مسائل ابن الازرق
ولعل أوسع ما اثر عن ابن عباس في هذا الباب هي مسائل نافع بن الازرق الخارجي (1)، جا ليسال حبرالامة تعنتا لا تفهما وكان متقنا للعربية وامير قومه وفقيههم، فحأول افحام مثل ابن عباس استظهارا لمذهبه. والقصة كما رواها السيوطي في الاتقان، فيها شي من الغرابة، ولعل فيها زيادة وتحريفا، غير انها على كل حال تحدد من اتجاه ابن عباس اللغوي في التفسير، واضطلاعه بالادب الرفيع. قال جلال الدين السيوطي: قد روينا عن ابن عباس كثيرا من استشهاده بالشعر لحل غريب القرآن، وأوعب مارويناه عنه مسائل ابن الازرق - وساقها تماما حسب استخراجه من كتاب الوقف لابن الانباري، والمعجم الكبير للطبراني - (2) ولنذكر منها طرفا: قال بينا عبد اللّه بن عباس جالس بفنا الكعبة، قد اكتنفه الناس يسالونه عن تفسير القرآن، وإذا بنافع بن الازرق قال لنجدة بن عويمر (3): قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فاتياه وقالا:نريد ان نسالك عن اشيا من كتاب اللّه، فتفسرها لنا، وتاتينا بمصادقة من كلام العرب، فان اللّه انما انزل القرآن بلسان عربي مبين قال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما. فساله نافع عن قوله تعالى: ﴿عن اليمين وعن الشمال عزين﴾ (4)؟ قال: العزون: الحلق الرقاق قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، اما سمعت عبيد بن الابرص وهو يقول: فجاؤوا يهرعون اليه حتى يكونوا حول منبره عزينا. قال الراغب: عزون، واحدته عزة، واصله من: عزوته فاعتزى، اي نسبته فانتسب. وقال الطبرسي: عزون، جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة وانما جمع بالوأووالنون، لانه عوض، مثل سنة وسنون واصل عزة عزوة من: عزاه يعزوه، إذا اضافه إلى غيره فكل جماعة من هذه الجماعات مضافة إلى الاخرى (5). وساله عن قوله: ﴿إذا اثمر وينعه﴾ (6)؟ قال: نضجه وبلاغه واستشهد بقول الشاعر: إذا مشت وسط النسا تأودت كما اهتز غصن ناعم النبت يانع (7). وساله عن ﴿الفلك المشحون﴾ (8)؟ قال: السفينة الموقرة الممتلئة واستشهد بقول ابن الابرص: شحنا ارضهم بالخيل حتى تركناهم اذل من الصراط (9). وساله عن ﴿زنيم﴾ (10)؟ قال: ولد زنى واستشهد بقول الخطيم التميمي: زنيم تداعته الرجال زيادة كما زيد في عرض الاديم الاكارع (11). قال الراغب: الزنيم: الزائد في القوم وليس منهم وهو المنتسب إلى قوم هو معلق بهم لا منهم. وساله عن ﴿جد ربنا﴾ (12)؟ قال: عظمة ربنا واستشهد بقول امية بن أبي الصلت: لك الحمد والنعما والملك ربنا فلا شي اعلا منك جدا وامجدا. وكان يبحث عن لغات القبائل ويترصد اخبارهم، استطلاعا للغريب من الفاظهم الواقعة في القرآن، وكان إذااشكل عليه فهم كلمة ارجاها حتى يتسمع قول الاعراب ليعثر على معناها، طريقة متبعة لدى اهل التحقيق. اخرج الطبري باسناده إلى ابن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس، وهو يسال عن قوله تعالى: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (13)، قال: ما هاهنا من هذيل (14) احد؟ فقال رجل:نعم، قال: ما تعدون الحرجة فيكم؟ قال: الشي الضيق قال ابن عباس: فهو كذلك (15). واخرج من طريق قتادة عن ابن عباس، قال: لم اكن ادري ما ﴿افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (16) حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعال افاتحك، تعني اقاضيك (17). واخرج ابوعبيد في الفضائل من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: كنت لا ادرى ما﴿فاطر السمأوات والا رض﴾ (18) حتى اتاني اعرابيان يختصمان في بئر، فقال احدهما: انا فطرتها، يقول: انا ابتداتها (19). وفي تفسير الزمخشري - عند قوله تعالى: ﴿انه ظن ان لن يحور﴾ (20): وعن ابن عباس: ما كنت ادري مامعنى ﴿يحور﴾ حتى سمعت اعرابية تقول لبنية لها: حوري، اي ارجعي. واستشهد الزمخشري بقول لبيد: وما المر الا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (21). وقد جا نفس الاستشهاد في مسائل ابن الازرق ايضا (22). وهكذا استطاع بثقافته اللغوية ان يحيط بلغات القبائل، ويميز عن بعضها البعض. روي عنه في قوله تعالى: ﴿وكنتم قوما بورا﴾ (23) انه قال: البور، في لغة اذرعات الفاسد، فاما عند العرب فانه لا شي (24). وقال في قوله تعالى: ﴿وانتم سامدون﴾ (25) السمود: الفنا، وهي يمانية. وفي قوله تعالى: ﴿اتدعون بعلا﴾ (26) قال: ربا، بلغة اهل اليمن. وفي قوله: ﴿كلا لا وزر﴾ (27) قال: الوزر: ولد الولد، بلغة هذيل. وفي قوله: ﴿في الكتاب مسطورا﴾ (28) قال: مكتوبا، وهي لغة حميرية، يسمون الكتاب اسطورا (29). بل نراه لم يقتصر على الاحاطة بلغات القبائل، حتى ضم اليها التعرف إلى الكلمات الوافدة إلى العربية من لغات الامم المجأورة قال في قوله تعالى: ﴿ان ناشئة الليل هى اشد وطئا واقوم قيلا﴾ بلسان الحبشة، إذاقام الرجل من الليل قالوا: نشا (30). وقال في قوله تعالى: ﴿فرت من قسورة﴾ هو بالعربية الاسد، وبالفارسية شار ﴿شير﴾، وبالقبطية اريا، وبالحبشية قسورة (31). هذا، مضافا إلى معرفته بداب سائر الامم ورسومهم، كان يقول في قوله تعالى: ﴿يود احدهم لويعمرالف سنة﴾ هو قول الاعاجم: ﴿زه، نوروز، مهرجان حر﴾ (32). وعن تلميذه سعيد بن جبير: هو قول بعضهم لبعض إذا عطس: زه هزار سال، وفي رواية عن ابن عباس: هو قول احدهم: زه هزار سال، يقول: عش الف سنة (33) ﴿زه﴾ و﴿زى﴾ بالفارسية بمعنى الدعا بطول العمر، من ﴿زيستن﴾ بمعنى الحياة. اضف إلى ذلك معرفته بالتاريخ والجغرافية، وما جرت على جزيرة العرب من حوادث وايام، وقد اتاح له حظا وافرا من هذه الثقافة، تنقله في البلاد، بين مكة والمدينة، ثم ولايته على البصرة واشتراكه في غزوة افريقية، بل وتنقله بين انحا الجزيرة في طلب العلم، إذ كان يهتم الاهتمام كله بتعرف قصة كل اسم أوموطن أوموضع جرى له ذكر في القرآن، ان مبهما أوصريحا يقول: ﴿الاحقاف، المذكور في الكتاب العزيز: واد بين عمان وارض مهرة﴾ وارض مهرة هي حضرموت كما جا في كلام ابن اسحاق وقال قتادة: الاحقاف: رمال مشرفة على البحر بالشحر من ارض اليمن قال ياقوت: هذه ثلاثة اقوال غير مختلفة في المعنى (34). وقال - في البحرين: روي عن ابن عباس: البحرين من اعمال العراق، وحده من عمان ناحية جر فار، واليمامة على جبالها (35). وقال - في عرفة: وقال ابن عباس: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبالها إلى قصر آل مالك ووادي عرفة (36). وقال - في تحديد جزيرة العرب: واحسن ما قيل في تحديدها ما ذكره أبوالمنذرهشام بن محمد بن السائب الكلبي مسندا إلى ابن عباس، قال: اقتسمت العرب جزيرتها على خمسة اقسام قال: وانما سميت بلاد العرب جزيرة، لاحاطة الانهار والبحار بها من جميع اقطارها واطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر (37). إلى غيرها من موارد تدلك على سعة معرفة ابن عباس بالأوضاع والاحوال التي تكتنفه، شان اي عالم ومحقق خبير. وبعد فان احاطته باللغة وبالشعر القديم، لتدلك على قوة ثقافته البالغة حدا لم يصل اليه غيره، ممن كان في طرازه ذلك العهد، الأمر الذي جعله بحق زعيم هذا الجانب من تفسير القرآن، حتى لقد قيل في شانه: هو الذي ابدع الطريقة اللغوية في التفسير (38) فضلا عن كونه ابا للتفسير في جميع جوانبه ومجالاته. وبذلك كان قد كشف النقاب عن وجه كثير من آيات احاطت بها هالة من الابهام، لولا معرفة سبب النزول. مثلا نتسال: ما هي العلاقة بين ﴿ذكر اللّه وذكر الابا﴾ في قوله تعالى: ﴿فإذا قضيتم مناسككم فاذكروااللّه كذكركم آباكم أواشد ذكرا﴾ (39) والسياق وارد بشان احكام الحج ومناسكه؟.
وهنا ياتي ابن عباس ليوضح من موضع هذه العلاقة قال: ﴿ان العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد ايام التشريق، يقفون بين مسجد منى وبين الجبل، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم، ويتناشدون فيها الاشعار، ويتكلمون بالمنثور من الكلام، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل، حصول الشهرة والترفع بمثر سلفه فلما انعم اللّه عليهم بالاسلام امرهم ان يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لابائهم أواشد ذكرا﴾ (40).
وهكذا لما تسال بعضهم: ما وجه قوله تعالى: ﴿فلا جناح عليه ان يطوف بهما﴾ (41) اي لا حرج عليه ولا ماثم في السعي بين الصفا والمروة وظاهره نفي الباس، اي عدم المنع، وهو لايقتضي الوجوب، مع ان قوله تعالى - في صدر الاية: ﴿ان الصفا والمروة من شعائر اللّه﴾ يستدعي الوجوب، لانه خبر في معنى الأمر؟ وقد كان ذلك موضع تساؤل منذ أول يومه اخرج الطبري باسناده إلى عمروابن حبيش قال: قلت لعبد اللّه بن عمر: ﴿ان الصفا والمروة من شعائر اللّه، فمن حج البيت أواعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما﴾، قال: انطلق إلى ابن عباس فاساله فانه اعلم من بقي بما انزل على محمد(ع).
قال: فاتيت ابن عباس فسالته، فقال: انه كان عندهما اصنام، فلما اسلموا امسكوا عن الطواف بينهما حتى انزلت ﴿ان الصفا والمروة من شعائر اللّه﴾ (42).
كان المشركون قد وضعوا على الصفا صنما يقال له: ﴿اساف﴾، وعلى المروة ﴿نائلة﴾فلما اعتمر رسول اللّه (ع)عمرة القضا تحرج المسلمون عن السعي بينهما، زعما منهم ان السعي بينهما شي كان صنعه المشركون تزلفاالى الصنمين، فانزل اللّه ان لا حرج ولا موضع لما وهمه اناس (43).
1- النحل / 103، الاتقان، ج2، ص 55.
2- نافع بن الازرق الحنفي الحروري، راس الازارقة من الخوارج واليه نسبتهم هلك سنة ﴿65ه﴾.
3- راجع الاتقان، ج2، ص 56 88.
4- نجدة بن عامر الحنفي الحروري، راس الفرقة النجدية كان من اصحاب الثورات ذلك العهدهلك سنة ﴿69﴾ ه.
5- المعارج / 37.
6- مجمع البيان، ج10، ص 357.
7- الانعام / 99.
8- أود وتأود: اعوج وانحنى.
9- الشعراء/ 119.
10- شحن المدينة بالخيل: ملاها.
11- القلم / 13.
12- تداعوا الشي: ادعوه تداعى القوم: دعا بعضهم بعضا والاديم: وجه الارض واكارع الارض: اطرافها القاصية.
13- الجن / 3.
14- الحج / 78.
15- تروى الاخبار ان هذيلا كانت احسن القبائل ثقافة وأوسعها في اللغة، ومن ثم تمنى عثمان عند ما رفع اليه المصحف وراى فيه شيئا من اللحن قال: لوكان المملئ من هذيل، والكاتب من ثقيف، لم يقع فيه هذا ﴿مصاحف السجستاني، ص 32 33﴾. ويروى ان عمر قرا على المنبر: ﴿أوياخذهم على تخوف﴾النحل / 47، ولم يدر ما معنى التخوف هنا هل تعرف العرب ذلك ؟ قال الشيخ: نعم، يقول الشاعر: تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن. والسفن: الحديدة التي يبرد بها خشب القوس والقرد: الكثير القردان والتامك: العظيم السنام يقول: ان الرحل تنقص سنام الناقة كما تاكل الحديدة خشب القوس. ﴿فجر الاسلام لاحمد امين، ص 196 عن الموافقات، ج2، ص 57 و58 والذهبي، ج1،ص 74، عنه ج1، ص 88﴾.
16- تفسير الطبري، ج17، ص 143.
17- الاعراف / 89.
18- الطبري، ج9، ص 3 وفي رواية: انطلق افاتحك، تعني اخاصمك وراجع: الاتقان، ج2،ص 5وجات القصة في تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ج1، ص 48 محرفة وراجع: ايضامناهج التفسير للصأوي، ص 34.
19- فاطر/ 1.
20- الاتقان، ج2، ص 4.
21- الانشقاق / 14.
22- الكشاف، ج4، ص 727.
23- الاتقان، ج4، ص 64.
24- الفتح / 12.
25- رواه ابن قتيبة مسندا له الى ابن عباس ﴿تأويل مشكل القرآن، ج2، ص 133﴾ وفيه شي من التصحيف، صححناه على تفسير الطبري ﴿ج26، ص 49﴾ من غير ان ينسبه الى ابن عباس.
26- النجم / 61.
27- الصافات / 125.
28- القيامة / 11.
29- الاسراء/ 58.
30- الاتقان، ج2، ص 89 91.
31- تفسير الطبري، ج1، ص 6، المزمل / 6.
32- المصدر نفسه، المدثر/ 51.
33- الطبري، ج1، ص 340، البقرة / 96.
34- الطبري، ج1، ص 340 والدرالمنثور، ج1، ص 89.
35- معجم البلدان، ج1، ص 115.
36- المصدر نفسه، ج1، ص 347.
37- معجم البلدان، ج4، ص 104.
38- معجم البلدان، ج2، ص 137.
39- التفسير والمفسرون، ج1، ص 75 عن مذاهب التفسير الاسلامي لجولد تسيهر، ص 89.
40- البقرة / 200.
41- الفخر الرازي، ج5، ص 183.
42- البقرة / 158.
43- تفسير الطبري، ج2، ص 28، الدر المنثور، ج1، ص 159، البقرة / 158.