دفاع حاسم
ولقد احسن الاستاذ محمد فريد وجدي الدفاع عن ﴿مشروع ترجمة القرآن إلى اللغات الاجنبية﴾ واجاب عن اعتراض الاستاذ ﴿الشاطر﴾ قائلا: نحن نعتقد ان القرآن كتاب لا تنقضي عجائبه ولا يدرك غوره، كما يعتقد الاستاذ ﴿الشاطر﴾ ولكنا لا نذهب بالغلوفي هذا المعنى إلى درجة التعطيل، واعتباره طلسما تضل العقول في فهمه، ولا تصل منه إلى حقيقة ثابتة فان هذا الفهم يصطدم بالقرآن نفسه، فقد وصفه في غير آية بانه آيات بينات، وبانه منزل ليتدبر الناس هذه الايات، حتى قال: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكرفهل من مدكر﴾ (1)، اي سهلناه للاتعاظ وكررت هذه الاية اربع مرات في سورة واحدة الاتعاظ، معمى لا يمكن فكه، وطلسم لا يستطاع حله.
نعم ان المفسرين بعد القرنين الأولين تذرعوا بالفنون الالية التي وضعوها لضبط قواعد اللغة، من: نحووبيان وبديع ومعاني، إلى زيادة التعمق في تمحيص الايات لهذا السبب - واكثر هذا التعدد آلي محض - ولكن المعاني لم تخرج قط عن دائرة الفهم، فلم يدع احد ان القرآن لم يفهم في عصر من العصور، ولا سيما الايات المحكمات وكيف يمكن ان يقال: ان محكمات القرآن لم تفهم على حقيقتها، وقد انبنى عليها الدين كله عقائده وعباداته ومعاملاته؟ فاللجنة التي ستدعي لترجمة القرآن ستنظر في المعاني التي قررها ائمة التفسير، فان آنسوا في بعضها - خلافابينهم - عمدوا إلى اختيار ما رضيه جمهو رهم، مشيرين في الهامش إلى بقية الاحتمالات، فتكون الترجمة قداستوعبت جميع الارا.
هذا في آيات العقائد والعبادات والمعاملات واما الايات الكونية والتاريخية والمتشابهات، فان اللجنة ستترجم معانيها على ما يحتمله اللفظ العربى، ولا تتعرض لشرحها، فمثل قوله تعالى: ﴿واللّه الذي ارسل الرياح فتثير سحابا﴾ مثل هذه الاية تتولاها لجنة التفسير فتعطي معناها الصحيح للجنة الترجمة لتترجمه، دون ان تتعرض - هذه الاخيرة - لما تشير اليه الالفاظ من الدلالات العلمية ولكنها تجتهد في ترجمة كلمة ﴿تثير﴾ مثلا لتكون واجدة لجميع خصائصها اللغوية (2)، تاركة دلالاتها العلمية إلى عقول القارئين، تفاديا من الوقوع في مثل هذا الخطا الكبير الذي وقع فيه الاستاذ ﴿الشاطر﴾ في هذا الموطن نفسه (3)، وحفظا للقرآن الكريم مما عسى ان يرجع عنه العلم من مقرراته الحالية، وهو دائم التغير بطبيعته.
قال: وهنا يسوغ لنا ان نقول: إذا جرينا على مذهب الاستاذ الشاطر في تفسير الايات وترجمتها، ثم رجع العلم عن رايه الأول، انعيد إذ ذاك ترجمة القرآن، ام نترك الترجمة على خطائها ولكن الترجمة على الاسلوب الذي ذكرناه فلا تجعل محلا لمثل هذا الندم، لان الكلمة قد تبدلت إلى ما يرادفها في الافادة، من دون التعرض للشرح والبيان، تاركين ذلك إلى فهم القرآ، كما هو الحال بالنسبة إلى الكلمة في موضعها من القرآن (4).
واما الايات التي استشهد بها، فاظنه مشتبها فيها، فضلا عن ان الاختلاف في الترجمة لا يزيد خطرا عن الاختلاف في التفسير الذي لا محيص عنه البتة.
وقد تعرض الاستاذ وجدي لبيان الايات على وجه يخالف راي الاستاذ الشاطر، نذكرها على الترتيب:
اما الاية الأولى التي قال فيها: لكن العلم الحديث كشف لنا ان كل ثمرة فيها ذكر وانثى.
فقال الاستاذ وجدي: هذا خطا، إذ الثمار ليس فيها ذكر ولا انثى على الاطلاق، نعم ان الذكورة والانوثة من اعضا الازهار لا الاثمار فقد يكون هناك عضوان ذكر وانثى في زهرة واحدة، وقديكونان في زهرتين من نفس الشجرة، أوفي زهو ر شجرتين مستقلتين وهذا اللقاح النباتي كان معروفا منذاقدم العصور، حتى ان عرب الجاهلية كانوا يعرفونه، فكانوا يلقحون اناث النخيل بالطلع المستخرج من ذكورها.
اذن فلم يكن هذا المعنى خافيا على المفسرين القدامى، ومن ثم اخذوا الاية حسب مفهو مها الظاهر اللغوي، وهو الصحيح، بعد ملاحظة آية اخرى جا فيها وصف الجنتين اللتين وعد اللّه بهما المتقين، قال تعالى: ﴿فيهمامن كل فاكهة زوجان﴾ (5) ولا يمكن صرف هذه الاية بحال من الاحوال إلى المعنى الذي اراده الاستاذ﴿الشاطر﴾.
والاية الثانية، التي جعل لفظة ﴿تثير﴾ فيها اشارة إلى ﴿عملية التبخير﴾ بفعل الحرارة والرياح، فالمعروف في علم الطبيعة ان عملية التبخير - في المياه والرطوبات - انما تقوم على فعل الحرارة المركزية للارض، والحرارة الجوية للشمس، اما الرياح فلا دور لها في ذلك، ولم يقل به احد من العلما.
وقد كان العلما منذ خمسمائة عام قبل ميلاد المسيح (ع) يعرفون تكون الابخرة الارضية، التي هي المؤلفة للسحب وهذه كتب الطبيعيات القديمة شاهدة بذلك، وليس امرا اكتشفه العلم حديثا.
والاية الثالثة - التي زعم ﴿الأوتاد﴾ فيها هي الاهرام - فلا يمكن المصادقة عليه، بعد ان كان السبب فى اطلاق ﴿الوتد﴾ على الجبل باعتبار تاثيره في ضبط الارض عن الميدان وعن التفتت والاندثار، الأمر الذي يرجع إلى ضخامته وصلابته، مما لا تناسب بينه وبين اكبر هرم من اهرام مصر، الذي يبلغ ارتفاعه مائة وخمسين مترا، وطول قاعدته عن ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين مترا فاين ذلك من جبل ﴿هماليا﴾ الذي يزيد ارتفاعه عن ثمانية آلاف متر وثمانمائة متر، ويشغل شمالي الهند كله أوجبال انده في امريكا الجنوبية التي يبلغ طول قاعتها نحوسبعة آلاف كيلومترا، وارتفاعها بضعة آلاف متر لا جرم كان اطول الاهرام لا يسأوي اصغر تلال الارض، فلا يتناسب والاطلاق وتد الارض عليه، إذ لا مناسبة حينذاك على ان ﴿الاهرام﴾ هي قبور فراعنة مصر ممن سبقوا فرعون موسى نحوثلاثة آلاف عام، ولم يكن هذا الاخير ممن شيدها، فكيف يصح نسبتها اليه؟ والاية الرابعة، وكذا الخامسة، فان الذي ذكره احتمال، لا نستبعد امكان الدلالة عليه اجمالا، لكن ليس من الحتم، فهو احتمال كسائر الاحتمالات التي تحتملها جل آيات الذكر الحكيم، كما قال علي (ع): ﴿القرآن حمال ذووجوه﴾، لكن لا يرتبط الأمر وقضية امكان الترجمة بشكل يبقى احتمالات اللفظ على حالها في الترجمة، كما هي في الاصل.
وعلى اية حال فليست الترجمة بذاتها مما يتنافى واحتمالات لفظ القرآن، ان كانت الترجمة - كما ذكره الاستاذ وجدي (6) - قائمة على اصولها حسبما عرفت.
1- القمر/ 17، 22، 32، 40.
2- وقد جات ترجمة كلمة ﴿﴿تثير﴾﴾ في التراجم الفارسية ب﴿﴿بر مى انگيزد﴾﴾، لان معنى ﴿﴿الاثارة﴾﴾ بالفارسية ﴿﴿برانگيختن﴾﴾ وهي تنطبق مع الكلمة في العربية تماما.
3- سنذكر مواضع اشتباهه.
4- راجع: الادلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن، بقلم الاستاذ وجدي، ص 28-30،﴿ملحق العدد الثاني من مجلة الازهر، ع1 / 1355﴾.
5- الرحمان / 52.
6- راجع: الادلة العلمية، ص 31-35.