هل التفسير توقيف؟
ربما كان بعض السلف يحتشم عن القول في القرآن، خشية ان يكون قولا على اللّه بغير علم، أوتفسيرا برايه الممنوع شرعا وتبعهم على ذلك بعض الخلف، فامسكوا عن تفسير القرآن، سوى ما ورد فيه اثر صحيح ونقل صريح.
فقد اخرج الطبري باسناده إلى أبي معمر، قال: قال ابوبكر: ﴿اي ارض تقلني واى سما تظلني إذا قلت في القرآن ما لا اعلم﴾، وفي رواية اخرى ايضا عنه: ﴿إذا قلت في القرآن برايي﴾ (1).
وهذا عند ما سئل عن ﴿الاب﴾ في قوله تعالى: ﴿وفاكهة وابا، متاعا لكم ولانعامكم﴾ (2)، فقداخرج السيوطي باسناده إلى ابراهيم التميمي، قال: سئل أبوبكر عن قوله تعالى: ﴿وابا﴾، فقال: ﴿اى سماتظلني واى ارض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا اعلم﴾ (3).
وهكذا روي عن عمر انه جعل التكلم في الاية تكلفا يجب تركه وايكاله إلى اللّه، اخرج السيوطي بعدة اسانيدان عمر قرا على المنبر: ﴿فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا - إلى قوله - وابا﴾ قال: كل هذا قد عرفناه، فماالاب؟ ثم رفض عصا كانت في يده، فقال: هذا لعمرواللّه هو التكلف، فما عليك ان لا تدري ما الاب، اتبعواما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه (4).
وعن عبيد اللّه بن عمر قال: لقد ادركت فقها المدينة، وانهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبداللّه، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع وعن يحيى بن سعيد، قال: سمعت رجلا يسال سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا اقول في القرآن شيئا وفي رواية اخرى: انه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: انا لا اقول في القرآن شيئا، وكان لا يتكلم الا في المعلوم من القرآن قال يزيد: وإذا سالنا سعيداعن تفسير آية من القرآن، سكت كان لم يسمع.
وعن ابن سيرين، قال: سالت عبيدة السلماني عن آية، قال: عليك بالسداد، فقد ذهب الذين علموا فيم انزل القرآن.
وجا طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد اللّه، فساله عن آية من القرآن، فقال له: احرج عليك ان كنت مسلما، لما قمت عني، أوقال: ان تجالسني.
وروي عن الشعبي، قال: ثلاث لا اقول فيهن حتى اموت: القرآن، والروح، والراي، وكان يقول: واللّه ما من آية الا قد سالت عنها، ولكنها الرواية عن اللّه.
وروي عنه انه قال: ادركتهم - اي الأوائل - وما شي ابغض اليهم ان يسالوا عنه ولاهم له اهيب، من القرآن ذكره صاحب كتاب المباني.
ورووا في ذلك بطريق ضعيف عن عائشة، قالت: ما كان النبى (ع) يفسر شيئا من القرآن الا آيا تعد، علمهن اياه جبريل (5)، اي انه (ع) لم يكن يفسر الا القلائل من الايات، تلك القلائل ايضا كان بوحي وتوقيف، ولم يكن عن فهمه.
وروي عن ابراهيم، قال: كان اصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
قال ابن كثير: فهذه الاثار الصحيحة وما شاكلها عن ائمة السلف، محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسيربما لا علم لهم فيه فاما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلا وغيرهم اقوال في التفسير، ولا منافاة، لانهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه وهذا هو الواجب على كل واحد، فانه كما يجب السكوت عما لا علم به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: ﴿لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ (6).
وبعين ذلك ذكر ابن تيمية في مقدمته (7).
وقال ابن جرير الطبري: ان معنى ﴿احجام﴾ من احجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من علما السلف، انما كان احجامه عنه حذرا ان لا يبلغ ادا ما كلف من اصابة صواب القول فيه، لاعلى ان تأويل ذلك محجوب عن علما الامة، غير موجود بين اظهرهم (8).
قلت: والدليل على صحة ذلك ان من تحرج من القول في معاني القرآن من السلف، كانوا هم القلة القليلة من الاصحاب والتابعين، اما الاكثرية الساحقة من علما الامة ونبها الصحابة فقد عنوا بتفسير القرآن وتأويله عناية بالغة، كانت الوفرة الوفيرة من رصيدنا اليوم في التفسير.
قال ابن عطية: وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرونه، وهم ابقى على المسلمين في ذلك.
فاما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب (ع)، ويتلوه عبد اللّه ابن عباس، وهو تجرد للامر وكمله، وتبعه العلما عليه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما والمحفوظ عنه في ذلك اكثر من المحفوظ عن على بن أبي طالب.
وقال ابن عباس: ما اخذت من تفسير القرآن فعن على بن أبي طالب.
وكان على بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس، ويحض على الاخذ عنه وكان عبد اللّه بن مسعود يقول:نعم ترجمان القرآن عبد اللّه بن عباس.
وهو الذي قال فيه رسول اللّه (ع): ﴿اللهم فقهه في الدين﴾، وحسبك بهذه الدعوة وقال عنه على بن أبي طالب (ع): ﴿ابن عباس كانما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق﴾.
ويتلوه عبد اللّه بن مسعود، وابى بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد اللّه بن عمروبن العاص.
قال: وكل ما اخذ عن الصحابة فحسن متقدم (9).
واما حديث عائشة - فضلا عن تكلم ابن جرير وابن عطية وغيرهما في تأويله وضعف سنده - فالارجح في تأويله: انه (ع) كان يفسر لهم القرآن اعدادا فاعدادا، كل فترة عددا خاصا حسبما كان جبرئيل يعلمه عن اللّه جل جلاله - ولم يكن التعليم فوضى من غير انتظام وسيوافيك حديث ابن مسعود في ذلك: كان الرجل منا إذاتعلم عشر آيات، لم يجأوزهن حتى يعرف معانيهن.
قال صاحب كتاب المباني: واما ما روي عن عائشة، فان ذلك يدل على انه (ع) كان يحتاج مع ما انزل عليه من القرآن إلى تفسير آيات يعلمهن اياه جبريل (ع) وتلك آيات معدودة قد اجملت فيها احكام الشريعة، بحيث لايوقف عليه الا ببيان الرسول عن اللّه تعالى.
واما ما ذكروه من امتناع من امتنع من القول في التفسير، فان ذلك بمنزلة من امتنع منهم عن الرواية عن رسول اللّه (ع) الا فيما لم يجد فيه بدا.
ولذلك قلت روايات رجال من اكابر الصحابة، مثل عثمان وطلحة والزبير وغيرهم روى عامر بن عبد اللّه بن الزبير عن ابيه قال: قلت للزبير: ما لي لا اسمعك تحدث عن رسول اللّه، كما اسمع ابن مسعود وفلانا وفلانا؟فقال: اما اني لم افارقه منذ اسلمت، ولكني سمعت رسول اللّه (ع) يقول: ﴿من كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار﴾.
وقيل لربيعة: انا لنجد عند غيرك من الحديث ما لا نجد عندك منه، ولكني سمعت رجلا من آل الهدير يقول: صحبت طلحة وما سمعته يحدث عن رسول اللّه (ع) الا حديثا واحدا.
قال: وهذا عبد اللّه بن عباس، لم يدع آية في القرآن الا وقد ذكر من تفسيرها، على ما روت عنه الرواة، ولذلك قيل: ابن عباس ترجمان القرآن.
وروي عن أبي مليكة قال: رايت مجاهدا يسال ابن عباس في تفسير القرآن ومعه الواحه، فيقول ابن عباس: اكتبه، حتى ساله عن التفسير كله.
وروي عن سعيد بن جبير انه قال: من قرا القرآن ولم يفسره كان كالاعمى أوكالاعرابي.
وروى مسلم عن مسروق بن الاجدع قال: كان عبد اللّه يقرا علينا السورة ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النهار.
وعن أبي عبد الرحمان قال: حد ثونا الذين كانوا يقرئوننا: انهم كانوا يستقرئون من النبى، فكانوا إذا تعلموا عشرآيات لم يخلفوها حتى يعلموا ما فيها من العمل، فيعلموا القرآن والعمل جميعا.
وعن ابن مسعود: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجأوزهن حتى يعرف معانيهن (10).
وبعد، فقد ذكر الراغب الاصبهاني هنا شرائط يجب توفرها في المفسر، حتى لايكون تفسيره تفسيرا بالراي الممنوع شرعا والمقبوح عقلا، نذكره بتفصيله، فان فيه الفائدة المتوخاة في هذا الباب.
1- تفسير الطبري، ج1، ص 27.
2- سورة عبس، 31 و32.
3- الدر المنثور، ج6، ص 317.
4- المصدر نفسه، والطبري، ج30، ص 38 39.
5- الطبري، في التفسير، ج1، ص 29 ومقدمة كتاب المباني في نظم المعاني، ص 183 184.
6- تفسير ابن كثير، ج1، ص 6 وآل عمران / 187.
7- مقدمته في اصول التفسير، ص 55.
8- الطبري التفسير ج1، ص 30.
9- مقدمة ابن عطية لتفسيره الجامع المحرر، المطبوعة مع مقدمة المباني، ص 262 263.
10- مقدمة كتاب المباني، ص 191 193.