، اذكيف يعقل ان يراجع، مثله في مثل هذه المعاني؟ واسخف من الجميع تبرير ما نسب إلى ابن عباس من اقاصيص اسطورية جات عنه، بانه من جرا رجوعه إلى اهل الكتاب في هكذا امور بعيدة عن صميم الدين قال الاستاذ امين: وهذا يعلل ما في تفسيره من اسرائيليات قال ذلك بعد قوله: وكان ابن عباس وابوهريرة اكبر من نشر علم كعب الاحبار (27).

وقال الدكتور مصطفى الصأوي: وكثيرا ما ترد عن ابن عباس روايات في بد الخليقة وقصص القرآن، مما لا يمكن ان يكون قد رجع فيها الا إلى اهل الكتاب، حيث يرد هذا القصص مفصلا، مثال هذا تفسيره للاية: ﴿قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدما﴾ (28) قال: لكنه حين يرجع اليهم مستفسرا، فانما يرجع رجوع العالم الذي يعير سمعه لما يقال، ثم يعمل فكره وعقله فيما يسمع، ثم ينخله مبعدا عنه الزيف (29).

قلت: ان كانت فيما روي عنه في ذلك وامثاله غرابة أوغضاضة، فان العتب انما يرجع إلى الذي نسبه إلى ابن عباس، ترويجا لاكذوبته، ولا لوم على ابن عباس في كثرة الوضع عليه نعم ولعل هذه الكثرة في الوضع عليه آية على تقدير له واكبار من الوضاع، لكنه في نفس الوقت، رغبة منهم في ان تنفق بضاعتهم، موسومة بمن في اسمه الرواج العلمي وقد اعترف بذلك الدكتور (30).، فلمإذا حكم عليه ذلك الحكم القاسي؟ فالصحيح: ان ابن عباس كان في غنى عن مراجعة اهل الكتاب، وعنده الرصيد الأوفى بالعلوم والمعارف والتاريخ واللغة، ولا سيما في مثل تلكم الاساطير السخيفة التي كانت كل ما يملكه اليهو د من بضاعة مزجاة كاسدة، بل ان موقف ابن عباس من اهل الكتاب عموما، ومن كعب الاحبار خصوصا، ما يصوره معتزا بدينه كريما على نفسه وثقافته.

يروى ان رجلا اتى ابن عباس يبلغه زعم كعب الاحبار: انه يجا بالشمس والقمر يوم القيامة كانهما ثوران عقيران فيقذفان في النار كذب كعب الاحبار، بل هذه يهو دية يريد ادخالها في الاسلام (31).

يقال: لما بلغ ذلك كعبا، اعتذر له بعد وتعلل (32).

وربما كان كعب يجالس ابن عباس يحأول مرأودته العلم فيما زعم، فكان ابن عباس يجابهه بما يح ط من قيمته روي انه ذكر الظلم في مجلس ابن عباس، فقال كعب: اني لا اجد في كتاب اللّه المنزل ﴿يريد التوراة﴾ (33) ان الظلم يخرب الديار، فقال ابن عباس: انا أوجدكه في القرآن، قال اللّه عز وجل:﴿فتلك بيوتهم خأوية بما ظلموا﴾ (34).

هذه حقيقة موقف ابن عباس من اليهو د كما ترى، وهو إذ كان يدعوإلى تجنب الرجوع إلى اهل الكتاب، لمايدخل بسبب ذلك من فساد على العقول وتشويه على العامة، فكيف يا ترى انه كان يرجع اليهم رغم نهيه وتحذيره تقولون ما لاتفعلون، كبر مقتا عند اللّه ان تقولوا ما لا تفعلون﴾ (35)، فحاشا ابن عباس ان يراجع اهل الكتاب، وحاشاه حاشاه.


1- التصحيف والتحريف للصاحبي، ص 3.

2- جاء في موضع آخر: ﴿﴿وكتابكم الذي انزل على رسول اللّه (ع) احدث، تقرأونه محضالم يشب﴾﴾ قوله: لم يشب، اي لم يخلطه شي من غير القرآن، تعريضا بكتب العهدين التي دس فيها ماينبوعن كونه وحيا.

3- جامع البخاري، ج9، ص 136، باب قول النبي: لاتسالوا اهل الكتاب عن شي وج3،ص 237 باب لايسال اهل الشرك عن الشهادة وغيرها، واللفظ على الاخير.

4- ويعني بهم اليهو د بالذات صرح بذلك ابن حجر في الشرح، ج3، ص 282.

5- جامع البخاري، ج9، ص 136.

6- فتح الباري بشرح البخاري، ج13، ص 284.

7- فتح الباري، ج13، ص 284.

8- نقلنا كلامه آنفا راجع: فجر الاسلام، ص 201.

9- البقرة / 210.

10- جامع البيان للطبري، ج2، ص 190 192 والدر المنثور للسيوطي، ج1، ص 241 242وتفسير ابن كثير، ج1، ص 245 249.

11- فجر الاسلام، ص 160.

12- سوف ننبه ان كعب الاحبار كان من صنايع معأوية، صنعه لنفسه لغرض الحط من كرامة الاسلام.

13- مذاهب التفسير الاسلامي، ص 88.

14- تفسير الطبري، ج27، ص 76.

15- المصدر نفسه، ج3، ص 115.

16- تهذيب التهذيب، ج4، ص 373 374 وتقريب التهذيب ايضا له، ج1، ص 356،رقم115.

17- الانبياء/ 20، فصلت / 38.

18- تفسير الطبري، ج17، ص 10.

19- تهذيب التهذيب، ج5، ص 180 181.

20- تفسير الطبري، ج17، ص 10.

21- مذاهب التفسير الاسلامي، ص 85.

22- تفسير الطبري، ج13، ص 82، الرعد/ 12.

23- ج7، ق1، ص 161، س 15.

24- مذاهب التفسير الاسلامي، ص 86.

25- تهذيب التهذيب، ج10، ص 344.

26- خلاصة التهذيب، ص 390.

27- مذاهب التفسير الاسلامي، ص 85.

28- فجر الاسلام، ص 160.

29- البقرة / 30، راجع: الطبري، ج1، ص 158.

30- مناهج في التفسير، ص 38.

31- مناهج في التفسير، ص 41.

32- العرائس للثعالبي، ص 18 ﴿مناهج في التفسير، ص 29﴾.

33- المصدر نفسه، ص 24.

34- حسب التصريح به في الرواية: كتاب اللّه المنزل، يعني التوراة ﴿راجع: ابن قتيبة في عيون الاخبار، ج1، ص 146، س 13﴾.

35- عيون الاخبار لابن قتيبة، ج1، ص 26 ﴿مناهج، ص 39﴾، النمل / 52.