ثانيا - رعايته لاسباب النزول
ولاسباب النزول دورها الخطير في فهم معاني القرآن، حيث الايات والسور نزلت نجوما، وفي فترات وشؤون يختلف بعضها عن بعض فاذ كانت الاية تنزل لمناسبة خاصة ولعلاج حادثة وقعت لوقتها، فانها حينذاك ترتبط معها ارتباطا وثيقا ولولا الوقوف على تلك المناسبة، لما امكن فهم مرامي الاية بالذات، فلا بد لدارس معاني القرآن ان يراعي قبل كل شي شان نزول كل آية آية، ويهتم باسباب نزولها هذاإذا كان لنزولها شان خاص، فلا بد من النظر والفحص. وهكذا اهتم حبر الامة بهذا الجانب، واعتمد كثيرا لفهم معاني القرآن على معرفة اسباب نزولها، وكان يسال ويستقصي عن الاسباب والاشخاص الذين نزل فيهم قرآن وسائر ما يمس شان النزول، وهذا من امتيازه الخاص الموجب لبراعته في التفسير وقد مر حديث اتيانه ابواب الصحابة يسالهم الحديث عن رسول اللّه (ع)، (1) كان حريصا على طلب العلم ومنهو ما لايشبع: من ذلك ما رواه جماعة كبيرة من اصحاب الحديث، باسنادهم إلى ابن عباس، قال:لم ازل حريصا ان اسال عمر عن المراتين من ازواج النبى (ع) اللتين قال اللّه تعالى بشانهما ﴿ان تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما﴾ (2) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالادأوة، فتبرز ثم اتى، فصببت على يديه فتوضا، فقلت: يا امير المؤمنين، من المراتان من ازواج النبى (ع) اللتان قال اللّه: ﴿ان تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما﴾؟ فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس (3). وفي تفسير القرطبي، قال ابن عباس: مكثت سنتين اريد ان اسال عمر عن المراتين اللتين تظاهرتا على النبى (ع) ما يمنعني الا مهابته، فسالته، فقال: هما حفصة وعائشه (4). ولقد بلغ في ذلك الغاية، حتى لنجد اسمه يدور كثيرا في اقدم مرجع بين ايدينا عن سبب النزول، وهو سيرة ابن اسحاق التي جا تلخيصها في سيرة ابن هشام. قال: وكان ابن عباس يقول: فيما بلغني نزل في النضر بن حارث ثمان آيات من القرآن: قول اللّه عز وجل: ﴿إذا تتلى عليه آياتنا قال اساطير الا ولين﴾ (5)، وكل ما ذكر فيه من الاساطير من القرآن (6). قال: وحدثت عن ابن عباس انه قال - وسرد قصة سؤال احبار اليهو د النبى (ع)عند مقدمه المدينة: فانزل اللّه عليه فيما سالوه عنه من ذلك: ﴿ولوان ما في الا رض من شجرة اقلام﴾ (7). قال: وانزل اللّه تعالى عليه فيما ساله قومه من تسيير الجبال ﴿ولوان قرآنا سيرت به الجبال﴾ (8). قال: وانزل عليه في قولهم: خذ لنفسك ﴿وقالوا مال هذا الرسول﴾ (9)، وانزل عليه في ذلك من قولهم:﴿وما ارسلنا قبلك من المرسلين الا انهم لياكلون الطعام ويمشون في الا سواق﴾ (10)، وكذا في قوله تعالى: ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها﴾ (11): انما انزلت من اجل أولئك النفر (12) وهكذا يتابع ذكر اسباب نزول آيات، وفي الاكثر يسندها إلى ابن عباس. وقد برع ابن عباس في هذه الناحية من نواحي ادوات التفسير، حتى كان يخلص آي القرآن المدني من المكي فقد سال ابوعمروابن العلا مجاهدا عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي، فقال:سالت ابن عباس عن ذلك، فجعل ابن عباس يفصلها له وهكذا نجد ابن عباس بدوره قد سال ابى بن كعب عن ذلك (13). كما تقصى اسباب النزول فاحسن التقصي، فكان يعرف الحضري من السفري، والنهاري من الليلي، وفيم انزل وفيمن انزل، ومتى انزل واين انزل، وأول ما نزل وآخر ما نزل، وهلم جرا (14)، مما يدل على براعته ونبوغه في تفسير القرآن.
1- الدرالمنثور، ج5، ص 347 وراجع: الطبري تفسيره، ج24، ص 31.
2- الاصابة، ج2، ص 331 332.
3- التحريم / 4.
4- الدر المنثور، ج6، ص 242.
5- الجامع لاحكام القرآن، ج1، ص 26.
6- القلم / 15.
7- ابن هشام، ج1، ص 321 تكرر لفظ ﴿﴿الاساطير﴾﴾ في تسع سور مكية: الانعام / 25الانفال / 31 النحل / 24 المؤمنون / 83 الفرقان / 5 النمل / 68 الاحقاف / 17 القلم /15المطففين / 13.
8- لقمان / 27.
9- الرعد/ 31.
10- الفرقان / 7.
11- الفرقان / 20.
12- الاسراء/ 110.
13- راجع: ابن هشام، ج1، ص 330 و335.
14- راجع: الاتقان، ج1، ص 24 و26.