الحاجة إلى التفسير
ما وجه الحاجة إلى تفسير القرآن، وقد انزله اللّه نورا وهدى وبصائر للناس وتبيانا لكل شي، (1) كما انه جا ليكون بنفسه احسن تفسيرا (2)، فهل هناك حاجة إلى تفسير؟.
نعم انزل اللّه الكتاب ليكون بذاته بيانا للناس عامة وتفصيلا لكل شي، (3) غير ان بواعث الابهام امر عارض، ولعله كان من طبيعة البيان القرآني، جا تشريعا للاصول والمباني، واجمل في البيان ايكالا إلى تبيين النبى (ع) ليبين للناس تفاصيل ما نزل اليهم (4).
قال الإمام الصادق (ع):﴿ان رسول اللّه (ع) نزلت عليه الصلاة ولم يسم لهم ثلاثا ولا اربعا، حتى كان رسول اللّه (ع) هو الذي فسر لهم ذلك﴾ (5).
هذا جانب من الاجمال ﴿الابهام﴾ الحاصل في وجه لفيف من آيات الاحكام، ولعله طبيعي في مثل البيان القرآني، كما نبهنا.
وجانب آخر اهم: احتوا القرآن على معان دقيقة ومفاهيم رقيقة، تنبؤك عن كمون الخليقة واسرار الوجود، هي تعاليم وحكم راقية جا بها القرآن، وكانت فوق مستوى البشرية آنذاك، ليقوم النبى (ع) بتبيينها وشرح تفاصيلها، وكذا صحابته العلما ﴿هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوعليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (6).
وذلك في مثل صفاته تعالى - الجلال والجمال -، ومعرفة وجود الانسان، وسر خلقته، ومقدار تصرفه في الحياة، والهدف من الخلق والايجاد، ومسائل المبدأ والمعاد.
كل ذلك جا في القرآن في اشارات عابرة، وفي الفاظ وتعابير كنائية، واستعارة ومجاز، فكان حلها والكشف عن معانيها بحاجة إلى فقه ودراسة وتدبر، وامعان نظر وتفكير.
وايضا فان في القرآن الماعات إلى حوادث غابرة وامم خالية، جا ذكرها لاجل العظة والاعتبار، إلى جنب عادات جاهلية كانت معاصرة، عارضها وشدد النكير عليها، في مثل مسالة النسي، وانها زيادة في الكفر، (7) ونهيه عن دخول البيوت من ظهو رها (8) ونحوذلك، فاستنكرها عليهم وعنفهم عليها حتى ابادها، وقطع من جذورها فلم يبق منها سوى اشارات عابرة، لولا الوقوف عليها، لما امكن فهم معاني تلكم الايات.
كما تعرض لامور اتى عليها من وجه كليها واهمل جانب تعيينها، فجات مجملة هي بحاجة إلى شرح وبيان، في مثل الدابة التي تخرج من الارض فتكلم الناس، (9) والبرهان الذي عصم يوسف من ارتكاب الاثم (10).
هذا مضافا إلى غرائب اللغة التي جات في القرآن على افصحها وابلغها، وان كان صعبا فهمها على عامة الناس، لولا الشرح والبيان.
قال الراغب: فالتفسير اما ان يستعمل في غريب الالفاظ، نحو﴿البحيرة﴾ و﴿السائبة﴾ و﴿الوصيلة﴾ أوفي وجيزكلام يبين ويشرح، كقوله: ﴿واقيموا الصلاة وآتوا الزكوة﴾ (11) أوفي كلام مضم ن بقصة لا يمكن تصوره الا بمعرفتها، نحوقوله تعالى: ﴿انما النسي زيادة في الكفر﴾ (12) وقوله: ﴿وليس البر بان تاتوا البيوت من ظهو رها﴾ (13).
قال الإمام بدر الدين الزركشي: التفسير علم يعرف به فهم كتاب اللّه، وبيان معانيه، واستخراج احكامه وحكمه، وان اللّه انما خاطب خلقه بما يفهمونه، ولذلك ارسل كل رسول بلسان قومه، وانزل كتابه على لغتهم.
والقرآن انما انزل بلسان عربى مبين في زمن افصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره واحكامه، وانما احتيج إلى التفسير، لما فيه من دقائق باطنة لا تظهر الا بعد البحث والنظر، مع سؤال النبى (ع) عنها في الاكثر، كسؤالهم لمانزل: ﴿ولم يلبسوا ايمانهم بظلم﴾ (14)، فقالوا: اينا لم يظلم نفسه (15)، وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير (16)، فقال: ﴿ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب﴾ (17)، وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الذي وضعه تحت راسه، (18) وغير ذلك مما سالوه عن آحاد منه (19).
قال: ولم ينقل الينا عنهم تفسير القرآن وتأويله بجملته، فنحن نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون اليه وزيادة، لقصورنا عن مدارك احكام اللغة بغير تعلم، فنحن اشد الناس احتياجا إلى التفسير.
قال: ومعلوم ان تفسير القرآن يكون بعضه من قبيل بسط الالفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض، لبلاغته ولطف معانيه، ولهذا لايستغنى عن قانون عام يعول في تفسيره عليه، ويرجع في تفسيره اليه، من معرفة مفردات الفاظه ومركباتها، وسياقه، وظاهره وباطنه، وغير ذلك ممالا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم.
بين اقداحهم حديث قصير هو سحر، وما سواه كلام.
وفي هذا تتفأوت الاذهان، وتتسابق في النظر اليه مسابقة الرهان فمن سابق بفهمه، وراشق كبد الرمية بسهمه، وآخر رمى فاشوى (20) وخبط في النظر خبط عشوا، كما قيل: واين الرقيق من الركيك، واين الزلال من الزعاق (21).
1- قال تعالى: ﴿يا ايها الناس قد جاكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا﴾ النساء/174. ﴿هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين﴾آل عمران / 138. ﴿هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون﴾ الجاثية / 20. ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي﴾النحل / 89.
2- ﴿ولا ياتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن تفسيرا﴾ الفرقان / 33، اي احسن بيانأوتوضيحا.
3- ﴿وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا﴾ الانعام / 114،﴿وتفصيل الكتاب لاريب فيه﴾ يونس / 37.
4- ﴿وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون﴾ النحل / 44.
5- الكافي الشريف، ج1، ص 286.
6- الجمعة / 2.
7- التوبة / 37.
8- البقرة / 189.
9- النمل / 82.
10- يوسف / 24.
11- المائدة / 103 قال الراغب: البحيرة هي الناقة إذا ولدت عشرة ابطن، شقوا اذنها وتركوها،فلا تركب ولايحمل عليها والسائبة، إذا ولدت خمسة ابطن، تسيبت في المرعى، فلا تردعن حوض ولا كلا والوصيلة، إذا ولدت الشاة توامين ذكرا وانثى، فلا يذبح الذكر، ويقال:وصلت اخاها، فيتركونه لاجلها والحام: الفحل إذا ضرب عشرة ابطن، كان يقال: حمي ظهره فلا يركب.
12- التوبة / 37.
13- التوبة / 37 راجع: مقدمته للتفسير ص 47 48.
14- الانعام / 82.
15- لقمان / 13.
16- في قوله تعالى: ﴿فاما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا﴾الانشقاق / 7 8.
17- تفسير الطبري، ج30، ص 74.
18- تفسير الطبري، ج2، ص 100.
19- سوف نذكر نماذج من تفاسير ماثورة عن النبى (ع) عند الكلام عن التفسير في عهدالرسالة.
20- يقال: اشوى الرجل، إذا اصاب شواه، ولم يصب مقتله والشوى: قحف الراس وجلدته واشوى السهم: اخطا الغرض.
21- البرهان في علوم القرآن، ج1، ص 13 15 والزعاق: الما المر، لايطاق شربه.