نسبة خاطئة

نعم نسب إلى جماعة الاخباريين - في عصر متاخر - ذهابهم إلى رفض حجية الكتاب، فلا يصح الاستناد اليه ولا استنباط الاحكام منه، وهي نسبة غير صحيحة على اطلاقها، إذ لم يذهب إلى هذا المذهب الغريب احد من الفقها، لا في القديم ولا في الحديث، ولا لمسنا في شي من استناداتهم الفقهية ما يشي بذلك، بل الأمربالعكس.

ولعل فيما فرط من بعض المتطرفين منهم بصدد المغالاة بشان اهل البيت - وموضعهم القريب من القرآن المجيد - بعض تعابير أوجبت هذا الوهم، ومع ذلك فان له تأويلا، وليس على ظاهره المريب.

قال المولى محمد امين الاسترابادي ﴿ت 1033﴾:

﴿الصواب عندي مذهب قدمائنا الاخباريين وطريقتهم اما مذهبهم فهو ان كل ما يحتاج اليه الامة إلى يوم القيامة، عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى ارش الخدش وان كثيرا مما جا به النبى (ع)من الاحكام، وممايتعلق بكتاب اللّه وسنة نبيه، من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل، مخزون عند العترة الطاهرة، وان القرآن في الاكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى اذهان الرعية (1)، وكذلك كثير من السنن النبوية وانه لا سبيل لنافي ما لا نعلمه من الاحكام النظرية (2) الشرعية، اصلية كانت أوفرعية، الا السماع من الصادقين (ع) وانه لا يجوز استنباط الاحكام النظرية من ظواهر الكتاب ولا ظواهر السنن النبوية، ما لم يعلم احوالهما من جهة اهل الذكر(ع)، بل يجب التوقف والاحتياط فيهما﴾ (3).

وقال بصدد بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين من المسائل الشرعية، اصلية كانت أوفرعية، في السماع عن الصادقين (ع):

﴿الدليل الثاني: حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين، إذ معناه: انه يجب التمسك بكلامهم (ع) ليتحقق التمسك بالأمرين والسر فيه انه لا سبيل إلى فهم مراد اللّه (4) الا من جهتهم، لانهم عارفون بناسخه ومنسوخه، والباقي على اطلاقه، والمؤول وغير ذلك، دون غيرهم، خصهم اللّه والنبي بذلك﴾ (5).

قلت: ليس في كلامه - ولا في كلام من تبعه من الاخباريين المتاخرين - ما يشي بترك كتاب اللّه وابعاده عن مجال الفقه والاستنباط نعم سوى عدم افراده في الاستناد، ولزوم مقارنته بالماثور من صحاح الاحاديث الصادرة عن ائمة اهل البيت (ع).

ولا شك ان في القرآن اصول التشريع وكلياته، وايكال التفاصيل إلى بيان النبى (ع) الذي أودع الكثير من بيانه بشان التشريع إلى خلفائه المرضيين، فعندهم ودائع النبوة، وهم ورثة الكتاب وحملته إلى الخلائق.

فلا يجوز افراد الكتاب عن العترة، ولايفترقان حتى يردا على النبى (ع)عندالحوض.

وهذا هو مراد الاسترابادي ﴿لا يجوز استنباط الاحكام من الكتاب والسنة النبوية ما لم يعلم احوالهما من جهة اهل الذكر﴾، اي بعد الفحص عن الدلائل في كلامهم بشانهما، اما العثور على بيان منهم، أوالياس من التخصيص أوالتقييد، فعند ذلك يجوز.

وللمولى الكبير محمد بن الحسن الحر العاملي ﴿1033 - 1104﴾ بيان مسهب بشان مواضع آل البيت من القرآن الكريم، وان لتفسيرهم بالذات مدخلية تامة في فهم معاني الايات، ولا سيما آيات الاحكام.

وقد توسع في الكلام حول ذلك في فوائده الطوسية ﴿فائدة48﴾، كما عقد لذلك ابوابا في كتاب القضا من كتابه وسائل الشيعة، ذكر فيها ما يقرب من مئتين وعشرين حديثا، قال بشانها:

﴿أوردنا منها ما تجأوز حد التواتر، وهي لا تقصر سندا ولا دلالة عن النصوص على كل واحد من الائمة، وقدتضمنت انه لا يعلم المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك الا الائمة، وانه يجب الرجوع اليهم في ذلك، وانه لا يعلم تفسيره ولا تأويله، ولا ظاهره ولا باطنه غيرهم، ولا يعلم القرآن كما انزل غيرهم، وان الناس غير مشتركين فيه كاشتراكهم في غيره، وان اللّه انما اراد بتعميته ﴿اي الاجمال والابهام في لفظه﴾ ان يرجع الناس في تفسيره إلى الإمام، وانه كتاب اللّه الصامت، والإمام كتاب اللّه الناطق ولايكون حجة الا بقيم ﴿اي من يقوم بتبيينه وتفسيره﴾ وهو الإمام، وانه ما ورث علمه الا الائمة، ولا يعرف الفاظه ومعانيه غيرهم، وانه لاحتماله للوجوه الكثيرة، يحتج به كل محق ومبطل، وانه انما يعرف القرآن من خوطب به﴾ (6).

وظاهر كلامه هو ظاهر عنوان الباب الذي عقده أبوجعفر محمد بن يعقوب الكليني، في كتاب الحجة من الكافي الشريف، لبيان: ﴿انه لم يجمع القرآن كله ولم يحط به علما، ظاهره وباطنه، سوى الائمة من اهل البيت (ع)، وان علم المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص علما كاملا، مودع عندهم، ورثوه من جدهم الرسول (ع)(7).

وهذا شي لا ينكر، ولا يجوز الاخذ بظاهر الكتاب، ما لم يرجع إلى ما ورد عن الرسول وخلفائه العلما، فان في كلامهم التبيين والتفصيل لما جا في القرآن من الاجمال والابهام، في التكليف والتشريع.

وهكذا فهم معاصره السيد نعمة اللّه الجزائري ﴿1050 - 1112﴾ من ظاهر الروايات، وبذلك جمع بين متعارضاتها.

قال: ﴿ذهب المجتهدون - رضوان اللّه عليهم - إلى جواز اخذ الاحكام من القرآن، وبالفعل قد اخذوا الاحكام منه، وطرحوا ما ظاهره المنافاة أوأولوه، ومن ثم دونوا كتبا بشان ﴿آيات الاحكام﴾ واستنبطوا منها ما هداهم اليه امارات الاستنباط.

واما الاخباريون - قدس اللّه ضرائحهم - فذهبوا إلى ان القرآن كله متشابه بالنسبة الينا، وانه لايجوز لنا اخذحكم منه، الا من دلالة الاخبار على بيانه.

قال: حتى اني كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز، وكان استاذي المجتهد الشيخ جعفر البحراني، وشيخي المحدث صاحب جوامع الكلم - قدس اللّه روحيهما - يتناظران في هذه المسالة فانجر الكلام بينهماحتى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى ﴿قل هو اللّه احد﴾ فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟فقال: نعم، لا نعرف معنى ﴿الاحدية﴾ ولا الفرق بين الاحد والواحد ونحوذلك.

ثم عقبه بكلام الشيخ في التبيان - على ما سنذكر - واردفه بتحقيق عن المولى كمال الدين ميثم البحراني، بشان حديث التفسير بالراي واخيرا قال: وكلام الشيخ اقرب من هذا، بالنظر إلى تتبع الاخبار، والجمع بين متعارضات الاحاديث وحاصل هذه المقالة: ان اخذ الاحكام من نص القرآن أوظاهره أوفحواه ونحوذلك، جائز كما فعله المجتهدون.

قال: يرشد إلى ذلك ما رواه امين الاسلام الطبرسي - في كتاب الاحتجاج - من جملة حديث طويل عن الإمام امير المؤمنين (ع) قال فيه:

﴿ان اللّه قسم كلامه ثلاثة اقسام: فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل، وقسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه وشرح صدره للاسلام، وقسما لا يعرفه الا اللّه وامناؤه والراسخون في العلم﴾ (8).

واصرح من الجميع كلام الفقيه البارع الشيخ يوسف البحراني ﴿1107 - 1186﴾ في موسوعته الفقهية الكبرى ﴿الحدائق الناضرة﴾ ذكر أولا الاخبار من الطرفين، ثم عقبها بما حققه شيخ الطائفة أبوجعفر الطوسي ﴿385 --460﴾ في المقام، وجعله ﴿القول الفصل والمذهب الجزل﴾ الذي تلقاه العلما بالقبول، قال: قال الشيخ أبوجعفرالطوسي - بعد نقل الروايات المتعارضة والدلائل المتناقضة - ما ملخصه: ﴿ان معاني القرآن على اربعة اقسام:

احدها: ما اختص اللّه تعالى بعلمه فلا يجوز لاحد التكلف فيه ولعل منه الحروف المقطعة في أوائل السور.

ثانيها: ما يكون ظاهره متطابقا مع معناه، معروفا من اللغة والعرف، لا غبار عليه فهذا حجة على الجميع، لايعذر احد الجهل به، مثل قوله تعالى: ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه﴾ (9).

ثالثها: ما اجمل في تعبيره وأوكل التفصيل فيه إلى بيان الرسول، كالأوامر بالصلاة والزكاة والحج والصيام، فتكلف القول فيه - من دون مراجعة دلائل الشرع - محظور منه.

رابعها: ما جا مشتركا محتملا لوجوه فلايجوز البت في تبيين مراده تعالى بالذات، الا بدليل قاطع من نص معصوم أوحديث متواتر﴾ (10).

وبذلك قد جمع الشيخ بين روايات المنع ودلائل الترخيص، باختلاف الموارد.

قال المحدث البحراني - تعقيبا على كلام الشيخ: ﴿وعليه تجتمع الاخبار على وجه واضح المنار﴾ (11).

قلت: فهذا شيخ المحدثين ورائد الاخباريين في العصور المتاخرة نراه قد وافق القول مع شيخ الطائفة وراس الاصوليين بشان التفسير، والخوض في فهم معاني كلام اللّه العزيز الحميد.

فيا ترى، ما الذي يدعوإلى فرض الافتراق في هذا المجال العصيب والحمد للّه على ما انعم علينا من لمس نعومة الوفاق وذوق حلأوة الاتفاق.


1- مقصوده من الاحكام النظرية، المسائل غير الضرورية التي هي بحاجة الى اجتهاد واعمال نظر.

2- الفوائد المدنية، ص 47.

3- اي المراد الجدي الذي لا يعرف الا بعد الفحص والياس عن الصوارف من تخصيص أوتقييد أوقرينة مجاز، دون المراد الاستعمالي المفهو م من ظاهر اللفظ لمجرد العلم بالوضع ومن الواضح ان التسرع في الاخذ بظاهر الاستعمال، في نصوص الشريعة، غير جائز، الا بعدالتريث والفحص التام.

4- الفوائد المدنية، ص 128.

5- الفوائد الطوسية، ص 191 192 وراجع: صفحات: 163 196 والوسائل، ج18، باب 4و5 و6 و7 من كتاب القضا ابواب صفات القاضي صفحات: 9 41﴿ط اسلاميه﴾.

6- الكافي الشريف ﴿الاصول﴾، ج1، ص 228.

7- رسالة ﴿منبع الحياة﴾، ص 48 52 م5.

8- ...

9- الانعام / 151.

10- الحدائق الناضرة، ج1، ص 32 وراجع: التبيان، ج1، ص 5 6 ورسالة ﴿منبع الحياة﴾للسيد نعمة اللّه الجزائري، ص 48 51 ﴿ط بيروت﴾.

11- الحدائق الناضرة، ج1، ص 32.