حجية ظواهر الكتاب

قد يزعم البعض ان هناك من يرى عدم جواز الاخذ بظواهر كلام اللّه تعالى، حيث ظاهره انيق وباطنه عميق، لايسبر غوره ولا يبلغ اقصاه، ولا سيما بعد كثرة الصوارف عن هذه الظواهر، من تخصيص وتقييد ونسخ وتأويل.

غيران هذا يتنافى والأمر بالتدبر في آياته، والحث على التعمق فيها واستخراج للئها.

﴿افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها﴾ (1).

﴿فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون﴾ (2).

﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (3).

﴿انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ (4).

﴿قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون﴾ (5).

﴿كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الا لباب﴾ (6).

وقد رغب النبى (ع) في الرجوع إلى القرآن عند مدلهمات الامور وعرض مشتبهات الاحاديث عليه، وهكذاندب الائمة من اهل البيت (ع) إلى فهم الاحكام من نصوص الكتاب، والوقوف على رموزه ودقائقه في التعبيروالبيان.

قال رسول اللّه (ع): ﴿فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فانه شافع مشفع وماحل مصدق (7) ومن جعله امامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خيرسبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل (8) وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم (9)، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم، (10) لاتحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه (11) فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة، لمن عرف الصفة (12) فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره (13)، ينج من عطب، ويتخلص من نشب (14) فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص (15).

وبهذا المعنى قال الإمام أبوعبد اللّه الصادق (ع):﴿ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره، ويفتح للضيا نظره فان التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور﴾ (16).

والتفكر المندوب اليه هنا هو التعمق في دلائل القرآن ودقائق تعبيره، قال تعالى: ﴿وانزلنا اليك الذكرلتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون﴾ (17).

فالتفكر فيه - بعد التبيين والبيان - هو المندوب اليه، وهي الغاية القصوى من نزول القرآن.

قال الإمام الصادق (ع): ﴿لقد تجلى اللّه لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون﴾ (18).

وقال: ﴿انما القرآن امثال لقوم يعلمون دون غيرهم، ولقوم يتلونه حق تلأوته، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه﴾ (19).

قال الإمام امير المؤمنين (ع): ﴿الا لا خير في قراة لا تدبر فيها﴾ (20).

وقال رسول اللّه (ع): ﴿ما انعم اللّه على عبد، بعد الايمان باللّه، افضل من العلم بكتاب اللّه والمعرفة بتأويله﴾ (21).

ولما نزلت الاية ﴿ان في خلق السمأوات والا رض واختلاف الليل والنهار لايات لأولى الا لباب الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السمأوات والا رض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار﴾ (22) قال (ع):﴿ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها﴾ (23).

وبعد، فنقول: ويل لمن نظر في هذه الايات الكريمة والاحاديث الماثورة عن اهل بيت الوحي والرسالة، ولاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها بامعان، فاخذها بالهزل ولم يعتبرها الحكم الفصل.

وايضا، فان اخبار العرض على كتاب اللّه، خير شاهد على امكان فهم معانيه والوقوف على مبانيه.

قال رسول اللّه (ع): ﴿ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فدعوه﴾.

وخطب بمنى، وكان من خطبته: ﴿ايها الناس ما جاكم عني يوافق كتاب اللّه فانا قلته، وما جاكم يخالف كتاب اللّه فلم اقله﴾.

وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): ﴿كل شي مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف﴾.

وقال: ﴿إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه، أومن قول رسول اللّه (ع)، والا فالذي جاكم به أولى به﴾ (24).

وفي كثير من ارجاعات الائمة (ع) اصحابهم إلى القرآن، لفهم المسائل واستنباط الاحكام منه، لدليل ظاهرعلى حجية ظواهر القرآن، وضرورة الرجوع اليه.

قال زرارة بن اعين: قلت لابي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر(ع): الا تخبرني من اين علمت وقلت: ان المسح ببعض الراس وبعض الرجلين؟.

فضحك، وقال: يا زرارة، قاله رسول اللّه (ع) ونزل به الكتاب من اللّه، لان اللّه عز وجل قال: ﴿فاغسلوأوجوهكم﴾ فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال: ﴿وايديكم إلى المرافق﴾ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا إلى المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: ﴿وامسحوابرؤوسكم﴾فعرفنا حين قال: ﴿برؤوسكم﴾ ان المسح ببعض الراس، لمكان ﴿البا﴾ ثم وصل الرجلين بالراس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وارجلكم إلى الكعبين﴾ (25) فعرفنا حين وصلهما بالراس، ان المسح على بعضهما.

ثم قال: ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه﴾ فاثبت بعض الغسل مسحا (26).

فقد نبه الإمام على ان زيادة ﴿البا﴾ في مدخول فعل متعد بنفسه لا بد فيها من نكتة لافتة، وليست سوى ارادة الاكتفا بمجرد مماسة الماسح مع الممسوح، لان البا تدل على الربط والالصاق، والتكليف يتوجه إلى القيدالملحوظ في الكلام فإذا وضع الماسح يده على راسه وامرها عليه، فبأول الأمرار يحصل التكليف فيسقط، ولا دليل على الادامة، فالاستيعاب ليس شرطا في المسح.

هكذا نبه الإمام على امكان استفادة مثل هذا الحكم التكليفي الشرعي من الاية، بامعان النظر في قيود الكلام.

وعن عبد الاعلى مولى آل سام، قال: قلت لابي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق (ع): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على اصبعي مرارة، فكيف اصنع بالوضؤ؟.

قال: يعرف هذا واشباهه من كتاب اللّه عز وجل، قال اللّه تعالى:﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (27) امسح عليه(28).

يعني: ان آية نفي الحرج تدل على رفع التكليف، حيث وجود ضرر أوحرج على المكلف، فيجب ان يفهم ذلك كل مسلم من القرآن ذاته.

وكذلك استدلالات الائمة (ع) في كثير من الموارد، بيات قرآنية، لاثبات مطلوبهم لدى المخاطبين، ففي ذلك عرض مباشر لشمول فهم القرآن للعموم وقد اتى سيدنا الاستاذ الإمام الخوئي -حفظه اللّه- بامثلة على ذلك كثيرة، فليراجع(29).


1- محمد/ 24.

2- الدخان / 58.

3- القمر/ 17.

4- الزخرف / 3.

5- الزمر/ 28.

6- ص / 29.

7- يعني: ان شفع لاحد قبلت شفاعته، وان سعى باحد صدق.

8- اي جا لبيان الحق وفصله عن الباطل، وليس مجرد تفنن في الكلام والادب الرفيع.

9- فان ظواهر القرآن هي بيان الاحكام التكليفية والتشريعات الظاهرة اما باطنه فملؤه علم وحكمة وحقائق راهنة.

10- اي دلائل لائحة، بعضها على بعض شاهدة.

11- لانه اتى بحديث لايبلى على مر الدهو ر.

12- اي دلائله على الهداية واضحة لمن رام الاهتدا به، فمن عرف هذا الوصف للقرآن امكنه الاستفادة منه، قال العلامة المجلسي: صفة التعرف والاستنباط﴿مرآة العقول،ج12،ص 479﴾.

13- اي وليلتفت بنظره الى هذا الوصف للقرآن، وانه هداية عامة لكافة الناس، دلائله واضحة ومعالمه لائحة، لمن استهدى ادلا.

14- النشب: ما لا مخلص منه.

15- الكافي الشريف، ج2 ﴿كتاب فضل القرآن رقم2﴾، ص 598 599 والمراد بحسن التخلص: الصدق في الاخلاص وقلة التربص: كناية عن سرعة الاقدام وان لايكف بنفسه عن السعي في الخير.

16- الكافي الشريف، ج2، ص 600، رقم5.

17- النحل / 44.

18- بحار الانوار، ج92، ص 107.

19- المحاسن البرقي، ص 267.

20- معاني الاخبار للصدوق، ص 67.

21- بحار الانوار، ج92، ص 183.

22- آل عمران / 191 192.

23- مجمع البيان، ج2، ص 554.

24- الاحاديث مستخرجة من الكافي الشريف، باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب، ج1،ص 69، رقم 1 و5 و3 و2.

25- هذا بنا على قراة ﴿﴿وارجلكم﴾﴾ بالخفض، كما هي ايضا قراة مشهو رة، غيران القراة بالنصب من العطف على المحل كما رجحناه فى مجاله المناسب، غير ان خصوصى ة البعضية مفقودة فيها، حسبما نبهنا عليه.

26- من لا يحضره الفقيه ابوجعفر الصدوق، ج1، ص 56 57، باب 21، التيمم، رقم1 /212والكافي الشريف، ج3، ص 30 والوسائل، ج1، ص 291﴿اسلامية﴾.

27- الحج / 78.

28- الوسائل، ج1، ص 327، رقم5.

29- اي على وجه الاجمال والابهام من غير بيان التفصيل وذكر القيود والشرائط، فانهاخافية على اذهان العامة غير المطلعين على الشرح والتبيين الذي جا في كلام الرسول (ع).