المرحلة الثانية التفسير في دور الصحابة
هم درجات عند اللّه:
قال تعالى: ﴿نرفع درجات من نشا وفوق كل ذى علم عليم﴾ (1). لا شك ان الصحابة، ممن ﴿رضي اللّه عنهم ورضوا عنه﴾ (2) كانوا هم مراجع الامة بعد الرسول (ع)اذ كانوا حاملي لوائه ومصادر شريعته إلى الملا، ليس يعدل عنهم إلى الابد. نعم كانوا على درجات من العلم والفضيلة حسبما أوتوا من فهم وذكا وسائرالمواهب والاستعداد﴿انزل من السما ما فسالت أودية بقدرها﴾ (3)، ﴿يؤتي الحكمة من يشا ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾ (4). قال مسروق بن الاجدع الهمداني (5): جالست اصحاب محمد(ع) فوجدتهم كالاخاذ - يعني الغدير من الما فالاخاذ يروي الرجل، والاخاذ يروي الرجلين، والاخاذ يروي العشرة، والاخاذ يروي المائة، والاخاذ لونزل به اهل الارض لاصدرهم (6). وفي لفظ ابن الاثير: تكفي الاخاذة الراكب، وتكفي الاخاذة الراكبين، وتكفي الاخاذة الفئام من الناس قال: والاخاذ ككتاب: مصنع للما يجتمع فيه والفئام: الجماعة الكثيرة (7). ويعني بالاخير ﴿لاصدرهم﴾ الإمام امير المؤمنين، عليه صلوات المصلين، حيث كان - سلام اللّه عليه - ينحدر عنه السيل ولا يرقى اليه الطير (8) قال مسروق: ﴿انتهى العلم إلى ثلاثة: عالم بالمدينة على بن أبي طالب، وعالم بالعراق عبد اللّه ابن مسعود، وعالم بالشام أبي الدردا، فإذا التقوا سال عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة وهو لم يسالهم﴾ (9). قال الاستاذ محمد حسين الذهبي: الحق ان الصحابة كانوا يتفأوتون في القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه، وذلك راجع إلى اختلافهم في ادوات الفهم فقد كانوا يتفأوتون في العلم بلغتهم، فمنهم الواسع الاطلاع الملم بغريبها ﴿كعبد اللّه بن عباس﴾، ومنهم دون ذلك، ومنهم من لازم النبى (ع)فعرف من اسباب النزول ما لم يعرفه غيره ﴿كعلى بن أبي طالب (ع) اضف إلى ذلك ان الصحابة لم يكونوا في درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سوا، بل كانوا مختلفين في ذلك اختلافا عظيما (10). هذا عدى بن حاتم (11)، العربي الصميم، حسب من قوله تعالى: ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الا بيض من الخيط الا سود من الفجر﴾ (12) انه تمايز احد خيطين: ابيض وآخر اسود، احدهما عن الاخر في ضؤ الفجر، فاخذ عقالين ابيض واسود وجعلهما تحت وساده، فجعل ينظر اليهما فلايتبين له احدهما عن الاخر، فلما اصبح غدا إلى رسول اللّه (ع) يخبره بما صنع، فضحك رسول اللّه من صنيعه ذلك، حتى بدت نواجذه، وفي رواية، قال له: ان وسادك اذن لعريض - كناية عن عدم تنبهه لحقيقة الأمر - ثم قال له: انما ذاك بياض النهار من سواد الليل (13)، انه البياض المعترض على الافق تحت سواد الليل المنصرم وفي الدر المنثور: لا يمنعكم من سحوركم إذان بلال ولا الفجر المستطيل - وهو الساطع المصعد - ولكن الفجرالمستظهر في الافق، هو المعترض الاحمر، يلوح إلى الحمرة وفي حديث: لايمنعكم إذان بلال من سحوركم فانه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا إذان ابن ام مكتوم، فانه لا يؤذن حتى يطلع الفجر (14). قال الإمام أبوجعفر الباقر (ع): ﴿الفجر هو الخيط الابيض المعترض، وليس هو الابيض صعدا﴾ (15). وزعمت عائشة من قوله تعالى: ﴿يوتون ما آتوا﴾ ارادة ارتكاب المثم، الأمر الذي يتنافى مع سياق الاية الواردة بشان الاشادة بموضع المؤمنين حقا، قال تعالى: ﴿ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون - إلى قوله - والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾ (16). فسالت عن ذلك رسول اللّه (ع)، وقالت: هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف اللّه؟ (17) كناية عن اتيانه الطاعات، وجلا ان لايكون مؤديا لها تامة حسبما اراده اللّه. ولعلها كانت تتصور من الكلمة انها مقصورة ﴿ياتون ما اتوا﴾ بمعنى: ﴿يعملون ما عملوا﴾، وقد اسلفنا الكلام عن تزييفه (18) وان الصحيح هو قراة المد ﴿يؤتون ما آتوا﴾ بمعنى: يؤدون ما ادوا، اي من افعال البر والخيرات، من غير اعجاب ولا ريا، والى ذلك ينظر تفسيره (ع). وروى زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) قال: اتى عمار بن ياسر رسول اللّه (ع) فقال: يا رسول اللّه، اجنبت الليلة ولم يكن معي ما قال: كيف صنعت؟ قال: طرحت ثيابي ثم قمت إلى الصعيد فعلمه رسول اللّه التيمم، سوا اكان بدل وضؤ ام بدل غسل (19). وقرا عمر بن الخطاب من سورة ﴿عبس﴾ حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿فلينظر الا نسان إلى طعامه، اناصببنا الما صبا، ثم شققنا الا رض شقا، فانبتنا فيها حبا، وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وابا، متاعا لكم ولانعامكم﴾ (20)، فقال: هذه الفاكهة قدعرفناها، فما الاب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: ان هذا لهو التكلف يا عمر وفي رواية: ثم رفض - أونقض - عصا كانت في يده، وقال: هذا لعمر اللّه هو التكلف، فما عليك ان لا تدري ماالاب، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه ولعله سئل عن تفسير الاية فحار في الجواب. وقد ورد ان ابابكر - ايضا - سئل قبل ذلك عن تفسير الاية، فقال: اى سما تظلني، واى ارض تقلني، إذا قلت في كتاب اللّه ما لم اعلم (21). قال الذهبي: ولواننا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا انهم لم يكونوا في درجة واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن، بل تتفأوت مراتبهم، واشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم وهذا يرجع إلى تفأوتهم في القوة العقلية، وتفأوتهم في معرفة ما احاط بالقرآن من ظروف وملابسات واكثر من هذا انهم كانوا لا يتسأوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة، ولا ضير في هذا، فان اللغة لا يحيط بها الا معصوم، ولم يدع احد ان كل فرد من امة يعرف جميع الفاظ لغتها. قال: ومما يشهد لهذا الذي ذهبنا اليه، ما اخرجه أبوعبيدة في الفضائل عن انس: ان عمر بن الخطاب قرا على المنبر ﴿وفاكهة وابا﴾ فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الاب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: ان هذا لهو التكلف يا عمر وما روي من ان عمر كان على المنبر فقرا: ﴿أوياخذهم على تخوف﴾ (22) ثم سال عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص، ثم انشد: تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن (23). قال الطبرسي: التخوف: التنقص، وهو ان ياخذ الأول فالأول حتى لايبقى منهم احد، وتلك حالة يخاف معهاالهلاك والفنا وهو الغنا تدريجا، ثم انشد البيت بتبديل الرحل إلى السير (24). قال الفرا: جا التفسير بانه التنقص والعرب تقول: تحوفته - بالحا المهملة: تنقصه من حافاته (25). ومعنى الاية - على ذلك: انه تعالى يهلكهم على تدرج شيئا فشيئا، بما يجعلهم على خوف الفنا، حيث يرون انهم في تنقيص، والاخذ من جوانبهم تدريجا، وهذا نظير ما ورد في آية اخرى: ﴿افلا يرون انا ناتي الا رض ننقصها من اطرافها﴾ (26) وقوله: ﴿ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الا موال والا نفس والثمرات﴾ (27). وايضا اخرج ابوعبيدة من طريق مجاهد عن عبد اللّه بن عباس، قال: كنت لا ادري ما ﴿فاطر السمأوات﴾ حتى اتاني اعرابيان يتخاصمان في بئر فقال احدهما: انا فطرتها، والاخر يقول: انا ابتداتها (28). قال الذهبي: فإذا كان عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى ﴿الاب﴾ ومعنى ﴿التخوف﴾، ويسال عنهما غيره، وابن عباس - وهو ترجمان القرآن - لا يظهر له معنى ﴿فاطر﴾ الا بعد سماعه من غيره، فكيف شان غيرهما؟ مثلا - ان يعلموا من قوله تعالى: ﴿وفاكهة وابا﴾ انه تعداد للنعم التي انعم اللّه بها عليهم، ولا يلزمون انفسهم بتفهم معنى الاية تفصيلا، ما دام المراد واضحاجليا (29).
1- يوسف / 76.
2- التوبة / 100.
3- الرعد/ 17.
4- البقرة / 269.
5- كان من التابعين، فقيه عابد قال الشعبي: ما رايت اطلب منه للعلم كان معلما ومقرئا ومفتياصحب عليا(ع) ولم يتخلف عن حروبه توفي سنة 62، وله من العمر 63 سنة.
6- التفسير والمفسرون، ج1، ص 36.
7- النهاية، ج1، ص 28.
8- راجع: الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة، رقم3.
9- راجع: تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة الامام على بن ابي طالب، ج3، ص 51،رقم1086.
10- التفسير والمفسرون، ج1، ص 35.
11- هو ابن حاتم الموصوف بالجود الذي يضرب به المثل، وفد على النبى (ع) سنة تسع كان جوادا شريفا في قومه وكان ثابت الايمان راسخ العقيدة، روي عنه انه قال: ما دخل على وقت صلاة الا وانا مشتاق اليها وكان رسول اللّه (ع) يكرمه إذا دخل عليه قال الشعبي:ارسل اليه الاشعث يستعير منه قدور حاتم فملاها وحملها الرجال اليه فقال: انما اردناهافارغة، فقال عدى: انا لا نعيرها فارغة كان منحرفا عن عثمان، ثابتا مع امير المؤمنين (ع)فقئت عينه يوم الجمل وقتل ابنان له في ركاب علي (ع) وشهد صفين بنفسه توفي سنة 67بالكوفة ايام المختار، وله مائة وعشرون سنة، ﴿اسد الغابة، ج3، ص 392﴾.
12- البقرة / 187.
13- فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر، ج4، ص 113 114 وتفسير الطبري، ج2،ص 100.
14- الدر المنثور، ج1، ص 198 200. هكذا رواه القوم بشان بلال وابن ام مكتوم، ولعله اشتباه من الرأوي أوالناسخ، لان بلالا كان هو المؤذن المعتمد عند رسول اللّه (ع) والاصحاب وكان ابن ام مكتوم مكفوفا، يؤذن قبيل طلوع الفجر، وكان ذلك سبب تشريع إذانين وقد تدأوم عليه اهل المدينة، حتى اليوم. قال ابوجعفر الصدوق: كان لرسول اللّه (ع) مؤذنان، بلال والاخر ابن ام مكتوم وكان اعمى، وكان يؤذن قبل الصبح وكان بلال يؤذن بعد الصبح، فقال النبي (ع): ان ابن ام مكتوم يؤذن بالليل، فإذا سمعتم إذانه فكلوا واشربوا، حتى تسمعوا إذان بلال فغيرت العامة هذاالحديث عن جهته، وقالوا: انه (ع) قال: ان بلالا يؤذن بليل، فإذا سمعتم إذانه فكلوا واشربواحتى تسمعوا إذان ابن ام مكتوم ﴿من لايحضره الفقيه، ج1، ص 193 194﴾.
15- وسائل الشيعة، ج3، ص 153، رقم4، باب 27، المواقيت.
16- المؤمنون / 57 61.
17- الاتقان، ج4، ص 238.
18- عند المبحث عن مسالة التحريف عند حشوية العامة برقم20 وراجع: المستدرك، ج2،ص 235و246.
19- التمعك: التمرغ في التراب.
20- العياشي، ج1، ص 244، رقم144 و145وص 302، رقم63.
21- عبس / 24 32.
22- راجع: الدر المنثور، ج6، ص 317، والمستدرك للحاكم، ج2، ص 514. والاب: العشب المتهيئ للرعي والجز، من قولهم: اب لكذا، إذا تهيا له كما ان الفاكهة هي الثمرة الناضحة للاكل والقطف جا في المعجم الوسيط: الاب: العشب رطبه ويابسه يقال:فلان راع له الحب، وطاع له الاب، إذا زكا زرعه واتسع مرعاه.
23- النحل / 47.
24- الموافقات، ج2، ص 87 88 ﴿الذهبي، ج1، ص 34﴾.
25- مجمع البيان، ج6، ص 363. والرحل: القتب وهو ما يجعل على ظهر البعير كالسرج للفرس والتامك: السنام،لارتفاعه، يقال: تمك السنام تموكا إذا طال وارتفع والقرد: الذي تجعد شعره فصار كانه وقاية للسنام والنبع: شجر للقسي والسهام والسفن: ما ينحت به كالمبرد ونحوه. ومعنى البيت: ان الرحل قد اخذ من جوانب السنام فجعل ياكله وينقص من اطرافه، رغم سموكه وتجعده بالشعر المتلبد كما ياخذ المبرد من اطراف عود النبعة لبريه سهما أوقوسا.
26- معاني القرآن، ج2، ص 101.
27- الانبياء/ 44 ونظيرتها آية اخرى في سورة الرعد/ 41 ﴿أولم يروا انا ناتي الارض﴾.
28- البقرة / 155.
29- الاتقان، ج2، ص 4 ﴿ط2﴾ وج1، ص 113، ﴿ط1﴾.