خلاصة القول في التفسير بالراي
يتلخص القول في تفسير حديث ﴿من فسر القرآن برايه﴾: ان الشي المذموم أوالممنوع شرعا، الذي استهدفه هذا الحديث، امران:
احدهما: ان يعمد قوم إلى آية قرآنية، فيحأولوا تطبيقها على ما قصدوه من راي أوعقيدة، أومذهب أومسلك، تبريرا لما اختاروه في هذا السبيل، أوتمويها على العامة في تحميل مذاهبهم أوعقائدهم، تعبيرا على البسطا الضعفا.
وهذا قد جعل القرآن وسيلة لانجاح مقصوده بالذات، ولم يهدف تفسير القرآن في شي وهذا هو الذي عنى بقوله (ع): فقد خر بوجهه ابعد من السما، أوفليتبوا مقعده من النار.
وثانيهما: الاستبداد بالراي في تفسير القرآن، محايدا طريقة العقلا في فهم معاني الكلام، ولا سيما كلامه تعالى فان للوصول إلى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقا، منها: مراجعة كلام السلف، والوقوف على الاثار الواردة حول الايات، وملاحظة اسباب النزول، وغير ذلك من شرائ ط يجب توفرها في مفسر القرآن الكريم فاغفال ذلك كله، والاعتماد على الفهم الخاص، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب ومن استبد برايه هلك، ومن قال على اللّه بغير علم فقد ضل سوا السبيل، ومن ثم فانه قد اخطا وان اصاب الواقع - فرضا أوصدفة - لانه اخطا الطريق، وسلك غير مسلكه المستقيم.
قال سيدنا الاستاذ الإمام الخوئي - دام ظله: ان الاخذ بظاهر اللفظ، مستندا إلى قواعد واصول يتدأولها العرف في محأوراتهم، ليس من التفسير بالراي، وانما هو تفسير بحسب ما يفهمه العرف، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة، والى ذلك اشار الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بقوله: ﴿انما هلك الناس في المتشابه، لانهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند انفسهم برائهم، واستغنوابذلك عن مسالة الأوصيا فيعرفونهم﴾.
قال: ويحتمل ان معنى التفسير بالراي، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الائمة (ع) مع انهم قرنا الكتاب في وجوب التمسك، ولزوم الانتها اليهم فإذا عمل الانسان بالعموم أوالاطلاق الوارد في الكتاب، ولم ياخذ التخصيص أوالتقييد الوارد عن الائمة (ع) كان هذا من التفسير بالراي.
وعلى الجملة، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتصلة والمنفصلة، من الكتاب والسنة أوالدليل العقلي، لا يعد من التفسير بالراي، بل ولا من التفسيرنفسه (1).
قلت: وعبارته الاخيرة اشارة إلى ان الاخذ بظاهر اللفظ، مستندا إلى دليل الوضع أوالعموم أوالاطلاق، أوقرائن حالية أومقالية ونحوذلك، لا يكون تفسيرا، إذ لا تعقيدفي اللفظ حتى يكون حله تفسيرا، وانما هو جري على المتعارف المعهو د، في متفاهم الاعراف.
اذ قد عرفت ان التفسير، هو : كشف القناع عن اللفظ المشكل، ولا اشكال حيث وجود اصالة الحقيقة أواصالة الاطلاق أوالعموم، أوغيرها من اصول لفظية معهو دة.
نعم إذا وقع هناك اشكال في اللفظ، بحيث ابهم المعنى ابهاما، وذلك لاسباب وعوامل قد تدعوابهاما أواجمالا في لفظ القرآن، فيخفى المراد خفا في ظاهرالتعبير، فعند ذلك تقع الحاجة إلى التفسير ورفع هذا التعقيد.
والتفسير - في هكذا موارد - لا يمكن بمجرد اللجؤ إلى تلكم الاصول المقررة لكشف مرادات المتكلمين حسب المتعارف، إذ له طرق ووسائل خاصة غير مايتعارفه العقلا في فهم معاني الكلام العادي، على ما ياتي في كلام السيد الطباطبائي.
والتفسير بالراي المذموم عقلا والممنوع شرعا، انما يعني هكذا موارد متشابهة أومتوغلة في الابهام، فلا رابط - ظاهرا - لما ذكره سيدنا الاستاذ، مع موضوع البحث، وعبارته الاخيرة ربما تشي بذلك.
وقال سيدنا العلامة الطباطبائي: ﴿الاضافة - في قوله: برايه - تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال، بان يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الاسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فان قطعة من الكلام من اى متكلم إذا ورد علينا، لم نلبث دون ان نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المرادالكلامي، ونحكم بذلك انه اراد كذا، كما نجري عليه في الاقارير والشهادات وغيرهما كل ذلك لكون بياننامبنيا على ما نعلمه من اللغة، ونعهده من مصاديق الكلمات، حقيقة ومجازا.
والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضها ببعض، في حين انه مفصول، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قاله علي (ع).
فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة، دون ان يتعاهد جميع الايات المناسبة لها، ويجتهد في التدبر فيها.
فالتفسير بالراي المنهى عنه امر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف فالنهي انما هو عن تفهم كلامه تعالى على نحوما يتفهم به كلام غيره، حتى ولوصادف الواقع، إذ على فرض الاصابة يكون الخطا في الطريق.
قال: ويؤيد هذا المعنى، ما كان عليه الأمر في زمن النبى (ع) فان القرآن لم يكن مؤلفا بعد، ولم يكن منه الاسور أوآيات متفرقة في ايدي الناس، فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
قال: والمحصل ان المنهي عنه انما هو الاستقلال في تفسير القرآن، واعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع اليه.
قال: وهذا الغير - لا محالة - اما هو الكتاب أوالسنة وكونه هي السنة، ينافي كون القرآن هو المرجع في تبيان كل شي، وكذا السنة الأمرة بالرجوع إلى القرآن عند التباس الامور، وعرض الحديث عليه لتمييز صحيحه عن سقيمه، فلم يبق للمراجعة والاستمداد في تفسير القرآن سوى نفس القرآن فان القرآن يفسر بعضه بعضا، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض (2).
وهذا الذي ذكره سيدنا العلامة - هنا - تحقيق عريق بشان طريقة فهم معاني كلامه تعالى.
قال - في مقدمة التفسير:
ان الاتكا والاعتماد على الانس والعادة في فهم معاني الايات، يشوش على الفاهم سبيله إلى ادراك مقاصدالقرآن، إذ كلامه تعالى ناشئ من ذاته المقدسة، التي لا مثيل لها ولا نظير ﴿ليس كمثله شي﴾، (3) ﴿لاتدركه الا بصار وهو يدرك الا بصار وهو اللطيف الخبير﴾ (4)، ﴿سبحان اللّه عمايصفون﴾ (5).
وهذا هو الذي دعا بالنابهين ان لا يقتصروا على الفهم المتعارف لمعاني الايات الكريمة، واجازوا لانفسهم الاعتماد - لادراك حقائق القرآن - على البحث والنظر والاجتهاد.
وذلك على وجهين: اما بحثا علميا أوفلسفيا أوغيرهما، للوصول إلى مراده تعالى في آية من الايات، وذلك بعرض الاية على ما توصل اليه العلم أوالفلسفة من نظريات أوفرضيات مقطوع بها، وربما المظنون منها ظناراجحا، وهذه طريقة يرفضها ملامح القرآن الكريم.
واما بمراجعة ذات القرآن، واستيضاح فحوى آية من نظيرتها، وبالتدبر في نفس القرآن الكريم، فان القرآن ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قال على (ع).
قال تعالى: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي﴾ (6)، وحاشا القرآن ان يكون تبيانا لكل شي ولا يكون تبيانا لنفسه، وقد نزل القرآن ليكون هدى للناس ونورا مبينا وبينة وفرقانا، فكيف لا يكون هادياللناس إلى معالمه ومرشدا لهم على دلائله؟ لنهدينهم سبلنا﴾ (7)، واى جهاد اعظم من بذل الجهد في سبيل فهم كتاب اللّه، واستنباط معانيه واستخراج لالئه نعم، القرآن هو اهدى سبيل إلى نفسه، لا شي اهدى منه اليه.
وهذه هي الطريقة التي سلكها النبي وعترته الاطهار صلوات اللّه عليهم - في تفسير القرآن والكشف عن حقائقه - على ما وصل الينا من دلائلهم في التفسير - ولا يوجد مورد واحد استعانوا لفهم آية، على حجة نظريه عقلية أوفرضية علمية، ونحوذلك (8).
وتوضيحا لما افاده سيدنا العلامة في هذا المجال، نعرض ما يلي:
كان للبيان القرآني اسلوبه الخاص في التعبير والادا، ممتازا على سائر الاساليب، ومختلفا عن سائر البيان، مما يبدوطبيعيا، شان كل صاحب فن جديد كان قد اتى بشي جديد.
ومن ثم كان للقرآن لغته الخاصة به، ولسانه الذي يتكلم به، ولهجته التي يلهج بها، ممتازة عن سائر اللهجات.
نعم، ان للقرآن مصطلحات في تعابيره عن مقاصده ومراميه، كانت تخصه، ولا تعرف مصطلحاته الا من قبل نفسه، شان كل صاحب اصطلاح.
ومن المعلوم ان الوقوف على مصطلحات اى فن من الفنون، لايمكن بالرجوع إلى اللغة وقواعدها، ولا إلى الاصول المقررة لفهم الكلام في الاعراف، لانها اعراف عامة، وهذا عرف خاص فمن رام الوقوف على مصطلحات علم النحو- مثلا - فلا بد من الرجوع إلى النحاة انفسهم لا غيرهم، وهكذا سائر العلوم والفنون من ذوي المصطلحات.
ومن ثم فان القرآن هو الذي يفسر بعضه بعضا، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض.
نعم يختص ذلك بالتعابير ذوات الاصطلاح، وليس في مطلق تعابيره التي جات وفق العرف العام.
وبعبارة اخرى: ليس كل تعابير القرآن مما لا يفهم الا من قبله، انما تلك التعابير التي جات وفق مصطلحه الخاص، وكانت تحمل معاني غير معاني سائر الكلام اما التي جات وفق اللغة أوالعرف العام، فطريق فهمهاهي اللغة والاصول المقررة عرفيا لفهم الكلام.
وبعبارة ثالثة: الحاجة إلى عرفان مصطلحات القرآن، انما تكون في موارد التفسير، حيث الغموض والابهام في ظاهر التعبير، دون ترجمة الالفاظ والكلمات، وادراك مفاهيم الكلام وفق الاعراف العامة، مما يعود إلى البحث عن حجية الظواهر، فانها حجة بلا كلام، سوا في القرآن ام في غيره، سوا بسوا.
وهذا غير المبحوث عنه هنا، حيث خفا المراد ورا ستار اللفظ، المعبر عنه بالبطن المختفي خلف الظهرفالظهرلعامة الناس حيث متفاهمهم، ويكون حجة لهم ومستندا يستندون اليه في التكليف، اما البطن فللخاصة ممن يتعمقون في خفايا الاسرار، ويستخرجون الخبايا من ورا الستار.
ومن ثم كان المطلوب من الامة ﴿العلما والائمة﴾ التفكر في الايات والتدبر فيها، وتعقلها ومعرفتهاحق المعرفة.
قال تعالى: ﴿وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون﴾ (9).
قال: ﴿افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها﴾ (10).
وقال: ﴿كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوالا لباب﴾ (11).
وقال رسول اللّه (ع): ﴿له ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، فان التفكر حياة قلب البصير﴾ (12).
قال العلامة الفيلسوف ابن رشد الاندلسي: ﴿وقد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا ينتفع به الجمهو ر، ويخضع له العلما ومن ثم جا بتعابير يفهمها كل من الصنفين: الجمهو رياخذون بظاهر المثال، فيتصورون عن الممثل له مايشاكل الممثل به، ويقتنعون بذلك والعلما يعرفون الحقيقة التي جات في طى المثال﴾ (13).
وسنبحث عن منهج القرآن واساليب بيانه في فصل قادم، ان شا اللّه.
واليك بعض الامثلة، شاهدا لما ذكره سيدنا العلامة:
قال تعالى: ﴿يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلمواان اللّه يحول بين المر وقلبه وانه اليه تحشرون﴾ (14).
هذا خطاب عام يشمل كافة الذين آمنوا، يدعوهم إلى الايمان الصادق والاستجابة عقيدة وعملا - لدعوة الاسلام، والاستسلام العام للشريعة الغرا، إذ في ذلك حياة القلب، والطمانينة في العيش، وادراك لذائذ نعمة الوجود.
اما الحائد عن طريقة الدين والمخالف لمناهج الشريعة، فانه في قلق من الحياة، يعيش مضطربا قد سلبت راحته كوارث الدهر، يخشى مفاجئتها في كل لحظة وأوان.
واما المتكل على اللّه، فهو آمن في الحياة، يدأوم مسيرته، فارغ البال في كنفه تعالى ﴿ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه ان اللّه بالغ امره﴾ (15)، ﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم الا بذكر اللّه تطمئن القلوب﴾ (16).
هذا تفسير الدعوة إلى ما فيه الحياة، ولعله ظاهر لا غبار عليه.
واما قوله تعالى - بعد ذلك: ﴿واعلموا ان اللّه يحول بين المر وقلبه﴾ (17) فيعلوه غبار ابهام، اذيبدوانه تهديد بأولئك الحائدين عن جادة الحق، ان سوف يجازون بحيلولة بينهم وبين انفسهم.
والسؤال: كيف هذه الحيلولة، وما وجه كونها عقوبة متقابلة مع نبذ احكام الشريعة؟.
وللاجابة على هذا السؤال وقع اختلاف عنيف بين اهل الجبر واصحاب القول بالاختيار، كما تنأوشها كل من الاشاعرة واهل الاعتزال، كل يجر النار إلى قرصه، كما اختلف ارباب التفسيرعلى وجوه أوردناها في الجز الثالث من التمهيد، عند الكلام عن المتشابهات، ضمن آيات الهداية والضلال برقم -80-.
والذي رجحناه في تأويل الاية، هو معنى غير ما ذكره جل المفسرين، استفدناه من مواضع من القرآن نفسه:ان هذه الحيلولة كناية عن اماتة القلب، فلا يعي شيئا بعد فقد الحياة.
لا تعجبن الجهو ل حلته فذاك ميت وثوبه الكفن.
الاسلام دعوة إلى الحياة، وفي رفضها رفض للحياة، تلك الحياة المنبعثة عن ادراكات نبيلة، والملهمة للانسان شعورا فى اضا يسعد به في الحياة، ويحظى بكرامته الانسانية العليا.
اما إذا عاكس فطرته واطاح بحظه، فانه سوف يشقى في الحياة، ولم يزل يسعى في ظلمات غيه وجهله ﴿اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾ (18).
فالانسان التائه في ظلمات غيه قد فقد شعوره، وافتقد كرامته العليا في الحياة، فهذا قد نسي نفسه وذهل عن كونه انسانا، يحسب من نفسه موجودا ذا حياة بهيمية سفلى، انما يسعى ورا نهمه وشبع بطنه، لا هدف له في الحياة سواه.
وهذا التسافل في الحياة كانت نتيجة تساهله بشان نفسه واهمال جانب كرامته، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة﴾ (19)، قال تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه فانساهم انفسهم﴾ (20).
فان نسيان النفس كناية عن الابتعاد عن معالم الانسانية والشرف التليد ﴿ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد إلى الا رض واتبع هو اه﴾ (21).
وقال تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزا بما كسبا﴾ (22).
اختلف الفقهاء في موضع القطع من يد السارق، حيث الابهام في ذات اليد، انها من الكتف ام من المرفق ام الساعد ام الكرسوع ﴿طرف الزند﴾ ام الاشاجع ﴿اصول الاصابع﴾؟.
روى أبوالنضر العياشي في تفسيره بالاسناد إلى زرقان صاحب ابن أبي دأود، قاضي القضاة ببغداد، قال: اتي بسارق إلى المعتصم وقد اقر بالسرقة، فسال الخليفة تطهيره باقامة الحد، فجمع الفقهايستفتيهم في اقامة حد السارق عليه، وكان ممن احضر محمد بن علي الجواد(ع)، فسالهم عن موضع القطع.
فقال ابن أبي دأود: من الكرسوع، استنادا إلى آية التيمم، حيث المراد من اليد في ضربتيه هو الكف، ووافقه قوم وقال آخرون: من المرفق، استنادا إلى آية الوضؤ.
فالتفت الخليفة إلى الإمام الجواد يستعلم رايه، فاستعفاه الإمام، فابى واقسم عليه ان يخبره برايه.
فقال (ع): اما إذا اقسمت علي باللّه، اني اقول: انهم اخطأوا فيه السنة، فان القطع يجب ان يكون من مفصل اصول الاصابع، فيترك الكف.
قال المعتصم: وما الحجة في ذلك؟.
قال الإمام: قول رسول اللّه (ع): السجود على سبعة اعضا: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أوالمرفق، لم يبق له يد يسجد عليها، وقد قال اللّه تعالى: ﴿وان المساجد للّه﴾ يعني به هذه الاعضا السبعة التي يسجد عليها ﴿فلا تدعوا مع اللّه احدا﴾ (23)، وما كان للّه لم يقطع.
فاعجب المعتصم هذا الاستنتاج البديع، وامر بالقطع من الاشاجع (24).
انظر إلى هذه الالتفاتة الرقيقة، يجعل من آية المساجد، بتأويل ظاهرها ﴿هي المعابد﴾ الى باطنها ﴿الشمول لما يسجد به، اي يتحقق به السجود﴾، منضمة إلى كلام الرسول في بيان مواضع السجدة، يجعل من ذلك كله دليلا على تفسير آية القطع وتعيين موضعه، بهذا النمط البديع.
وقد استظهر(ع) من الاية ان راحة الكف، وهي من مواضع السجود، كانت للّه، فلا تشملها عقوبة الحد التي هي جزا سيئة، لا تحل فيما لا يعود إلى مرتكبها، فان راحة الكف موضع السجود للّه.
وللاستاذ الذهبي - هنا - محأولة غريبة يجعل من التفسير بالراي قسمين: قسما جائزا وممدوحا، وآخرمذموما غير جائز وحأول تأويل حديث المنع إلى القسم المذموم.
قال: والمراد بالراي هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالراي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد، بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للالفاظ العربية ووجوه دلالتها، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي، ووقوفه على اسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الادوات التي يحتاج اليها المفسر.
قال: واختلف العلما قديما في جواز تفسير القرآن بالراي، فقوم تشددوا في ذلك ولم يجيزوه، وقوم كان موقفهم على العكس فلم يروا باسا من ان يفسروا القرآن باجتهادهم، والفريقان على طرفي نقيض فيما يبدو، وكل يعزز رايه بالادلة والبراهين.
ثم جعل يسرد ادلة لكل من الفريقين، ويجيب عليها واحدة واحدة باسهاب، واخيرا قال: ولكن لورجعنا إلى ادلة الفريقين وحللنا ادلتهم تحليلا دقيقا، لظهر لنا ان الخلاف لفظي، وان الراي قسمان:
قسم جار على موافقة كلام العرب ومناحيهم في القول، مع موافقة الكتاب والسنة، ومراعاة سائر شروطالتفسير، وهذا القسم جائز لا شك فيه.
وقسم غير جار على قوانين العربية، ولا موافقة للادلة الشرعية، ولا مستوف لشرائ ط التفسير، وهذا هو موردالنهي ومحط الذم (25).
قلت: اما تورع بعض السلف عن القول في القرآن، فلعدم ثقته بذات نفسه وضلة معرفته بمعاني كلام اللّه اماالعلما العارفون بمرامي الشريعة، فكانوا يتصدون التفسير عن جراة علمية واحاطة شاملة لجوانب معاني القرآن.
واما التفسير بالراي فامر وقع المنع منه على اطلاقه، وليس على قسم منه، كما زعمه هذا الاستاذ.
والذي أوقعه في هذا الوهم، انه حسب التفسير بالراي هنا بمعنى الاجتهاد، في مقابلة التفسير بالماثور، ولا شك من جواز الاجتهاد في استنباط معاني الايات الكريمة ان وقع عن طريقه المالوف.
1- البيان، ص 287 288.
2- تفسير الميزان، ج3، ص 77 79، وراجع: ج1، ص 10 ايضا.
3- الشورى / 11.
4- الانعام / 103.
5- الصافات / 159.
6- النحل / 89.
7- العنكبوت / 69.
8- الميزان، ج1، ص 109.
9- النحل / 44.
10- محمد/ 24.
11- ص / 29.
12- مقدمة تفسير الميزان، ج1، ص 10 والكافي الشريف، ج2، ص 599.
13- راجع: رسالته ﴿الكشف عن مناهج الادلة﴾، ص 97.
14- الانفال / 24.
15- الطلاق / 3.
16- الرعد/ 28.
17- الانفال / 24.
18- البقرة / 257.
19- الانعام / 110.
20- الحشر/ 19.
21- الاعراف / 176.
22- المائدة / 38.
23- الجن / 18.
24- تفسير العياشي، ج1، ص 319 320.
25- التفسير والمفسرون، ج1، ص 255وص 264.