مزاعم في التأويل

هناك من حسب من تأويل القرآن شيئا ورا المفاهيم الذهنية أوالتعابير الكلامية، وكان من نمط الاعيان الخارجية، وكان ما ورد في القرآن من حكم وآداب وتكاليف واحكام كلها تعود اليه، إذ تنتزع منه وتنتهي اليه في نهاية المطاف، فكان ذلك تأويلا للقرآن في جميع آياته الكريمة.

وقد اختلفوا في تبيين تلك الحقيقة التي تعود اليها جميع الحقائق القرآنية في اصول معارفه والاحكام:

ذكر ابن تيمية - في رسالة وضعها بشان المتشابه والتأويل: ان التأويل في عرف المتاخرين صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح، لدليل يقترن به فالتأويل - على هذا - يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدعيه، وبيان الدليل الموجب للصرف اليه عن المعنى الظاهر.

قال: واما التأويل - في عرف السلف - فله معينان: احدهما: ما يرادف التفسير والبيان، وهو الذي عناه مجاهد بقوله: ان العلما يعلمون تأويل القرآن، اي تفسيره وتبيينه.

والثاني: نفس المراد بالكلام، ان كان طلبا فتأويله نفس العمل المطلوب، وان كان خبرا فتأويله نفس الشي المخبر به.

قال: وبين هذا المعنى - الاخير - والذي قبله - الذي جا أولا في عرف السلف، والذي جا في عرف المتاخرين - بون، فان الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والايضاح ويكون وجود التأويل في القلب واللسان، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي.

واما هذا - المعنى الثاني في عرف السلف - فالتأويل فيه نفس الامور الموجودة في الخارج، سوا كانت ماضية أومستقبلة فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها.

قال: وهذا الوضع والعرف الثالث - الذي جا ثانيا في عرف السلف - هو لغة القرآن التي نزل بها (1).

وقال في تفسير سورة الاخلاص - بعد كلام تفصيلي له عن تأويل المتشابه من الايات، وان الراسخين في العلم يعلمون تأويله، واستعظام ان يكون جبرائيل ومحمد(ع) والصحابة والتابعون لهم باحسان وائمة المسلمين لا يعرفون تأويل متشابه القرآن، ويكون اللّه تعالى قد استاثر بعلم معاني هذه الايات كما استاثربعلم الساعة، وانهم جميعا كانوا يقرأون الفاظا لا يفهمون لها معنى، كما يقرا احدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه، من قال ذلك فقد كذب على القوم، والماثور عنهم متواترا يناقض هذا الزعم، وانهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم - قال بعد ذلك:

فان قيل: هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير، وبين التأويل الذي في كتاب اللّه.

قيل: لا يقدح في ذلك، فان معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوره في القلب، غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج، المرادة بذلك الكلام.

فان الشي له وجود في الاعيان، ووجود في الاذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البيان فالكلام لفظ له معنى في القلب، ويكتب ذلك اللفظ بالخط فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب وعبر عنه باللسان، فهذاغير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني.

مثال ذلك: ان اهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبي (ع) وخبره ونعته، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام.

وكذلك الانسان قد يعرف الحج والمشاعر، كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة، ويفهم معنى ذلك ولايعرف الامكنة حتى يشاهدها، فيعرف ان الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله: ﴿وللّه على الناس حج البيت﴾ وكذلك ارض عرفات وغيرها.

وكذلك الرؤيا يراها الرجل، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه، ولهذا قال يوسف الصديق: ﴿هذا تأويل رؤياي من قبل﴾ وقال: ﴿لا ياتيكما طعام ترزقانه الا نباتكما بتأويله قبل ان ياتيكما﴾ فقد انباهما بالتأويل قبل ان ياتي التأويل، فنحن نعلم تأويل ما ذكر اللّه في القرآن من الوعد والوعيد، وان كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله تعالى: ﴿هل ينظرون الا تأويله يوم ياتي تأويله﴾ (2).

وقد اشاد السيد محمد رشيد رضا ﴿منشئ مجلة المنار المصرية﴾ من هذه النظرة التيمية بشان تأويل القرآن، واعجبته غاية الاعجاب قال - بعد ان نقل عن شيخه الاستاذ محمد عبده، ان التأويل بمعنى ما يؤول اليه الشي وينطبق عليه، لا بمعنى ما يفسر به (3): ليس في كتب التفسير المتدأولة ما يروي الغليل في هذه المسالة، وماذكرناه آنفا هو صفوة ما قالوه، وخيرة كلام الاستاذ الإمام وقد راينا ان نرجع بعد كتابته إلى كلام في المتشابه والتأويل، لشيخ الاسلام احمد بن تيمية، فرجعنا اليه وقراناه بامعان، فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراه بيان، اثبت فيه انه ليس في القرآن كلام لايفهم معناه، وان المتشابه اضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وان التأويل الذي لا يعلمه الا اللّه تعالى هو ما تؤول اليه تلك الايات في الواقع، ككيفية صفاته تعالى، وكيفية عالم الغيب، وكيفية قدرته تعالى وتعلقها بالايجاد والاعدام، وكيفية استوائه على العرش ولا كيفية عذاب اهل النار، ولا نعيم اهل الجنة، كما قال تعالى:﴿فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة اعين﴾ (4) فليست نار الاخرة كنار الدنيا، وانما هي شي آخر وليست ثمرات الجنة ولبنها وعسلها من جنس المعهو د لنا في هذا العالم، وانما هو شي آخر يليق بذلك العالم ويناسبه.

قال: واننا نبين ذلك بالاطناب الذي يحتمله المقام، مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم، ناقلين بعض ماكتبه (5) وجعل ينقل ما سرده ابن تيمية باسهاب.

وهذا الذي ذكره ابن تيمية واشاد به رشيدرضا، لا يعدوما يعود اليه امر الشي، اخذا بالمفهو م اللغوي لمادة التأويل اما العين الخارجية بالذات فلعله من اشتباه المصداق بالمفهو م، فان الوجود العيني للاشيا هي عين تشخصاتها المعبر عنها بالمصاديق الخارجية، ولم يعهد اطلاق لفظ ﴿التأويل﴾ على المصداق في متعارف الاستعمال الا ان يكون من عرفهما الخاص، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وعلى اى تقدير، فانهما لم ياتيا بشي جديد، فان مسالة الوجودات الاربعة للاشيا﴿الذهني واللفظي والكتبي والعيني﴾ امر تعارف عليه ارباب المنطق منذ عهدقديم، الا ان الشي الذي لم يتعارف عليه هو اطلاق اسم ﴿التأويل﴾ على العين الخارجية، باعتبارها مصداقاللوجودات الثلاثة المنتزعة عنها، سوى كونه مصطلحا جديدا غير معروف.

ولسيدنا العلامة الطباطبائي كلام تحقيقي لطيف حول مسالة التأويل، يراه متغايرا مع المفاهيم، بعيدا عن جنس الالفاظ والمعاني والتعابير، وانما هي حقائق راهنة، موطنها خارج الاذهان والعبارات.

انه ﴿ره﴾ تعرض لكلام ابن تيمية، فصححه من جهة، وخطاه من جهة اخرى، صححه من جهة قوله: بشمول التأويل لجميع آي القرآن، محكمه ومتشابهه، وقوله: بانه خارج الاذهان والعبارات لكن خطاه في حصره للتأويل في العين الخارجية البحت، فانه مصداق وليس بتأويل انما التأويل حقائق راهنة، هي مصالح واقعية واهداف وغايات مقصودة من ورا التكاليف والاحكام، وكذا الحكم والمواعظ والاداب، وحتى القصص والاخبار والاثار التي جات في القرآن.

قال - مناقشا لراي ابن تيمية:

﴿انه وان اصاب في بعض كلامه، لكنه اخطا في بعضه الاخر انه اصاب في القول: بان التأويل لا يختص بالمتشابه، بل هو عام لجميع القرآن، وكذا القول: بان التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي، بل هو امر خارجي يبتنى عليه الكلام لكنه اخطا في عد كل امر خارجي مرتبط بمضمون الكلام - حتى مصاديق الاخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة - تأويلا للكلام﴾ (6).

ثم قال: ﴿الحق في تفسير التأويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية، من حكم أوموعظة أوحكمة، وانه موجود لجميع الايات القرآنية محكمها ومتشابهها، وانه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليهابالالفاظ، بل هي من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ وانما قيدها اللّه سبحانه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا بعض التقريب، فهى كالامثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح، بحسب مايناسب فهم السامع، كما قال تعالى: ﴿والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ (7).

وقال - في شرح الاية:

﴿ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وانما البس لباس القراة والعربية ليعقله الناس، والا فانه وهو في ام الكتاب - عند اللّه على لا تصعد اليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل فالكتاب المبين - في الاية - هو اصل القرآن العربي المبين، وللقرآن موقع هو في الكتاب المكنون، وان التنزيل حصل بعده، وهو الذي عبر عنه بام الكتاب وباللوح المحفوظ فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل، امر ورا هذا المنزل، وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك ان هذا المعنى، اعني كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين، ونحن نسميه بحقيقة الكتاب، بمنزلة اللباس من المتلبس، وبمنزلة المثال من الحقيقة، وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام﴾ (8).

واضاف: ﴿فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الاحكام أوبيان معرفة من المعارف الالهية أووقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية، وان لم تكن امرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أوالبيان أوالواقعة الكذائية، الا ان الحكم أوالبيان أوالحادثة، لما كان كل منهاينشا منها ويظهر منها، فهو اثرها الحاكي لها بنحومن الحكاية والاشارة﴾ (9).

واخيرا لخص كلامه في بيان التأويل بما يلي:

﴿التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يتضمنها الشي ويؤول اليها ويبتنى عليها، كتأويل الرؤيا، وهو تعبيرها، وتأويل الحكم، وهو ملاكه، وتأويل الفعل، وهو مصلحته وغايته الحقيقية، وتأويل الواقعة، وهو علتها الواقعية، وهكذا﴾ (10).

غير ان وقفة فاحصة عند كلام هذا المحقق العلامة، تجعلنا نتردد في التوافق معه، انه ﴿ره﴾ لوكان اقتصر على مالخصه اخيرا، من جعل ملاكات الاحكام والمصالح والغايات الملحوظة في التشريعات والتكاليف تأويلا، اي اصلا لها ومرجعها الاساسي لكل ذلك المذكور، لامكننا مرافقته.

لكنه توسع في ذلك، وفرض من تأويل آي القرآن كلها امرا بسيطا ذا احكام رصين، ليس فيه شي من هذه التجزئة والتفصيل الموجود في القرآن الحاضر الذي يتدأوله المسلمون منذ أول يومهم فالى ما لا نهاية، فان ذاك عار عن كونه آية آية وسورة سورة، وجودا واحدا بسيطا صرفا، مستقرا في محل ارفع، في كتاب مكنون لايمسه الا المطهرون.

وفرض من القرآن ذا وجودين: وجودا ظاهريا يتشكل في الفاظ وعبارات ذوات مفاهيم معروفة، وهو الذي يتلى ويقرا ويدرس، ويتدأوله الناس حسبما الفوه طوال عهد الاسلام.

ووجودا آخر باطنيا، هو وجوده الحقيقي الاصيل، المترفع عن ان تناله العقول والاحلام، فضلا عن الأوهام، وذلك الوجود الحقيقي الرفيع هو تأويل القرآن، اي اصله ومرجعه الاصيل.

قال - بصدد بيان نزول القرآن دفعة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان، وانه لم يكن هذا القرآن المتلوالذي بايدي الناس، فانه نزل تدريجا بلا ريب:

﴿والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب امر آخر، فان الايات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أوفي ليلة القدر انما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة، دون التنزيل، واعتبار الدفعة اما بلحاظ المجموع أوالبعض، واما لكون الكتاب ذا حقيقة اخرى ورا ما نفهمه بالفهم العادي، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج، هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل، وهذا هو اللائح من الايات الكريمة: ﴿كتاب احكمت آياته ثم فصلت﴾ (11) فان هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة، فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جز من جز، ولا يتميز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد لا اجزا فيه ولا فصول والاية ناطقة بان هذا التفصيل المشاهد في القرآن، انماطرا عليه بعد كونه محكما غير مفصل، وأوضح منه قوله تعالى: ﴿حم والكتاب المبين انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ (12) فانه ظاهر في ان هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وانما البس لباس القراة والعربية ليعقله الناس، والا فانه في ام الكتاب عند اللّه على لا يصعد اليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل فصل فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل امر ورا هذا المنزل وانما هذا بمنزلة اللباس لذاك (13).

ثم احال تمام الكلام إلى بيانه الاتي حول آية المتشابهات، قال هناك:

﴿الحق في تفسير التأويل انه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية، وانه موجود لجميع الايات، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ، وانما قيدها اللّه بقيدالالفاظ لتقريبها من اذهاننا، قال تعالى: ﴿انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾ (14) وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى (15).

وبعد، فلنتسال: ما هو السبب الداعي لفرض وجودين للقرآن الكريم: وجودا لديه تعالى في كتاب مكنون، لايمسه الا المطهرون، عاريا عن التجزئة والتفصيل، متعاليا عن شبكات الالفاظ والعبارات، ووجودا ارضيا نزل تدريجا لهداية الناس، والبس لباس العربية لعلهم يعقلونه؟ ولعله للنظر إلى قوله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن﴾ (16) وقوله:﴿حم والكتاب المبين انا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين فيها يفرق كل امر حكيم امرا من عندنا﴾ (17) وقوله:﴿انا انزلناه في ليلة القدر﴾ (18).

وقد ورد في الحديث - من طرق الفريقين: ان القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر، ثم نزل تدريجا طوال عشرين عاما﴾ (19).

ولذلك فرض علامتنا الطباطبائي وجودين للقرآن الكريم ونزولين وكان نزوله الدفعي بوجوده البسيط الذي كان بمنزلة الروح لهذا القرآن، النازل تدريجا بوجوده التفصيلي.

وبذلك نراه قد جمع بين ظواهر الايات ودلالة الروايات، وايد ذلك بالفارق اللغوي بين لفظتي ﴿الانزال﴾ و﴿التنزيل﴾.

لكن تشريف شهر رمضان انما كان بنزول هذا القرآن المعهو د لدى المخاطبين بهذا الخطاب، لا بامر لا يعرفونه على ان القرآن النازل في هذا الشهر، قد وصف بكونه ﴿هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾ (20) ومعلوم ان الهداية والبينات، انما هي بهذا الكتاب الذي يتدأولونه، لا بكتاب مكنون عند اللّه محفوظ لديه في مكان على لا تناله الايدي والابصار.

كما ان الذي يبتغيه اهل الزيغ لاجل الفساد في الارض، هو تفسير الايات على غيروجهها، لا وجودا آخر للقرآن، هو في اعلى عليين.

فقوله ﴿ره﴾:﴿وانه موجود لجميع الايات محكمها ومتشابهها، وانه ليس من قبيل المفاهيم بل من الامور العينية المتعالية من ان يحيط بها شبكات الالفاظ﴾ غير مفهو م لنا.

والفرق بين ﴿الانزال﴾ و﴿التنزيل﴾ امر ابدعه الراغب الاصبهاني، ولا شاهد له.

قال: وانما خص لفظ الانزال دون التنزيل، لما روي ان القرآن نزل دفعة واحدة إلى سما الدنيا، ثم نزل نجمافنجما ولفظ الانزال اعم من التنزيل، قال: ﴿لوانزلنا هذا القران على جبل﴾ (21) ولم يقل: لونزلنا، تنبيها انا لوخولناه مرة ما خولناك مرارا.

ويرد عليه ما حكاه اللّه عن قولة العرب: ﴿لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة﴾ (22).

وكذلك قوله تعالى: ﴿وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه﴾ (23).

وقوله: ﴿ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة﴾ (24).

وقوله: ﴿ولونزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه﴾ (25).

وقوله: ﴿لنزلنا عليهم من السما ملكا رسولا﴾ (26).

كما جمع بين التعبيرين بشان امر واحد في قوله تعالى: ﴿وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون﴾(27).

كما جا استعمال ﴿الانزال﴾ بشان التدريجيات ايضا:

﴿انزل من السما ما فاخرج به من الثمرات رزقا لكم﴾(28).

﴿هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات﴾(29).

لان الكتاب الذي منه محكم ومتشابه، هو هذا الكتاب الذي نزل تدريجا ﴿افغير اللّه ابتغي حكما وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا﴾(30)، إذ الذي نزل مفصلا هو هذا القرآن الذي نزل منجما.

واخيرا فما هي الفائدة المتوخاة من ورا نزول القرآن دفعة واحدة إلى السما الدنيا أوإلى السما الرابعة، في البيت المعمور أوبيت العزة - على الاختلاف في الفاظ الروايات -، ثم نزوله بعد ذلك تدريجا في طول عهدالرسالة؟.

وهل لوجود القرآن بوجوده البسيط الروحاني - في ذلك المكان الرفيع - فائدة تعودعلى اهل السمأوات أوسكان الارضين؟.

واجاب الفخر الرازي عن ذلك، وعلل وجود القرآن هناك، في مكان انزل من العرش واقرب إلى الارض، ليسهل التنأول منه لجبرائيل عند مسيس الحاجة(31).

وعلل بعض الاساتذة المعاصرين ذلك، بان الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى، وهذا القرآن المعروض على الناس، هو ﴿رابط العلية﴾ فكل ما في هذا القرآن من حكم ومواعظ وآداب، وتعاليم ومعارف واحكام، انما تنشا مما حواه ذلك القرآن، على بساطته وعلورفعته، فهذا اشعاع من ذلك النور الساطع، وافاضة من ذلك المقام الرفيع(32).

غير ان هذا كله تكلف في التأويل، وتمحل في القول بلا دليل، ولعلنا في غنى عن البسط فيه والتذييل.

واما الايات التي استندوا اليها لاثبات وجود آخر للقرآن محفوظ عنداللّه، في كتاب مكنون لا يمسه الاالمطهرون فهي تعني امرا آخر غير ما راموه.

وليعلم ان المقصود من الكتاب المكنون، هو : علم الل ه المخزون، المعبر عنه ب ﴿اللوح المحفوظ﴾ ايضا، وهكذاالتعبير ب ﴿ام الكتاب﴾ كناية عن علمه تعالى الذاتي الازلي، بما يكون مع الابد.

وقد ذكر العلامة الطباطبائي - في تفسير سورة الرعد حديثا عن الإمام الصادق (ع) قال: ﴿كل امر يريده اللّه، فهو في علمه قبل ان يضعه، وليس شي يبدوله الا وقد كان في علمه﴾ قال ذلك تفسيرا لقوله تعالى: ﴿يمحواللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب﴾(33).

فقوله تعالى: ﴿وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾(34) يعني قضى اللّه في علمه الازلي الحتم ان القرآن - في مسيرته الخالدة - سوف يشغل مقاما عليا، مترفعا عن ان تناله ايدي السفها، حكيما مستحكماقوائمه، لا يتضعضع ولا يتزلزل، يشق طريقه إلى الإمام بسلام(35).

وكذا قوله: ﴿بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ﴾(36) اي هكذا قدر في علمه تعالى المكنون(37).

وهكذا ذكر الطبرسي وغيره في تفسير قوله تعالى: ﴿انه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه الاالمطهرون﴾ (38) انه اشارة إلى مقامه الرفيع عند اللّه، وقد جرى في علمه تعالى انه محفوظ عن منأوشة المنأوئين.

قال سيد قطب: ﴿انه لقرآن كريم: كريم بمصدره، وكريم بذاته، وكريم باتجاهاته في كتاب مكنون: مصون، وتفسير ذلك في قوله تعالى بعده: لا يمسه الا المطهرون فقد زعم المشركون ان الشياطين تنزلت به، فهذا نفي لهذاالزعم فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم اللّه وحفظه، انما تنزل به الملائكة المطهرون، ولذلك قال - بعدها: تنزيل من رب العالمين، اي لا تنزيل من الشياطين﴾ (39).


1- رسالة الاكليل، مطبوعة ضمن المجموعة الثانية من رسائله ص 10 و17 18.

2- راجع: رسالته في تفسير سورة الاخلاص، ص 102 103 ونقله محمد رشيد رضا في تفسير المنار، ج3، ص 195 196.

3- يرى الاستاذ عبده من متشابهات القرآن، الامور الاخروية التي ورد ذكرها في القرآن،لانها من ضرورة الدين ومن مقاصد الوحي، حيث العقيدة باحوال الاخرة من اركان الدين،فيجب الايمان بها، الامر الذي لا يمكن الوقوف على حقيقتها الا بعد مشاهدتها في الاخرة،فهي تأويلها ذلك اليوم، كما قال تعالى: ﴿يوم ياتي تأويله، يقول الذين نسوه من قبل قدجات رسل ربنا بالحق﴾ الاعراف /53 ﴿المنار، ج3، ص 167﴾.

4- السجدة / 17.

5- تفسير المنار، ج3،ص 172 196.

6- الميزان، ج3، ص 48.

7- الميزان، ج3، ص 49، الزخرف / 4.

8- الميزان، ج2، ص 14 16.

9- المصدر نفسه، ج3، ص 53.

10- الميزان، ج13، ص 376.

11- هو د/ 1.

12- الزخرف / 4.

13- الميزان، ج2، ص 14 16.

14- الزخرف / 4.

15- الميزان، ج3، ص 49.

16- البقرة / 185.

17- الدخان / 5.

18- القدر/ 1.

19- بحار الانوار، ج94، ص 14، رقم23.

20- البقرة / 185.

21- الحشر/ 21.

22- الفرقان / 32.

23- الانعام / 37.

24- محمد/ 20.

25- الانعام / 7.

26- الاسراء/ 95.

27- النحل / 44.

28- البقرة / 22.

29- آل عمران / 7.

30- الانعام / 114.

31- التفسير الكبير، ج5، ص 85.

32- مباني وروشهاي تفسير، ص 73.

33- تفسير الميزان، ج11، ص 420، الرعد/ 39.

34- الزخرف / 4.

35- راجع: الطبرسي، مجمع البيان، ج9، ص 39 والطوسي، التبيان، ج9، ص 179 وابا الفتوح الرازي، ج10، ص 74 والفخر الرازي، ج27، ص 194.

36- البروج، 22.

37- راجع: تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد، ص 29 والفخر الرازي، ج23، ص 66 وج28،ص 152.

38- الواقعة / 80.

39- في ظلال القرآن، ج7، ص 706 وراجع: المجمع، ج9، ص 226.