هل تنأول النبى (ع) القرآن كله بالبيان؟

عقد الاستاذ الذهبي بابا ذكر فيه الجدل بين فريقين، يرى احدهما: ان النبى (ع)قد بين لاصحابه معاني القرآن كله افرادا وتركيبا ويتراس هذا الفريق احمد بن تيمية، كان يرى ان النبى (ع) بين جميع معاني القرآن كمابين الفاظه، لقوله تعالى: ﴿لتبين للناس ما نزل اليهم﴾ (1) فانه يشمل الالفاظ والمعاني جميعا(2).

والفريق الثاني - ويتراسهم الخويي والسيوطي: يرون انه لم يبين سوى البعض القليل، وسكت عن البعض الاخر، ثم فرض لهم دلائل، اهمها ما اخرجه البزاز عن عائشة، قالت: ما كان رسول اللّه (ع) يفسر شيئا من القرآن الا آيا بعدد، علمه اياهن جبريل (3).

واسهب في النقض والابرام، واخيرا نسب كلا من الفريقين إلى المغالاة، واختار هو وسطا بين الرايين - فيما حسب - وان النبى (ع) بين الكثير دون الجميع، وترك ما استاثر اللّه بعلمه، ومايعلمه العلما، وتعرفه العرب بلغاتها، مما لا يعذر احد في جهالته قال: وبديهي ان النبى (ع)لم يفسر ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب، كما لم يفسر ما استاثر اللّه بعلمه، كقيام الساعة وحقيقة الروح، مما يجري مجرى علم الغيوب التي لم يطلع اللّه عليها نبيه (4).

قلت: لم اجد، كما لا اظن احدا ذهب إلى ان النبى (ع) لم يبين من معاني القرآن سوى البعض القليل وسكت عن الباقي ﴿الكثير طبعا﴾، بعد الذي قدمنا، وبعد ذلك الخضم من تفاصيل الاحكام والتكاليف التي جات في الشريعة، وكانت تفسيرا وبيانا لما ابهم في القرآن من تشريعات جات مجملة وبصورة كلية، فضلا عما بينه الرسول وفضلا صحابته والعلما من اهل بيته، شرحا لمعضلات القرآن وحلا لمشكلاته.

اما الذي نسبه إلى شمس الدين الخويي (5) وجلال الدين السيوطي، من ذهابهما إلى ذلك، فان كلامهما ناظرالى جانب الماثور من تفاسير الرسول، المنقول بالنص فانه قليل (6)، لواغفلنا ما رويناه بالاسناد اليه (ع) عن طرق اهل البيت الائمة من عترته الطاهرة - صلوات اللّه عليهم - كما اغفله القوم، والا فالواقع كثير وشامل، ولا سيما إذا ضممنا تفاصيل الشريعة ﴿السنة الشريفة﴾ إلى ذلك المنقول من التفسير الصريح.

وقد جعل السيوطي جل تفاصيل الشريعة الواردة في السنة تفسيرا حافلا بمعاني القرآن ومقاصده الكريمة ونقل عن الإمام الشافعي: ان كل ما حكم به رسول اللّه (ع) فهو مما فهمه من القرآن وبينه، وقال (ع): الا اني أوتيت القرآن ومثله معه، يعني السنة واخيرا نقل كلام ابن تيمية الانف، وعقبه بالتاييد، بما اخرجه احمد وابن ماجة عن عمر، انه قال: من آخر ما نزل آية الربا، وان رسول اللّه (ع) قبض قبل ان يفسرها قال السيوطي: دل فحوى الكلام على انه (ع) كان يفسر لهم كل ما انزل، وانه انما لم يفسر هذه الاية، لسرعة موته بعد نزولها، والا لم يكن للتخصيص بها وجه (7).

واما حديث عائشة - لوصح السند، ولم يصح كما قالوا - (8) فهو ناظر إلى جانب رعاية الترتيب في تفسيرالاي، اعدادا فاعدادا، أوحسب عدد الاي التي كان ينزل بها جبرائيل وهذا يشير إلى نفس المعنى الذي رويناه عن ابن مسعود وتلميذه السلمي، وقد نقله ابن تيمية نقلا بالمعنى قال السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئونناالقرآن، انهم كانوا إذا تعلموا من النبى (ع) عشر آيات، لم يجأوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا (9).

قال الخطيب: هذا اقدم نص تاريخي عرفنا به الطريقة التي كان يتعلم بها المسلمون الأولون، كانوا لا يعنون بالاكثار من العلم الا بعد اتقان ما يتعلمونه منه، وبعد العمل به (10).

واما الوسط الذي اختاره، وان الذي لم يبينه النبى (ع) من القرآن: هو ما استاثر اللّه بعلمه، كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وما يجري مجرى ذلك من الغيوب التي لم يطلع اللّه عليها نبيه (11) فشي غريب الكف عن جعله في متنأول الناس عامة وقد تعرض المفسرون لتفسير آي القرآن جميعا حتى الحروف المقطعة، فكيف يا ترى خفى عليهم ان لايتعرضوا لما لا يريد اللّه بيانه للناس؟ اذن فالصحيح من الراي هو : انه (ع) قد بين لامته - ولاصحابه بالخصوص - جميع معاني القرآن الكريم، وشرح لهم جل مراميه ومقاصده الكريمة، اما بيانا بالنص، أوببيان تفاصيل اصول الشريعة وفروعها، ولا سيماإذا ضممنا اليه ما ورد عن الائمة من عترته، في بيان تفاصيل الشريعة ومعاني القرآن، والحمد للّه.


1- النحل / 44.

2- راجع: مقدمته في اصول التفسير، ص 5 6.

3- تفسير ابن كثير، ج1، ص 6 وتفسير الطبري، ج1، ص 29.

4- التفسير والمفسرون، ج1، ص 53 54.

5- هو ابوالعباس احمد بن خليل المهلبي الخويي ﴿583 637﴾ صاحب الامام الرازي والمتمم لتفسيره ولد في خوي من اعمال آذربيجان، وتعلم بها وبخراسان، ثم ولى قضادمشق وتوفي بها.

6- قال الخويي: واما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم الا بان يسمع من الرسول (ع)وذلك متعذر الا في آيات قلائل ﴿الاتقان، ج4، ص 171﴾. وقال السيوطي عند بيان مخذ التفسير : الذي صح من ذلك ﴿المنقول عن النبى﴾ قليل جدا ﴿الاتقان، ج4، ص 181﴾.

7- الاتقان، ج4، ص 174 و175 و258.

8- ذكروا انه حديث منكر غريب، والاستدلال به باطل ﴿التفسير والمفسرون، ج1، ص 55﴾.

9- راجع: رسالة الاكليل، المطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائل ابن تيمية، ص 32.

10- هامش مقدمة ابن تيمية في اصول التفسير، ص 6.

11- التفسير والمفسرون، ج1، ص 56و57.