المنع من الترجمة واخطارها
لم تسبق من علما الاسلام نظرة منع من ترجمة القرآن، بعد ان كانت ضرورة دعائية، لمسها دعاة الاسلام من أول يومه وانما حدث القول بعدم الجواز في عصر متاخر ﴿في القرن الماضي، في تركياالعثمانية، وفي مقاطعاتها العربية، مثل سوريا ومصر﴾ ولعلها فكرة استعمارية تبشيرية، محأولة لشد حصار قلعة الاسلام، دون نشره وبث تعاليم الاسلام، في المناطق غير العربية.
قال الدكتور علي شواخ: فلوتدبرنا وتعمقنا لوجدنا ان القول بالمنع عاصر فتوى النصارى الغربيين واستعمارهم لبلاد الاسلام، فقد حأولوا تنصير المسلمين بكل وسيلة، ولم يكتفوا بارسال المبشرين في شتى الملابس، بل منعوا ايضا تدريس اللغة العربية حتى في المستعمرات العربية مثل شمال افريقية والظاهر انهم ارادوا اتمام حصار قلعة الاسلام بمنع تراجم القرآن بلغات اجنبية، فالمسلمون غير العرب لا يعرفون العربية، ولن يجدوا تراجم القرآن بلغات يعرفونها، فتبقى الساحة فارغة للديانات الاخرى قال احد المبشرين ﴿وبتعبيراصح: احد المنصرين﴾ لبعض علما الاسلام الساذجين: ﴿القرآن معجزة حقا، لا تتحمل بلاغته الترجمة لشدة السرور - وقال: ﴿الفضل ما شهدت به الاعدا أوتستحيل ترجمته﴾، وتبعه آخرون، وفي الخطوة الثانية قالوا: ﴿القرآن لا تجوز ترجمته﴾.
ولكن الانسان يدبر، واللّه يقدر فالنصارى الذين دسوا هذه الفكرة، ظنوا ان العرب سوف لايقومون بترجمة القرآن، ولقد صدق ظنهم بشان العرب اما سائر المسلمين من غير العرب، فان التاريخ يشهد بانهم اهتموا بهذاالأمر، فقاموا بالترجمة إلى لغاتهم على يد علما كانوا عارفين بالعربية، فترجموه إلى لغاتهم لتدريس ابنائهم وعامة اهل بلادهم الذين لم يدرسوا العربية (1).
قال الدكتور شواخ: وهكذا يتضح لنا، ان الحركة ضد ترجمة القرآن إلى سائر اللغات، انحصرت في بلاد العرب، وبالدولة العثمانية خاصة (2).
وعلى هذا الغرار ساق الاستاذ الشاطر - راس المعارضين - ادلة في المنع عن الترجمة، وذكر اخطارا سوف تتجه نحوحامية الاسلام الحصينة ﴿القرآن الكريم﴾ ان اصبح عرضة للترجمة إلى لغات اجنبية، نذكر اهمها:
1- يقول: ان الترجمة تضيع بالقرآن، كما ضاعت التوراة والانجيل من جرا ترجمتهما إلى غير لغتهما الاصل، فقد ضاع الاصل بضياع لغته وضياع الناطقين بها فيخشى ان يحل بالقرآن - لا سمح اللّه - لوترجم إلى غيرلغته، ما حل باخويه من ذي قبل (3).
قلت: هذا قياس مع الفارق، إذ السبب في ضياع التوراة وكذا الانجيل، انما يعود إلى اخفا الاصل عن العامة وابدا تراجمهما المحرفة للناس، لغرض التمويه عليهم كان الاحبار والقسأوسة يدابون في تحريف تعاليم العهدين تحريفا في معاني الكلم دون نص اللفظ، إذ لم يكن ذلك بمقدورهم، فعمدوا إلى تفسيرهما على غيروجهه، وابدا ذلك إلى الملا باسم التعاليم الالهية الاصيلة.
قال تعالى - بشان التوراة: ﴿الكتاب الذي جا به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا﴾ (4)، اي تبدون منه مواضع وتخفون اكثره.
وقد اسبقنا - في مسالة تحريف الكتاب - ان التحريف في العهدين انما يعني التحريف في معناهما، اي التفسيرعلى غير وجهه، الأمر الذي حصل في تراجم العهدين دون نصهما.
قال تعالى: ﴿قل يا اهل الكتاب لستم على شي حتى تقيموا التوراة والانجيل وماانزل اليكم من ربكم﴾ (5) وقال: ﴿قل فاتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين﴾ (6).
فالكارثة كل الكارثة انما هي في اخفا نص العهدين الاصليين عن اعين الناس، وهذا هو السبب الوحيدلضياعهما، دون مجرد ترجمتهما.
اما القرآن فهو الكتاب الذي يتعاهده المسلمون جيلا بعد جيل، بل العالم كله من مسلم معتقد وآخر محقق مضطلع، يحرسون على نص القرآن العزيز، وقد قال تعالى: ﴿انا نحن نزلناالذكر وانا له لحافظون﴾ (7)، اي في صدور الرجال وعلى ايدي الناس، الأوليا والاعدا جميعا، معجزة قرآنية خالدة.
2- يقع - بطبيعة الحال - اختلاف بين التراجم، لاختلاف السلائق بل العقائد التي يذهب اليها كل مذهب من المذاهب، وكذا اختلاف المواهب والاستعدادات في فهم معاني القرآن وترجمتها وفق الافهام والاراالمتضاربة، ولهذا الاختلاف في تراجم القرآن آثار سيئة، إذ يستتبعها اختلاف الاستفادة واستنباط الاحكام والاداب الشرعية، وكل قوم من الاقوام انما يرتاي حسب ما فهم من الترجمة التي اتيحت له، وربما لا يدري مدى اختلافها مع سائر التراجم (8).
لكن هذا خروج عن مفروض الكلام، فان للترجمة ضوابط يجب مراعاتها، ولا سيماترجمة القرآن الكريم، يجب ان تكون تحت اشراف لجنة رسمية، ومن هياة علما وادبا اختصاصيين برعاية حكومة اسلامية قاهرة، لا تدع مجالا لتنأوش ايدي الاجانب فيجعلوا القرآن عضين، كما هو الشان في رسم خط المصحف الشريف، وطباعته على اصول مقررة، تحفظه عن الاختلاف والاضطراب.
نعم يجب ان يعلم كل الامم الإسلامية، ان الترجمة لا تضمن واقع القرآن، وان المصدر للاستنباط واستخراج الاحكام والسنن للمجتهدين هو نص القرآن الاصل، ليس ما سواه هذا امر يجب الاعلان به، فلا يذهب وهم الواهمين إلى حيث لا ينبغي.
نعم، على كل محقق اسلامي ان يتعلم القرآن بلغته العربية الفصحى، وليست الترجمة بذاتها لتفي بمقصوده أوتشبع نهمه.
3- ان للقرآن في كثير من آياته حقائق غامضة، قد تخفى على كثير من العلما، وقد يعلمها غيرهم ممن جابعدهم، ولذلك امثلة كثيرة فلوترجمنا القرآن وفق معلومنا اليوم، ثم جا الغد ليرتفع مستوى العلوم وينكشف من حقائق القرآن ما كان خافيا علينا، فهل نخطئ انفسنا بالعلانية ونغير الترجمة ونعلن للملا، ان الذي ترجمناه امس اصبح خطا، وان الصحيح غيره.
فمإذا يقول لنا الناس؟ وما الذي يضمن بقا ثقتهم اليوم كثقتهم بالامس؟ ثم ضرب لذلك امثلة:
1- منها: قوله تعالى: ﴿ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين﴾ (9) فسر القدامى ﴿الزوجين﴾بالصنفين ثم جا العلم الحديث ليكشف النقاب عن المعنى الصحيح، وهو ان كل ثمرة فيها ذكر وانثى (10).
قال: فلوحصلت الترجمة وفق التفسير الأول لاضاعت على قارئيها تلك الحقيقة التي اظهرها العلم الحديث 2- ومنها: قوله تعالى: ﴿واللّه الذي ارسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت﴾ (11) فقدفسر ﴿تثير﴾ بمعنى ﴿تسوق﴾، وبذلك قد ضاع المعنى البديع الذي اصبح معجزة للقرآن وهو ان لفظ ﴿تثير﴾ من الاثارة وهو التهييج، نظير تهييج الغبار والدخان، وهذا مبدا ﴿عملية التبخير﴾ وتكوين الامطار فان التبخيريحصل من الحرارة المركزية والحرارة الجوية والريح، اي لا بد من هذه العوامل الثلاثة لتكوين ﴿عملية التبخير﴾، ثم بعد ذلك تحمل الرياح هذا البخار إلى حيث شا اللّه، وهذا المعنى لم يظهر الا حديثا.
3- ومنها: قوله تعالى: ﴿وفرعون ذي الا وتاد﴾ (12) فسروا ﴿الأوتاد﴾ بكثرة الجنود، أوانها كانت مساميراربعة كان يعذب الناس بها وقد تبين الان ان المراد هي هذه الاهرام وهي تشبه الجبال، وقد عبر القرآن عن الجبال بالأوتاد في قوله تعالى: ﴿الم نجعل الا رض مهادا والجبال أوتادا﴾ (13).
4- ومنها: قوله تعالى: ﴿والا رض بعد ذلك دحاها﴾ (14) فسر ﴿الدحو﴾ بعض المفسرين بالبسط فلوترجم إلى هذا المعنى ضاع المعنى الذي يؤخذ من ﴿الدحو﴾، وهو التكوير غير التام، كتكوير البيضة مع الدوران ولا يزال اهل الصعيد - واصل اكثرهم عرب - يعبرون عن ﴿البيض﴾ بالدحوأوالدحى أوالدح (15).
5- وكذلك إذا ترجم قوله تعالى: ﴿يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل﴾ بمايقوله بعض المفسرين (16)، ذهب المعنى المستفاد من الاية، وهو كروية الارض، لان تكوير الضؤ أوتقوسه يستلزم تكوير المضا وتقوسه، لان النور والظلمة انما يتشكلان باشكال الجسم الواقعين عليه فلوترجمت الاية بذلك المعنى ﴿التغشية﴾ ثم دلتنا الادلة على صحة المعنى الثاني، لكنا قد خسرنا معجزة من معجزات القرآن.
قال الاستاذ الشاطر: اني لاخشى ان ينطبق علينا الحديث الشريف: ﴿لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعابذراع، حتى لودخلوا جحر ضب خرب لاتبعتموهم.
قيل: يا رسول اللّه (ع) اليهو د والنصارى؟ قال: فمن؟ (17).
1- وسيوافيك في نهاية المقال جدول عن مائة وثماني عشرة لغة حية ترجم القرآن اليها،على يد ابنائها الغيارى على الاسلام، ولا تزال تتزايد مع اتساع رقعة الزمان.
2- معجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور علي شواخ اسحاق، ج2، ص 13.
3- القول السديد، ص 15-16.
4- الانعام / 91.
5- المائدة / 68.
6- آل عمران / 93.
7- الحجر/ 9.
8- محمد مصطفى الشاطر في ﴿﴿القول السديد في حكم ترجمة القرآن المجيد﴾﴾، ص 17-18.
9- الرعد/ 3.
10- وللايات التي يذكرها معاني اخر أوفى سوف نتعرض لها، ولقد اشتبه على الاستاذ الشاطر مواضع كثيرة من هذه الايات، فتنبه.
11- فاطر/ 9.
12- الفجر/ 10.
13- النباء/ 7.
14- النازعات / 30.
15- الزمر/ 5.
16- فسروا ﴿﴿التكوير﴾﴾ بمعنى التغشية.
17- اخرجه مسلم، ج8، ص 57 راجع القول السديد، ص 21-26.