أوجه بيان النبي (ع) لمعاني القرآن
قد عرفت كلام السيوطي: ان السنة بجنب القرآن شارحة له وموضحة له قال (ع): ﴿الا اني أوتيت القرآن ومثله معه﴾ يعني السنة الشريفة (1).
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع):﴿ان اللّه انزل على رسوله الصلاة ولم يسم لهم: ثلاثا ولا اربعا، حتى كان رسول اللّه (ع) هو الذي فسر ذلك لهم وانزل الحج فلم ينزل: طوفوا اسبوعا، حتى فسر ذلك لهم رسول اللّه - وفي رواية اخرى زيادة قوله - فنزلت عليه الزكاة فلم يسم اللّه: من كل اربعين درهما درهما، حتى كان رسول اللّه هو الذي فسر ذلك لهم﴾ (2).
ومعنى ذلك ان الفرائض والسنن والاحكام انما جات في القرآن بصورة اجمال في اصل تشريعاتها، اما التفصيل والبيان فقد جا في السنة في تفاصيل الشريعة، التي بينها رسول اللّه (ع) طيلة حياته الكريمة فكانت السنة إلى جنب القرآن تفسيرا لمواضع اجماله، وشارحة لمواضع ابهامه.
روى القرطبي بالاسناد إلى عمران بن حصين، انه قال لرجل - كان يزعم كفاية الكتاب عن السنة: انك رجل احمق، اتجد الظهر في كتاب اللّه اربعا لا يجهر فيها بالقراة والزكاة ونحوهذا ثم قال: اتجد هذا في كتاب اللّه مفسرا تفسر هذا.
وعن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول اللّه (ع) ويحضره جبرئيل بالسنة التي تفسر ذلك وعن مكحول قال: ﴿القرآن احوج إلى السنة من السنة إلى القرآن﴾، وقال يحيى بن أبي كثير: ﴿السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة﴾، قال الفضل بن زياد: سمعت احمد بن حنبل - وسئل عن هذاالحديث الذي روي ان ﴿السنة قاضية على الكتاب﴾ - فقال: ما اجسر على هذا ان اقوله، ولكني اقول: ان السنة تفسر الكتاب وتبينه (3).
وبعد، فان تبيين مجملات القرآن، من تفاصيل واردة في السنة، يمكن على وجوه:
الأول: ما ورد في القرآن بصورة تشريعات كلية، لا تفصيل فيها ولا تبيين عن شرائطها واحكامها، فهذا يجب طلب تفاصيلها من السنة، في اقوال الرسول وافعاله وتقاريره، كما في قوله تعالى: ﴿اقيموا الصلاة وآتواالزكاة﴾ (4)، وقوله: ﴿وللّه على الناس حج البيت﴾ (5) وما شابه، من تكاليف عبادية جا تشريعهافي القرآن بهذا الوجه الكلي فلابد لمعرفة اعداد الصلاة وركعاتها وافعالها واذكارها وسائر شروطها واحكامها (6)، من مراجعة السنة، وفيها البيان الوافي بجميع هذه التفاصيل، وهكذا مسالة الزكاة المفروضة والحج الواجب.
وهكذا ما جا في مختلف ابواب المعاملات، من قوله تعالى: ﴿واحل اللّه البيع وحرم الربا﴾ (7) فان للبيع الجائز انواعا، وللربا احكاما، ينبغي طلبها من السنة، فهي التي تحدد موضوع كل معاملة وتبين الشرائطالتي فرضتها الشريعة في تفاصيل هذه المعاملات.
الوجه الثاني: عمومات ذوات تخصيص، جا العام في القرآن وكانت مواردتخصيصه في السنة وهكذا مطلقات ذوات تقييد، جا الاطلاق في القرآن وكان التقييد في السنة ولا شك ان التخصيص وكذا التقييد بيان للمراد الجدي من العام وكذا من المطلق، وهذا الذي دل عليه العام في ظاهرعمومه والمطلق في ظاهر اطلاقه، انما هو المعنى الاستعمالي المستند إلى الوضع أودليل الحكمة والذي يكشف عن الجد في المراد هو الخاص الوارد بعد ذلك، وكذا القيد المتاخر وهذا معروف في علم الاصول.
ومثال الأول قوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلاثة قرؤ﴾ (8) وهذا عام لمطلق المطلقات وفي السنة تخصيص هذا الحكم بالمدخول بهن، اما غير المدخول بهن فلا اعتداد لهن وكذلك قوله بعد ذلك: ﴿وبعولتهن احق بردهن﴾مخصوص بالرجعيات.
مثال الثاني: ﴿تقييد المطلق﴾ قوله تعالى: ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما﴾ (9) وقد تقيد هذا الاطلاق بما إذا لم يتب، وكان قد قتله لايمانه، كما رواه العياشي عن الإمام الصادق (ع) (10).
وقوله تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك لهم الا من وهم مهتدون﴾ (11)، إذ ليس المراد مطلق الظلم، بل هو ﴿الشرك﴾ خاصة روي ذلك عن رسول اللّه (ع) (12)، وهكذا فسر اليد ﴿في القطع بالسرقة (13) باليمين من مفصل الاصابع ومثله جلد الزاني المتقيد بغيرالمحصن.
وايضا قوله تعالى: ﴿من بعد وصية يوصى بها أودين﴾ (14) فقد كان الميراث بعد اخراج ما أوصى به الميت وكذا دينه فالدين مطلق، اما الوصية فقيدت بما إذا لم تتجأوز ثلث التركة بعد وضع الدين فهذا التقييدتعرضت له السنة، وكان قد ابهم في القرآن ابهاما.
الوجه الثالث: ما إذا ورد عنوان خاص في القرآن، وكان متعلقا لتكليف، أوقيدا في عبادة مثلا، ولكنه كان مصطلحا شرعيا من غير ان يكون مفهو مه العام مرادا، فهذاايضا مما يجب تبيينه من السنة وهذا في جميع المصطلحات الشرعية - اي الحقائق الشرعية على حد تعبيرهم - مما لم تكن لها سابقة في العرف العام.
وهذا كما في الصلاة والزكاة والحج والجهاد وما شاكل، انها مصطلحات شرعية خاصة، (15) لا بد لمعرفة حقائقها وماهياتها من مراجعة الشريعة، كما كان يجب الرجوع اليها لمعرفة احكامهأوشرائطها، إذ ليست الصلاة مطلق الدعا والمتابعة - كما هي في اللغة والعرف العام غير الاسلامي - بل عبادة خاصة ذات كيفية وافعال واذكار خاصة، اعلن بها الشرع الحنيف، وتصدى لبيانه الرسول الكريم، قال: ﴿صلواكما رايتموني اصلي﴾.
وهكذا ليست الزكاة مطلق النمو، بل انفاق خاص في كيفية خاصة، توجب تنمية المال بفضل اللّه تعالى ان وقعت عن صدق واخلاص، الأمر الذي جا تبيينه في السنة الشريفة ومثلها الحج ليس مطلق القصد، وكذاالجهاد ليس مطلق الاجتهاد والسعي، وهكذا.
وكذلك موضوع الخطا والعمد في القتل، تعرضت السنة لبيانهما، وليس مطلق ما يفهم من هذين اللفظين لغة أوفي المتفاهم العام، فقد جا في السنة ان الخطا محضا هو ما لم يكن المقتول مقصودا اصلا اما إذا كان مقصودا ولكن لم يقصد قتله - بان لم يكن العمل الذي وقع عليه مما يقتل به غالبا - فوقع قتله اتفاقا، فهو شبيه العمد اماإذا كان مقصودا بالقتل فهو العمد محضا فهذا التفصيل والبيان انما تعرضت له السنة تفسيرا لما ابهم في القران من بيان هذه المفاهيم.
الوجه الرابع: موضوعات تكليفية تعرض لها القرآن من غير استيعاب ولا شمول، إذ لم يكن الاستقصامقصودا بالكلام، وانما هو بيان اصل التشريع وذكر جانب منه، مما كان موضع الابتلا ذلك الحين ومن ثم يبدوناقصا غير مستقصى، ومجملا في الشمول والبيان.
اما الاستقصا والشمول فالسنة الشريفة موردها، ففيها البيان والكمال، كما لم تات في القرآن شريعة ﴿رجم المحصن﴾ وانما فصلته السنة عن مطلق حكم الزاني الوارد في القرآن.
ومثل احكام الخطا والعمد في القتل لم يتعرض لها القرآن باستيعاب، إذ هناك خطا محض، وشبه العمد، والعمد المحض ليترتب على الأول ان الدية على العاقلة، وعلى الثاني كانت الدية على القاتل، وفي الثالث كان تشريع القصاص هو الاصل الا إذا رضي الأوليا بالدية أوالعفو.
فهذا الاستيعاب والاستقصا انما تعرضت له السنة، فاكملت بيان القرآن ورفعت من ابهامه، في هذا الجانب الذي كان يبدومجملا لوكان بصدد البيان ولم يكن اصل التشريع مقصودا فقط.
الوجه الخامس: بيان الناسخ من المنسوخ في احكام القرآن، إذ في القرآن احكام أولية منسوخة، واحكام اخر هي ناسخة نزلت متاخرا، فلتمييز الناسخ من المنسوخ لا بد من مراجعة السنة اماالقرآن ذاته فلا تمييز فيه بين ناسخه ومنسوخه، ولا سيما والترتيب الراهن بين الايات والسور قد تغير عماكان عليه النزول في البعض على الاقل اذن لم يبق لمعرفة وجه التمايز بين الحكم المنسوخ والحكم الناسخ الأمراجعة نصوص الشريعة ومن ثم قال مولانا امير المؤمنين (ع) لقاض مر عليه بالكوفة: اتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فهاب الإمام واجاب بالنفى اهلكت (16).
فمن ذلك قوله تعالى - بشان المتوفى عنها زوجها: ﴿والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا، وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج﴾ (17) كانت الشريعة في البد ان المراة المتوفى عنها زوجها لا ميراث لها سوى الامتاع في التركة حولا كاملا، وكان ذلك عدتها ايضا لكنها نسخت بية المواريث (18) وبية التربص اربعة اشهر وعشرا (19) ﴿وآية التربص الناسخة مثبتة في سورة البقرة قبل آية الحول المنسوخة﴾.
هكذا ورد في الحديث عن الإمام امير المؤمنين (ع)، وعن الإمامين الباقر والصادق (ع) (20).
ومن ذلك ايضا آية جزا الفحشا، فما في سورة النسا﴿15-16﴾ منسوخة بشريعة الجلد ﴿سورة النور/2﴾ والرجم، هكذا ورد عن الإمام الصادق (ع) (21).
ونظير ذلك كثير، ولا سيما إذا عممنا النسخ ليشمل التخصيص والاستثنا وسائر القيود ايضا، وقد كان معهو داذلك الحين.
1- الاتقان، ج4، ص 174.
2- الكافي الشريف، ج1، ص 286 والعياشي، ج1، ص 249 251، رقم169 و170 والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، ج1، ص 149.
3- تفسير القرطبي المقدمة ج1، ص 39.
4- البقرة / 43.
5- آل عمران / 97.
6- مثلا قوله تعالى: ﴿ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا﴾ ﴿النساء/ 103﴾ ما هذاالوقت المحدد للصلاة ؟ فقد احيل بيان ذلك الى السنة وهكذا بيان الأوقات الخمسة التي جات الاشارة اليها اجماليا في قوله:﴿اقم الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل وقرآن الفجر﴾ ﴿الاسراء/ 78﴾.
7- البقرة / 275.
8- البقرة / 228.
9- النساء/ 93.
10- راجع: مجمع البيان للطبرسي، ج3، ص 92 93 والعياشي، ج1، ص 267.
11- الانعام / 82.
12- مجمع البيان، ج4، ص 327.
13- الاية رقم 38 من سورة المائدة.
14- النساء/ 12.
15- المقصود بالشرع: مطلق الشرائع الالهية وليس شرع الاسلام فحسب نعم لم تكن هذه المفاهيم مما وضعه العرف العام ولا اللغة، وانما هو امر جا به الشرع في مصطلحه الخاص.
16- تفسير العياشي، ج1، ص 12، رقم9 والاتقان، ج2، ﴿ط1﴾، ص 20.
17- البقرة / 240.
18- النساء/ 12.
19- البقرة / 234.
20- راجع: بحار الانوار، ج93، ص 6 والصافي، ج1، ص 204.
21- العياشي، ج1، ص 227-228.