ضابطة التأويل
ومما يجدر التنبه له ان للاخذ بدلائل الكلام - سواء اكانت جلية أم خفية - شرائط ومعايير، لابد من مراعاتها للحصول على الفهم الدقيق فكما ان لتفسير الكلام - وهو الكشف عن المعاني الظاهرية للقرآن - قواعد واصول مقررة في علم الاصول والمنطق، كذلك كانت لتأويل الكلام - وهو الحصول على المعاني الباطنية للقرآن - شرائط ومعايير، لاينبغي اعفاؤها والا كان تأويلا بغير مقياس، بل كان من التفسير بالراي الممقوت.
وليعلم ان التأويل - وهو من الدلالات الباطنية للكلام - داخل في قسم الدلالات الالتزامية غير البينة، فهو من دلالة الالفاظ لكنها غير البينة، ودلالة الالفاظ جميعا مبتنية على معايير يشرحهاعلم الميزان، فكان التأويل - وهو دلالة باطنة - بحاجة إلى معيار معروف كي يخرجه عن كونه تفسيرا بالراي.
فمن شرائط التأويل الصحيح - اي التأويل المقبول في مقابلة التأويل المرفوض:
أولا: رعاية المناسبة القريبة بين ظهر الكلام وبطنه، اي بين الدلالة الظاهرية وهذه الدلالة الباطنية للكلام، فلاتكون اجنبية، لا مناسبة بينها وبين اللفظ ابدا فإذا كان التأويل - كما عرفناه - هو المفهو م العام المنتزع من فحوى الكلام، كان لا بد ان هناك مناسبة لفظية أومعنوية استدعت هذا الانتزاع.
مثلا: لفظة ﴿الميزان﴾ وضعت لالة الوزن المعروفة ذات الكفتين، وقد جا الأمر باقامتها وعدم البخس فيها، في قوله تعالى: ﴿واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾ (1).
لكنا إذا جردنا اللفظ من قرائن الوضع وغيره واخلصناه من ملابسات الانس الذهني، فقد اخذنا بمفهو مه العام:كل ما يوزن به الشي، اي شي كان ماديا ام معنويا، فانه يشمل كل مقياس أومعيار كان يقاس به أويوزن به في جميع شؤون الحياة، ولا يختص بهذه الالة المادية فحسب.
قال الشيخ أبوجعفر الطوسي: فالميزان آلة التعديل في النقصان والرجحان، والوزن يعدل في ذلك ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه تعالى على النعمة فيه والهداية اليه وقيل: المراد بالميزان: العدل، لان المعادلة موازنة الاسباب (2).
وروى محمد بن العباس المعروف بماهيار ﴿ت ح330﴾ - في كتابه الذي وضعه لبيان تأويل الايات - باسناده إلى الإمام الصادق (ع) قال: الميزان الذي وضعه اللّه للانام، هو الإمام العادل الذي يحكم بالعدل، وبالعدل تقوم السمأوات والارض، وقد امر الناس ان لا يطغوا عليه ويطيعوه بالقسط والعدل، ولايبخسوا من حقه، أويتوانوا في امتثال أوامره (3).
وهكذا قوله تعالى: ﴿قل ارايتم ان اصبح ماؤكم غورا فمن ياتيكم بما معين﴾ (4) كانت دلالة الاية في ظاهر تعبيرها واضحة، ان نعمة الوجود ووسائل العيش والتدأوم في الحياة، كلها مرهو نة بارادته تعالى وفق تدبيره الشامل لكافة انحا الوجود.
واللّه تعالى هو الذي مهد هذه البسيطة لامكان الحياة عليها، ولولا فضل اللّه ورحمته لعباده لضاقت عليهم الارض بما رحبت.
هذا هو ظاهر الاية الكريمة، حسب دلالة الوضع والمتفاهم العام.
وللامام أبي جعفر الباقر (ع) بيان يمس جانب باطن الاية ودلالة فحواها العام، قال: ﴿إذا فقدتم امامكم فلم تروه فمإذا تصنعون﴾.
وقال الإمام على الرضا (ع): ﴿ماؤكم: ابوابكم الائمة، والائمة: ابواب اللّه فمن ياتيكم بما معين، اي ياتيكم بعلم الإمام﴾(5).
لا شك ان استعارة ﴿الماء المعين﴾ للعلم النافع، ولا سيما المستند إلى وحي السما - من نبي أو وصي نبي - امرمعروف ومتناسب لا غبار عليه.
فكما ان الما اصل الحياة المادية والمنشا الأول لامكان المعيشة على الارض، كذلك العلم النافع وعلم الشريعة بالذات، هو الاساس لامكان الحياة المعنوية التي هي سعادة الوجود والبقا مع الخلود.
﴿يا ايها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ (6).
﴿لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلوعليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (7).
فهنا قد لوحظ الما - وهو اصل الحياة - في مفهو مه العام المنتزع منه الشامل للعلم، فيعم الحياة المادية والمعنوية.
وايضا قوله تعالى: ﴿فلينظر الا نسان إلى طعامه﴾ (8)، اي فليمعن النظر في طعامه، كيف عملت الطبيعة في تهيئته وتمهيد امكان الحصول عليه، ولم ياته عفوا، ومن غير سابقة مقدمات وتمهيدات لوامعن النظر فيها، لعرف مقدار فضله تعالى عليه، ولطفه ورحمته، وبذلك يكون تنأول الطعام له سائغا، ومستدعيا للقيام بالشكرالواجب.
هذا، وقد روى ثقة الاسلام الكليني باسناده إلى زيد الشحام، قال: سالت الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)قلت: ما طعامه؟ قال: ﴿علمه الذي ياخذه عمن ياخذه﴾ (9).
والمناسبة هنا - ايضا - ظاهرة، لان العلم غذا الروح، ولا بد من الاحتياط في الاخذ من منابعه الاصيلة، ولاسيما علم الشريعة واحكام الدين الحنيف.
وثانيا: مراعاة النظم والدقة في الغا الخصوصيات المكتنفة بالكلام، ليخلص صفوه ويجلولبابه في مفهو مه العام، الأمر الذي يكفله قانون ﴿السبر والتقسيم﴾ من قوانين علم الميزان ﴿علم المنطق﴾ والمعبر عنه في علم الاصول: بتنقيح المناط، الذي يستعمله الفقها للوقوف على الملاك القطعي لحكم شرعي، ليدور التكليف أوالوضع معه نفيا واثباتا، ولتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد، لا بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل وهذا امر معروف في الفقه، وله شرائط معروفة.
ومثال تطبيقه على معنى قرآني، قوله تعالى - حكاية عن موسى (ع): ﴿قال رب بما انعمت على فلن اكون ظهيرا للمجرمين﴾ (10).
هذه قولة نبي اللّه موسى (ع) قالها تعهدا منه للّه تعالى، تجاه ما انعم عليه من البسطة في العلم والجسم: ﴿ولمابلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين﴾ (11) قضى على عدوله بوكزة وكزه بها، فحسب انه قد فرط منه ما لا ينبغي له، فاستغفر ربه فغفر له فقال ذلك تعهدا منه للّه، ان لايستخدم قواه وقدره الذاتية، والتي منحه اللّه بها، في سبيل الفساد في الارض، ولا يجعل ما آتاه اللّه من امكانات معنوية ومادية في خدمة اهل الاجرام.
هذا ما يخص الاية في ظاهر تعبيرها بالذات.
وهل هذا امر يخص موسى (ع) لكونه نبيا ومن الصالحين، ام هو حكم عقلي بات يشمل عامة اصحاب القدرات، من علما وادبا وحكما وارباب صنائع وفنون، وكل من آتاه اللّه العلم والحكمة وفصل الخطاب؟ لا ينبغي في شريعة العقل ان يجعل ذلك ذريعة سهلة في متنأول اهل العبث والاستكبار في الارض، بل يجعلها وسيلة ناجحة في سبيل اسعاد العباد واحيا البلاد ﴿هو انشاكم من الا رض واستعمركم فيها﴾ (12).
وهذا الفحوى العام للاية الكريمة انما يعرف وفق قانون ﴿السبر والتقسيم﴾ والغاالخصوصيات المكتنفة بالموضوع، فيتنقح ملاك الحكم العام.
وفي القرآن كثير من هذا القبيل، انما الشان في امعان النظر والتدبر في الذكر الحكيم، وبذلك يبدووجه استفادة فرض الاخماس من آية الغنيمة، ودفع الضرائب من آية الانفاق في سبيل اللّه.
1- الرحمن / 9.
2- التبيان، ج9، ص 463.
3- نقلا بالمعنى، راجع: تأويل الايات الظاهرة للسيد شرف الدين الاسترابادي، ج2،ص 632 633.
4- الملك / 30.
5- تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج2، ص 727، وراجع: تأويل الايات الظاهرة، ج2،ص 708.
6- الانفال / 24.
7- آل عمران / 164.
8- عبس / 24.
9- تفسير البرهان، ج4، ص 429.
10- القصص / 17.
11- القصص / 14.
12- هو د/ 61.