المحكم والمتشابه في القرآن

بداية:

لا ريب في اشتمال القرآن الكريم على المحكم والمتشابه، ولا مانع من ذلك بعد أن صرح القرآن نفسه بوجود هذين القسمين فيه، حيث قال تعالى ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولو الألباب﴾ (1).

وهذه الآية الصريحة في وجود كلا القسمين في القرآن تصير قرينة على المراد في آيات أخرى، يظهر منها أن القرآن كله محكم، وآيات يظهر منها أنه كله متشابه، كقوله تعالى ﴿الر كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ (2).

وقوله ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني...الخ﴾ (3).

وذلك بأن يقال: إن المراد من قوله تعالى " احكمت آياته " هو أن آيات القرآن كلها متقنة، لا خلل فيها، لا لفظا ولا معنى.

فيكون المراد بالإحكام هو الإتقان، كما يقال: أحكم الأمر، أي أتقنه (4).

والمراد من قوله تعالى " كتابا متشابها " هو أن الآيات القرآنية كلها يشبه بعضها بعضا في الإحكام وحسن النظم، ففي كتب اللغة: أن التشابه مأخوذ من الشبه، أي المثل، يقال: تشابه الرجلان واشتبها، أي أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا (5).

وهكذا يتضح أن المراد من الآية الأولى غير المراد من الآيتين الأخيرتين.

الأقوال في معنى المتشابه والمحكم: وقد اختلف في معنى المتشابه على أقوال كثيرة، نقلها الباحثون في كتبهم:

1 - قال الشيخ الطبرسي: وفيه أقوال على ما قيل: أحدها: أن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن به، والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه.

ثانيها: أن المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ، عن ابن عباس.

ثالثها: أن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا.

عن محمد بن جعفر بن الزبير وأبي علي الجبائي.

رابعها: أن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكرر ألفاظه، كقصة موسى وغير ذلك، عن ابن زيد.

خامسها: أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله، كقيام الساعة، عن جابر بن عبد الله (6).

2 - ونقل السيوطي أقوالا اخر، مضافا إلى ما ذكره الشيخ الطبرسي، فقال: وقيل: إن المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه، كأعداد الصلاة، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، قاله الماوردي.

وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.

وعن مقاتل بن حيان قال: المتشابهات فيما بلغنا: ألم، والمص، والمر، والر.

وعن عكرمة وقتادة: أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به (7).

3 - وأضاف الشيخ الزرقاني إلى هذه الأقوال في جملة ما أضاف، قولا نسبه إلى الرازي، واختاره هو، إذ قال: إن رأي الرازي أهداها (أي الآراء) سبيلا، وأوضحها بيانا.

وخلاصة هذا الرأي هو: أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر، أما المتشابه فما كانت دلالته غير راجحة وهو المجمل والمؤول والمشكل، ويعزى هذا الرأي إلى الإمام الرازي، واختاره كثير من المحققين (8).

4 - أما العلامة الطباطبائي فقد أنهى الأقوال إلى ستة عشر قولا ثم حقق فيها، وأورد عليها ما رآه من الإشكال، إلى أن قال: هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه، وتمييز مواردها، وقد عرفت ما فيها، وعرفت أن الذي يظهر من الآية - على ظهورها وسطوع نورها - خلاف ذلك كله، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية - مع حفظ كونها آية - دالة على معنى مريب، لا من جهة اللفظ، بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان، كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد، ونحو ذلك، بل من جهة يكون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيها، تبين حال المتشابه (9).

تحديد موضوع البحث: وكيف كان، فالذي ينبغي أن يبحث عنه هنا هو النقاط التالية:

1 - تحديد المراد من المحكمات والمتشابهات في قوله تعالى ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات...الخ﴾.

2 - الجواب على سؤال: هل العلم بتأويل المتشابهات مخصوص بالله تعالى شأنه أم لا ؟ وهل العلماء الذين سماهم الله تعالى في كتابه ب? " الراسخين في العلم " يعلمون المتشابه أم لا ؟ 3 - في سبب إيراد المتشابهات في القرآن الكريم وحكمة ذلك.

فأقول: أما الكلام في النقطة الأولى فنوجزه على النحو التالي: معنى المحكم والمتشابه: بعد أن عرفنا أن المراد من المحكم والمتشابه في آية آل عمران غير المراد منهما في غيرها نقول: الذي يبدو لنا هو أن المراد بالمحكمات الآيات التي تدل على معانيها على وجه واحد، بلا مانع يمنع من إرادة مثل المعاني، من دون فرق بين النص وغيره مما كانت دلالته راجحة.

ويعبر عن هذا المعنى بالظهور، الذي يجب العمل على طبقه، ويؤاخذ العبد على تركه في عرف الناس وسيرتهم، ولا فرق فيه أيضا بين الإنشاء والإحكام، وبين القصص والأخبار.

والمراد بالمتشابهات الآيات التي على خلاف المحكمات، وهي إما لا تدل على معنى ظاهر أصلا كفواتح السور - على القول بأنها لا تدل على شئ ظاهر بل هي رموز بين الله وبين نبيه (صلى الله عليه وآله) -، وإما تدل على معنى لكنه غير مراد قطعا - بحكم العقل مثلا - كقوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (10) الدال على كونه تعالى جسما، تعالى الله عما يصفون، والعقل السليم يأباه ويراه محالا.

أو مثل قوله تعالى ﴿إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة﴾ (11) الدال بظاهره على معنى غير مراد شرعا، لأن إبراهيم جد نبينا (صلى الله عليه وآله) وقد صح عند أصحابنا أن جميع آباء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آدم (عليه السلام) كانوا موحدين، وعلى ذلك إجماع الطائفة (12)، فلا يصح أن يكون آزر أبا لإبراهيم بالمعنى المعروف للأب، بل لابد من أن يقال: إنه جد إبراهيم لامه أو عمه، كما ذكره السيوطي وغيره من أهل السنة (13).

أو تدل على معان متعددة، من دون مرجح لأحدها، ولا قرينة معينة لأي منها، وهذا النوع لا يعمل به إلا من كان في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة، أعاذنا الله تعالى من ذلك.

أدلة هذا التفسير ومؤيداته: ومما يدل على هذا التفسير أو يؤيده أمور: الأول: ما في تفسير النعماني عن علي - حينما سألته شيعته عن التشابه - قال (عليه السلام): وأما المتشابه من القرآن فهو الذي انحرف منه، متفق اللفظ مختلف المعنى، مثل قوله عز وجل ﴿يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ (14) فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع، وهذا ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم، ونسبه إلى الكفار في موضع آخر، ونسبه إلى الأصنام في آية أخرى.

فمعنى الضلالة على وجوه، فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم، ومنه ضلال النسيان، فالضلال المحمود هو المنسوب إلى الله تعالى، وقد بيناه.

والمذموم هو قوله تعالى ﴿وأضلهم السامري﴾ (15)...الحديث (16).

فترى أنه (عليه السلام) قد عد الألفاظ التي لها معان متعددة من المتشابهات.

الثاني: ما في تفسير العياشي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم والمتشابه فقال: المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله (17).

فأطلق الإمام عنوان المتشابه على كل ما اشتبه على جاهله، من أي طريق حصل التشابه.

الثالث: شهادة أهل اللغة بأن المتشابه هو ما التبس أمره (18).

هذا بالإضافة إلى أن ما ذكرناه في تفسير المحكم والمتشابه هو المتبادر إلى الفهم العرفي، فإنهم يرون أن المتشابه هو ما كان معناه مشكوكا والمراد منه ملتبسا.

الراسخون في العلم يعلمون بالتأويل: والذي ينبغي أن يقال هنا هو: أن الراسخين في العلم يعلمون بالتأويل، لكن لا لأن آية آل عمران تدل على ذلك بنفسها، بل لدلالة الروايات والأخبار على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأوصياءه (عليهم السلام) كانوا يعلمون بالتأويل، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين - كما في الحديث - وستأتي هذه الروايات عن قريب إن شاء الله تعالى.

وأما وجه عدم دلالة الآية على ذلك فلأنه كما يحتمل عطف قوله تعالى فيها " والراسخون في العلم " على لفظ الجلالة لتدل على أن الراسخين في العلم أيضا يعلمون بالتأويل كذلك يحتمل أن تكون الواو استئنافية، وتصير جملة " والراسخون " مع قوله " يقولون..." جملة مستأنفة لا ربط لها بما قبلها.

وتكون النتيجة أن العلم بالتأويل ينحصر بالله تعالى.

قال في الإتقان: اختلف هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا يعلمه إلا الله ؟ على قولين، منشأهما الاختلاف في قوله " والراسخون في العلم " هل هو معطوف و " يقولون " حال، أو مبتدأ خبره " يقولون " والواو للاستئناف ؟ (19).

وقال الشيخ الطبرسي: واختلف في نظمه وحكمه على قولين، أحدهما: أن " الراسخون " معطوف على " الله " بالواو، على معنى: أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله، وإلا الراسخون في العلم، فإنهم يعلمونه، و " يقولون " على هذا في موضع النصب على الحال، وتقديره: " قائلين آمنا بالله كل من عند ربنا " كقول ابن المفرغ الحميري: الريح تبكي شجوه * والبرق يلمع في غمامه أي والبرق يبكي أيضا لامعا في غمامه (20).

فالآية إذا لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل بل الدال على ذلك هو الروايات الآتية.

التأويل هو التفسير: ثم لا يخفى أن المراد من التأويل في الآية الشريفة هو بيان المراد الجدي من الآيات المتشابهة، وحيث إن ألفاظها لا تدل بظاهرها عليه سمي ما أريد منها تأويلا، لأنه من الأول، أي الرجوع، وكان ذلك المعنى هو ما رجع إليه بعد مقدمات، وأن المتشابه هو يؤول إليه بعد خفائه، وبعد كونه مجهولا، كما في بعض المعاجم (21).

أدلة الطرفين على ما يذهبان إليه: واستدل على أن العلم بالتأويل يختص بالله تعالى دون غيره بأدلة كثيرة ذكرها في الإتقان، وكان أحسنها بنظر السيوطي هو: ما أخرجه عبد الرزاق في

تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: " وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به ".

ثم قال السيوطي: فهذا يدل على أن الواو للاستئناف، لأن هذه الرواية إن لم تثبت بها القراءة فأقل درجتها أن تكون جبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه (22).

وفيه (أولا) أنه معارض بما رواه مجاهد عن ابن عباس في قوله: " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم " قال: إنا ممن يعلمون تأويله (23).

فيستفاد من هذا أنه لا يقف عند قوله " إلا الله " بل هو يعطف قوله " والراسخون في العلم " عليه، حتى يفيد أن الراسخين في العلم عالمون بالتأويل أيضا، ليصح قوله: إنا ممن يعلمون تأويله.

(وثانيا) إننا لو سلمنا جواز قراءة القرآن بالقراءات المختلفة لكننا لا نسلم جواز الاستدلال بها، واعتبارها كلها من القرآن، بل القرآن واحد نزل من واحد، ولكن الاختلاف يجئ من قبل الرواة، كما في الحديث (24)، وقد قدمنا البحث عن هذا في مقال سابق (25).

وأيد ذلك أيضا بأن الآية إنما دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا علم ذلك إلى الله وسلموا إليه.

ويرد هذا التأييد بأن الذم في الآية إنما يوجه إلى من اتبع المتشابهات قبل أن يعرف منها شيئا، وأما إذا عرفها وأرجعها إلى المحكمات أو فسرها بما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة بعده (عليهم السلام) ثم عمل بها فالآية لا تذمه ولا تتعرض له بشئ أصلا.

وأما ما استدل به أو يمكن الاستدلال به على أن الراسخين في العلم أيضا يعلمون بالتأويل - عدا عما روي عن ابن عباس، وعدا عن دلالة الآية نفسها لمعارضة الرواية والمناقشة في دلالة الآية بما تقدم - هو الأحاديث الكثيرة، نذكر على سبيل المثال:

1 - ما في تفسير النعماني عن علي (عليه السلام): وكانت الشيعة إذا فرغوا من أعمالهم سألوه عن كل قسم فيخبرهم، فكان من ذلك سؤالهم عن المحكم والمتشابه، فأجابهم (عليه السلام) فقال - في جملة ما قال -: لما أردت قتل الخوارج بعد أن أرسلت إليهم ابن عباس لإقامة الحجة عليهم قلت: يا معشر الخوارج، أنشدكم الله، ألستم تعلمون أن في القرآن ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وخاصا وعاما ؟ قالوا: اللهم نعم، فقلت: اللهم اشهد عليهم، ثم قلت: أنشدكم الله، هل تعلمون ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه ؟ قالوا: اللهم لا، قلت: أنشدكم الله، هل تعلمون أني أعلم ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وعامه وخاصه ؟ قالوا: اللهم نعم...الحديث (26).

وقد كان ذلك منه (عليه السلام) بعد أن مثل لهم للمتشابه بقوله " وذلك مثل قوله عز وجل ﴿يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء﴾ (27) فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع، وهذا ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم، ونسبه إلى الكفار في موضع آخر، ونسبه إلى الأصنام في آية أخرى.

فمعنى الضلالة على وجوه، فمنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما ليس بمحمود ولا مذموم، ومنه ضلال النسيان " ثم بين (عليه السلام) مواردها تفصيلا.

فيفهم من هذا الحديث أنه (عليه السلام) كان يعرف تأويل المتشابهات ومعانيها، وقد فسر لأصحابه أحد أفراد المتشابه وهو " الضلال " في القرآن.

2 - ما رواه الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله (28).

3 - ما رواه أيضا عن بريد بن معاوية عن أحدهما (الباقر أو الصادق (عليهما السلام)) في قول الله عز وجل ﴿وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ (29) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم، قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلم تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم الله بقوله ﴿يقولون آمنا به كل من عند ربنا﴾ (30) والقرآن خاص وعام، ومحكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه (31).

ولكننا نجد في قبال هذه الأخبار أخبارا أخرى تعارضها، وتدل على أن الراسخين في العلم لا يعلمون بالتأويل، مما يعين أن الواو في قوله تعالى: " والراسخون في العلم " للاستئناف، ومن تلك الأخبار:

1 - ما قاله علي أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة ب? " خطبة الأشباح " على ما قيل: واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا...الخ (32).

وواضح أن كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم...الخ "، وأن الراسخين لا يعلمون التأويل، ويعترفون بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما.

ولكن لما كان في مقابل ذلك أخبار كثيرة تدل على علمهم بذلك فلابد من تأويله، أو حمله على غير ذلك مما لا ينافي هذه الأخبار الكثيرة، كما عن الشيخ المجلسي (33).

وتكون النتيجة هي: أنه لا إجماع بين المسلمين على معرفة الراسخين في العلم بالتأويل ولا على عدمه، كما عن الشيخ محمد عبده، إذ قال بعد نقل أن الواو للاستئناف: هذا رأي كثير من الصحابة رضي الله عنهم كأبي بن كعب وعائشة، وذهب ابن عباس وجمهور من الصحابة إلى القول الثاني (34).

وحينئذ، فيحتاج تعيين أحد القولين إلى دليل تعبدي آخر، غير نفس الآية، وقد ذكرنا أن الأخبار القوية المتعددة دالة على أن الراسخين يعلمون بالتأويل، فالعمل بها متعين.

الحكمة في وجود المتشابه في القرآن: وأما عن حكمة أو حكم وجود المتشابه في القرآن فما قيل أو ينبغي القول به أمور نتعرف عليها في ضمن بيان الأغراض الباعثة إلى إجمال الكلمات وتشابهها في الكتب والمصنفات مطلقا، حتى بالنسبة إلى تأليف الإنسان.

ونجمل الكلام فيها على النحو التالي: الأول: أن المصنف ربما يحاول إيراد بعض المجملات والمتشابهات في كلامه لأنه يعرف أن بعض الناس يعرفون ما يرمي إليه منها، إما لقوة فهمهم وذكائهم، وإما لتعليم المؤلف نفسه لهم، وإخبارهم بمراداته من مجملات ومتشابهات كتابه.

وبعض آخر يجهل ما يرمي إليه، فيضطرون إلى السؤال ممن يعرف، ومن الاختلاف إليه والتعامل معه، فيكتسبون بسبب ذلك مكارم الأخلاق والفضائل والمعارف، بحيث لا يحصل لهم شئ من ذلك لو لم يختلفوا إليهم بالإضافة إلى استيضاحهم عن معارف ذلك الكتاب، سيما إذا كان ذلك الكتاب هو كتاب الله، وأولئك العارفون هم النبي والأئمة الأوصياء (عليهم السلام).

ويدل على ذلك ما روي عن علي والأئمة من ولده (عليهم السلام) في هذا الشأن، وذلك مثل:

1 - ما قاله الإمام علي (عليه السلام) في خطبة له: ألا إن مثل آل محمد كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون (35).

فلابد للناس إذا من أن يستضيئوا بنورهم ويهتدوا بهديهم، وقد أكد ذلك (عليه السلام) في خطبة له، فقال: بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء (36).

2 - ما رواه الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله (37).

فيجب على كل من جهل التأويل أن يرجع إلى العالم به.

الثاني: أن المصنفين ربما يوردون في كتبهم كلاما مجملا ومطالب متشابهة، ليقف القارئ عندها ويتأمل في معناها وما أريد منها، ويجتهد في كشف مستورها، بحيث يكون رأيا لنفسه منها، ويبتعد عن التقليد الأعمى للآخرين.

ونجد أن كثيرا من الكتب التي تطبع في هذه الأيام يثور حولها الجدل والنقاش، ويضطر كثيرون إلى البحث والتدقيق، والذي يؤدي إلى ظهور الحق وانكشاف الصواب.

فمن الممكن أن يكون من جملة الأهداف من إيراد المتشابه في القرآن هو حض الناس على البحث والتدقيق والتفكر والتأمل الذي يؤدي إلى ظهور الحق، والأخذ به عن حجة ودليل، لا عن تقليد أعمى واتباع ساذج.

ولعل ما عن السيد محمد باقر الحكيم من أن نوعا من المتشابه وهو الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم إنما ورد في القرآن الكريم بهذا الأسلوب كبعض المسائل الكونية وغيرها، لينطلق في تدبر حقيقتها واكتشاف ظلماتها المجهولة (38) ناظر إلى ما قلناه.

الثالث: أن بعض المصنفين ربما يهدف من إيراد المجمل والمتشابه في كتابه إلى امتحان الآخرين، ليعرف آراءهم واتجاهاتهم بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى كتابه.

فمن يرى أن المصنف حكيم لا يأتي بما هو لغو يتوقف في الحكم ويوكل علم المجمل والمتشابه إلى ذلك المصنف، وإذا كان في قلبه مرض وزيغ فيعمل بما تشابه منه من أجل الوصول إلى بعض أغراضه الفاسدة.

ولعل بعض المتشابهات القرآنية من هذا القبيل أيضا، ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه﴾.

وإلى ما ذكرناه يشير كلام الشيخ محمد عبده من أن الله أنزل المتشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء والبلداء لما كان في الإيمان شئ من معنى الخضوع لأمر الله والتسليم لرسله (39).

وبهذا أيضا قال آخرون (40).

الرابع: أنه ربما يكون بعض الكلام مفهوما للمخاطبين به في الصدر الأول حين تأليف الكتاب، من دون حاجة إلى قرائن لفظية لبيان المراد، بل يكفي نفس اللفظ في بيانها، ولكنه إذا طال الزمن ونسيت القرائن فلربما يصير مجهولا لا يفهم منه مطالعه شيئا، إلا من كان له اطلاع على الظروف والأحوال التي كانت تحيط به حين صدوره.

ويمكن أن تكون بعض المتشابهات القرآنية من هذا القبيل، وكمثال على ذلك نذكر أن قوله تعالى ﴿إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله﴾ (41).

فإن من لم يطلع على سبب نزول الآية وعلى ما كان مرسوما في الجاهلية من إحلال بعض الأشهر الحرم لم يفهم من الآية شيئا، ويراها من المتشابهات.

الخامس: أن من يصنف كتابا يحتوي على علوم كثيرة ومع ذلك يكون سهل التناول سهل الحفظ تسهل المحافظة عليه فلابد له من توخي الاختصار فيه، بأن لا يذكر إلا ما كان أصلا جامعا من دون تعرض للقرائن حالية كانت أو زمانية أو غيرها، فيكون كتابه جامعا لأصول المطالب، وإن لم يمكن فهم جزئياتها من ألفاظه، إذ لو أراد أن يذكر فيه كل ما له مدخلية في توضيح الجزئيات لكان الكتاب من الضخامة بحيث يتعذر حفظه والمحافظة عليه.

فلعل بعض المتشابهات القرآنية قد روعي فيها هذه الناحية، وذلك مثل قوله تعالى ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب﴾ (42) فإن هذه الآية بظاهرها من المتشابه، ولها ظاهر غير مراد، ولكن إذا علم سبب نزولها تصير محكمة واضحة الدلالة، من دون أي إجمال أو تشابه فيها.

وذلك لأن سبب نزول هذه الآية هو - على ما قيل - أن المسلمين كانوا يعتقدون أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة سوف يعرضهم للإشكالات الكثيرة من اليهود والنصارى، ويجعلهم في موقف حرج، فنزلت الآية لتدل على أنه: ليس البر أن تولوا وجوهكم (بصلاتكم) قبل المشرق (أيها النصارى) والمغرب (أيها اليهود).

أي أنها تريد أن تقول لهم: إن التوجه إلى المشرق والمغرب في الصلاة ليس بنفسه برا " ولكن البر من آمن بالله " (43).

فلو أريد إحكام الآية فلابد من زيادة تلك الكلمات في الآية، وتصير بذلك ضعف ما هي عليه الآن.

النتيجة: ونستنتج مما سبق أن الإشكال على قوله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات واخر متشابهات " بأن التشابه مخل بالغرض من القرآن، حيث يفترض فيه أنه الكتاب الهادي والخالد.

هذا الإشكال لا يصح، لأن تلك الوجوه الخمسة المتقدمة لذكر المتشابه إذا كانت ممكنة عقلا فهي ليس فقط تثبت أن التشابه ليس مخلا بالغرض، وإنما تزيد على ذلك بأن يصير وجود المتشابه لازما وواجبا، وعدمه هو المخل بالغرض.

هذا ما سنح لنا بيانه في هذه الفرصة، ونأمل أن نوفق لبحث مواضيع قرآنية أخرى، والله الموفق.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة على خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.


1- آل عمران: 7.

2- هود: 1.

3- الزمر: 23.

4- راجع النهاية لابن الأثير وأقرب الموارد: مادة " حكم ".

5- راجع أقرب الموارد ومجمع البحرين: مادة " شبه ".

6- تفسير مجمع البيان: ج 1 في تفسير الآية.

7- راجع الدر المنثور: ج 1 ص 370.

8- مناهل العرفان: ج 2 ص 170.

9- تفسير الميزان: ج 3 ص 41.

10- طه: 5.

11- الأنعام: 74.

12- راجع تفسير مجمع البيان: ج 2 ص 322.

13- المدارج المنيفة في الآباء الشريفة للسيوطي: ص 11.

14- النحل: 93 ، فاطر: 8.

15- طه: 85.

16- بحار الأنوار: ج 93 ص 12 عن تفسير النعماني. قال الشيخ النوري في خاتمة المستدرك ص 365: إن التفسير للشيخ الجليل الأقدم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني الكاتب - إلى أن قال: - إن الكتاب في غاية الاعتبار ، وصاحبه شيخ أصحابنا الأبرار.

17- تفسير العياشي: ج 1 ص 11 ح 1 و 7.

18- راجع أقرب الموارد ونهاية ابن الأثير ومجمع البحرين ولغة مجمع البيان: مادة " شبه ".

19- الإتقان: ج 2 ص 3.

20- تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 410.

21- راجع تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 408 ، وأقرب الموارد والنهاية لابن الأثير ومجمع البحرين: مادة " آل ".

22- الإتقان: ج 2 ص 3.

23- الإتقان: ج 2 ص 3.

24- الكافي: ج 2 ص 630 باب النوادر من كتاب فضل القرآن ح 12.

25- راجع ص 174 و 175 من هذا الكتاب.

26- بحار الأنوار: ج 93 ص 15.

27- إبراهيم: 4 ، المدثر: 31.

28- الكافي: ج 1 ص 214 باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (عليهم السلام) ح 1.

29- آل عمران: 7.

30- آل عمران: 7.

31- الكافي: ج 1 ص 214 الباب السابق ح 2.

32- نهج البلاغة (شرح الشيخ محمد عبده): خطبة 89 ج 1 ص 161.

33- راجع هامش تفسير العياشي: عند تفسير الآية المذكورة.

34- راجع تفسير المنار: ج 3 ص 166.

35- نهج البلاغة (شرح الشيخ محمد عبده): خطبة 98.

36- نهج البلاغة (ضبط صبحي الصالح): أول الخطبة الرابعة.

37- الكافي: ج 1 ص 213 باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (عليهم السلام) ح 1.

38- علوم القرآن: ص 152 و 153 في آخر بحث المحكم والمتشابه.

39- راجع تفسير المنار: ج 3 ص 170.

40- راجع متشابهات القرآن لابن شهرآشوب: ص 3 ، والإتقان: ج 2 ص 12 ، ومناهل العرفان: ج 2 ص 178.

41- التوبة: 37.

42- البقرة: 177.

43- راجع تفسير مجمع البيان: ج 1 ص 262 ، وأسباب النزول للسيوطي (هامش تفسير الجلالين): ص 62.