بلاغة أسلوب الشرط في قوله تعالى: (إلاَّ تَفِـرُوا يُعَذِّبْكـُمْ عَذَابًـأ أليـمًا......)

في هذه الجملة القرآنية شرط تهديديٌّ، يختلع القلوب من الصدوربناه على أداة الشرط (إن) الداخلة على الفعل المنفي " لاتنفروا" وفي اصطفاء "إن" المقيمة جانبي الأمر على درجة سواء إقامةٌ للمخاطبين مقام المواجهة مع أنفسهم في حالتيها، فينظرون عاقبتهم في كل حال، وأبرز لهم عاقبة الرغبة في عدم النِّفار: (إن لاتنفروا) حتى يتبين لهم ما إذا كانوا قادرين على تلقى ذلك الجزاء المرعب الذي صرح لهم به: يعذبكم عذابا أليما....

فالتصريح بما تترتب عليه المضرَّة أقوى في البعث من التصريح بما تترتب عليه المسرَّة حين تكون النفوس آنـسـةً بما هو حبيب إليها من الدّعة ولا سيما أنها قد أُغْرِيت بما هو العَلِىُّ فلم تستقم، فأنت مفتقر إلى أن تنزعها منه إلى نقيضه المرعب، لاأن تنقلها مما هي فيه إلى ما هو أعلى منه من جنسه ولو تَوَهُّمًا أنه من جنسه،فإنها لم تستجب من قبلُ إلى ذلك الإغراء، فلا يبـقى إلا التهديـد بما يرهب ويرعب.

من أخلد إلى راحة دنية لاتنزعه منها بالإغراء إلى راحة سنية بل تنزعه منها بالتهـديـد والوعيـد، ذلك وجه من وجوه الإتيان بأسلوب الشرط على هذا النهج: أدخل الأداة على الفعل المنفي (إن لاتنفروا) ولم يقل (إنْ تنفروا يدخلكم جنات...

وهو لم يذكر لهم ما ينفرون إليه؛لأن السياق قد قام بتعيينه،وهو النِّفار إلى الجهاد في سبيل الله، والنفار عن أرضهم وديارهم التى أخلدت إليها نفوسهم الأمارة بالسوء.

هكذا يؤوب بهم إلى صدر ذلك الاستفهام: "مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله...." فيستحضرون تلك المعانى في نفوسهم لعلها ترتدع فتقبل على ما تدعى إليه وتغْرى به، وتخشى ما تهدد به فترتدع.

وفي بيان عاقبة الإعراض عن النفار إلى الجهاد في سبيل الله بقوله "(يعذبكم عذابًا اليما) ملاحظة لجنس ما يعاقبون عليه: يعاقبلون على ترك النفار إلى الجهاد في سبيل الله للتمتع بمتاع الحياة الدنيا، ومن تَعَجَّـل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فكان جزاؤهم عذابا، والعذاب، كما سبق أن بينت لك إنما هو منسول من معنى المنع، فجزاؤهم على الرغبة عن النفارإلى الجهاد في سبيل لله للرغبة في متاع الحياة الدنيا هو منعهم مما تشتهي أنفسهم، فالمعذَّبُ في لسان العربية هو الممنوع مما ينفعه و يمتعه، فالجزاء كما ترى من جنس العمل.

والعذابُ الذي هو المنع مما ينفع أو يمتع ليس مقصورًا وقوعه في الآخرة، وإن كان هذا كائنًا في أعلى صور تحققه، ولكنَّه متحققة بعض صوره في الدنيا، فهو عذاب ممتـد في الحياة الدنيا والآخرة.

لو نظرت في واقع الحياة من حولك رأيت الذين لايمنعون أنفسهم عن التمتع بمالا يحلُّ لهم تكون عقباهم في دنياهم أن لايمنعوا من مما حرم عليهم فحسب بل يمنعوا أيضًا مما هو طيب لغيرهم الذين لم يقيموا أنفسهم من قبل في سياق التمتع بما لايحل التمتع به.

إن أكثر من يمنعهم أطباؤهم مما أحلَّ الله عز وجل لهم من قبل تراهم قد اجترؤوا على التمتع بما حرم الله تعالى عليهم، فعذبهم الله عز وجل أي عاقبهم بالمنع مما هو حلال طيب لغيرهم، ويبقى عقابهم في الاخرة.

وانظر في تاكيد الجزاء في قوله (عذابا أليما) وكيف أنه وصفه بأنه أليم ولم يصفه هنا بأنه شديد أو عظيم أو مهين، فإن في قوله (أليم) معنى الإيجاع الذي هو ضد التلذذ والتمتع لتكون العقوبة والجزاء بضد الجريمة والمعصية.

وهو لم يكتف بهذا الجواب:" يعذبكم عذابًا أليما" بل عطف عليه لونا آخر: " ويسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ " جاء في مواطن عدة التهديد بمثل هذا:

" إن يشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّها النَّاسُ ويَأتِ بِآخَرينَ وَكانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا " {النساء:133}

" يأيُّها الَّذينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ منْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلايَخَافُونَ لوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "{المائدة: 54}

" إن يشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ {} وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ "{إبراهيم:19-2.} و {فاطر:16-17{

{هَا أَنتُمْ هَـؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } {محمد:38}

في الاستبدال معنى عظيم من التهديد الذي لايطيقه من علم عظيم الإنعام عليه بصحبة سيد الخلائق أجمعين ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، وكأنَّ فيه من النكال فوق ما في قوله (يعذبكم عذابًا أليما) فهو من تصعيد التهديد الآخذ بالنفوس، وهو ـ أي الاستبدال ـ من بابة التعذيب أيضًا فهو منع مما تفتقر النفس إليه في أشدَّ الافتقار فإن منعهم من صحبته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو من التعديب الأليم، فبيْنَ قوله: (يعذبكم) و(يستبدل) مراعاة نظير جدُّ بديعة ولطيفة.

وصيغة " يستفعل:يستبدل" غير دالة على الطلب، بل على تحقيق وقوع الفعل على كماله، فهذا من مسالك التوكيد لوقوع الجزاء إذا وقع الشرط، وهذا مما يزيد التهديد والوعيد تحقيقا وإرهابا وإرعابا.

وفي الجملة (يستبدل قومًا غيركم) حذفٌ والتقدير: " يستبدل بكم قومًا غيركم، وكأنَّ في قوله " غيركم " إغناء عن ذكره ودلالة على أنهم غيرهم في طاعتهم ما استنفروا إليه، فهو قائم بمعانٍ عدَّةً،فهذه الغيرية غيرية في الذّات وفي النعت.

وجاء قوله " قومًا" بيانًا للمنعوت " المستبدل" ولم يقل " خلقًا" كما في سورة "إبراهيم:ي 19،وفاطر:ي:16" أويضمر ذكرالمنعوت: " المستبدل" كما في سورة النساء:ي:113" فإنَّ في اصطفاء كلمة " قوم" هنا معنى لطيفًا:

هذه الكلمة تفيد معنى من يقوم للشيء ويقوم به أي من يجتهد في الوفاء بحق ما يطلب منه، وفي هذا تعريض بهم أنهم لم يكون قوَّامين بما استنفروا إليه، فهددهم بأن يتأتى بغيرهم يقومون بما لم يقوموا بـه.

ولو أنَّ عظيـمًا من النَّـاس كان في خدمتـه من هو مثله في البشرية، فتقـاعس قليـلا، فقال له مخْدُومـه: إنْ لمْ تجتهد في الخدمة استبدلتُ بك غيرك يجتهد، كانت تلك المقالة المقيمة المقعدة لذلك الخادم، لأنَّـه ينظر فيهـا شرفـه ورفعته في الناس، فخادم العظيم عظيم الخـدم، فكيف يكون الأمر حين يقولها الخلاق العظيم لنا: يستبدل قومـًا غيركم " ؟!!!

أرهب بها وأرعب!!!

ومن بعد أنْ رتَّب اللهُ ـ تعالى ـ على ترك النِّفار إلى الجهاد في سبيل لله عز وجل أمرين جليلين: تعذيبهم عذابا أليما واستبدال غيرهم بهم هم خير منهم وأطوع لله عز وجلَّ ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، زادهم تقريرًا بأنّ إخلادهم إلى الأرض عند استنفارهم لايضره شيئًا، فقال لهم:" ولا تضروه شيئا".

فقوله " لاتضروه" معطوف على " يستبدل" ومرجع الضمير فيه يحتمل أن يكون اسم الله عز وجلَّ المضاف إليه في قوله من قبل: " سبيل الله" أي لاتضروا الله شيئٍا وقد جاء في القرآن الكريم مثله: " ومَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا "{آل عمران:144} " ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا " {هود: 57}.

والنفي هنا على سبيل التنزيل، أي تنزيل المخاطب منزلة من يحسب أنَّه بتثاقله ضارٌ دين الله عز وجلَّ، وذلك إذا ما قلنا إن النفي لايرد إلا على ما يصح إثباتُه ?فعلا أو عقلا، فلا يقال: لاتطلع الشمس ليلا مثلاً لأنَّ طلوعها ليلا غير محتمل تحققه فعلا ولاعقلا .

ويمكن أن يقال: إن الضمير راجع إلى مضاف محذوف، فيكون تقدير الكلام: ولا تضروا دين الله شيئًا.

ويحتمل مرجع الضمير أن يكون الفاعل المحذوف فيما بنى للمفعول في قوله:" مالكم إذا قيل لكم " فمن المعلوم من السياق المقامى لتنزل الآيات أن القائل لهم ذلك إنما هو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيكون المعنى ولاتضروا بترك النِّفارِ من يقول لكم: انفروا في سبيل الله عزَّ جلَّ وهو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويؤيد ذلك ما سيأتي من بعد من قوله:" إلاَّ تنصروه ".

وهنا تـاتى قضية دلالية: أيصحُّ أن يكون مرجع الضمير المفرد أمرين على سبيل الجمع ؟

في تفسير "البقاعي " ما يفيد هذا الجمع من غير تصريح فقد قال: " ولا تضروه: "أي الله ورسوله " (1)

فهذا يستفاد منه أنه ذاهب إلى الجمع في مرجع الضمير.

لعل لهذه القضية علاقة بما وقف عنده علماء العربية وأصول الفقه من جواز إرادة معنيين من المشترك، وجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما نشأ من خلاف بين أهل العلمِ في هذا.

وإذا ما قلنا هنا إن المرجعين للضمير في (لاتضروه) بينهما من العلاقة الوثيقة ما لايكون بين بعض معانى المشترك، أو بين الحقيقة والمجاز، فإنَّ هذا يغرى بقبول أن يكون المرجع للضمير في (لاتضروه) هو اسم الجلالة أو المضاف المحذوف:" دين الله" أو رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم المفهوم من قوله:" قيل لكم انفروا ".

هذه الجملة:" لاتضروه شيئًا " تحمل معنى جِدّ عظيمٍ من معانى التهديد والوعيد وتقرير أنهم موقعون بأنفسهم من الضُرُّ ما لايطاق، وكان مقتضى ظاهر الحال أن يقال:" وإنكم لتضرون أنفسكم.

"ولكنه عدل عن ذلك إلى بيان أنهم لن يضروه شيئًا تصويرًا لهم أنهم يحسبون أنهم يضرون الله عز وجل أو دينه أو رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم شيئًا على سبيل التنزيل نظرًا إلى حالهم وفعالهم وأنه ينفي ذلك وفي هذا العدول مزيد تنفيرهم من حالهم الذي بالغ في تقبيحه.

ووجه دلالته على تقرير أنهم موقـعـون بأنفسهم من الضُرِّ ما لا يُطـاقُ أنَّه لمَّا كان تثاقلهم لابد أن يكون منه إضرارٌ لأحدٍ ما، وكانوا ـ عقلا ـ لايذهبون إلى أنهم سيضرون به الله تعالى أو دينه أو رسوله صـلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم شيئًا، كان لزامًا أن يكون لهذا الإضرار محلٌ، وقد نفى أن يكون الله تعالى أو دينه أو رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم محله، فلا يبقى محلٌ له غيرهم، وفي هذا مزيد إبلاغ في تقرير إيقاع الضرر على أنفسهم، فوجـه دلالـة إثبات إضرار أنفسهـم من هذه الجملة المنفية هو اللزوم الذي يدخلها في بيان الكنايـة، وهو ما لزم من النفي المصرح به إثبات ضده، فكان فيه طيفٌ من التخصيص الحـصْـري.

وجاء قوله:"والله على كلِّ شيءٍ قدير " تقريرًا لتحقيق الجزاء المرتب على انتفاء نفارهم،وإذا ماكان الله تعالى على كلِّ شيءٍ أي شيءٍ قديرًا، فإنَّه على ما توعد به وهدد أيضًا جِدُّ قدير، فذلك مسلك من مسلك التوكيد، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وهو قادر علىذلك، ولكنه جعل صدر الجملة اسم الجلالة تربية للمهابة، وكأنَّ فيه إعلامًا بأنه متجلٍّ بكل الصفات التى يجمعها اسم الجلالة " الله" في إيقاعه ذلك المهدد به عليهم، فوضع الظاهر موضع الضمير فيه استحضار لما يدل عليه ذلك الاسم الظاهر.

وفي تقديم المتعلِّقِ:" على كلِّ شيءٍ " على المُتَعَلَّقِ به:" قدير " تناغ نغمى بين آخر الآية التى قبلها:" قليل" وآخر هذه الآية: " قدير" وزنا وجرسًا، والتنغيم رافد من روافد الإبانة عن المعانى، فلا تسْتهِـنْ به، وإن عجزت عن استشعاره، فلعلك يومًا تذوقُ فتعرفُ.

وفي هذا التقديم أيضًا تأكيد معنى الاقتدار على كلِّ شيءٍ، فإنَّك إذا ما سمعت قوله:" والله على كلِّ شيء" ثم لمَّا يصل إلى سمعك قوله: " قدير" تطلعت إلى الخبر ما يكون، فيأتيك، وأنت المتطلع إلى أن تعرفه من بعد أن ملأ سمعك وقلبك بالتهديد والوعيد الذي فاضت به الجمل السابقة، فيستقر المعنى في قلبك ويقيم فيه.

ولم يأت في القرآن الكريم تقديم " قدير" على متعلِّقه:" على كلِّ شيءٍ" ولم يأت هذا التركيب في غير الفواصل وقد جاء في القرآن الكريم خمسًا وثلاثين مرة: جاء مطلقًا في ثلاث وثلاثين مرة " على كلِّ شيءٍ قدير" ومرة واحدة:" وكان الله على ذلك قديرًا" {النساء: 133} وأخرى:"وأنَّ الله على نصرهم لقدير" {الحج:39}

والغالب على اسمه " قادر" أن يتقدَّمَ على المتعلِّقِ به، ولا أعرف الآن وجه هذا.

وفي اصطفاء اسمه:" قدير" على " قادر" دلالة على الإبانة عن إبلاغه في تحقيق الفعل وكمال إيجاده، وأن ذلك ثابت لازم له جلَّ جلاله.

وجملة:" الله على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ" قد سبقتها " الوا و" التى تحتمل أن تكون" استئْنافِيَّة".

القول بأنها " اسْـتِـئْنَـافِـيَّـة " لايُراد منه أن ما بعدها مقطوع العلاقة المعنوية بما قبله، فمثل هذه القطيعة لاتكون في البيان العالى البليغ، فكيف بها في البيان العلى المعجز، ؟

الاستئناف هنا استئناف ضرب من ضروب العلاقة بين المعانى، فهي دالة على التنوع بين علاقات الجمل، بمعنى أن " الواو" التى كانت تشير إلى الربط بين المفردات في:" يعذبكم" و" يستبدل" و" لاتضروه" ليست هي هي " الواو" التى جاءت من قبل:" الله على كل شيء قدير" هذه " واو " جاءت لتشير إلى لون أخر من ألوان الربط بين جملة سبقت وقد بنيت على أسلوب الشرط المفيض في قلب المتلقى فيضًا من الإغراء الممزوج بالترهيب، وجملة أخـرى تؤذِّنُ بحقيقة قائمة مشهودة، قد تغفل عنها بعض القلوب بسكرة الإلف: حقيقة أن الله على كلِّ شيء قدير، وهي حقيقة تحمل في بعض سياقات البيان قدرًا من التهديد والوعيد تنخلع له قلوب العارفين.

الاستئناف البياني بالواو إذن ليس انقطاعًا، بل هو تنويع مسالك التعلُّق بين الجمل، أمَّـا الاستئناف البياني القائم من العلاقـة بين سؤال مفهوم وجواب منطوق إنما هومسلك من مسالك الاعتلاق، وهو أقرب ظهورًا من الاستئناف البيانى بالواو.

وعجيب أن يكون الوصل بين الجمل بترك الواو المسمى بكمال الاتصال أقوى من الوصل بالواو المسمى بالتوسط بين الكمالين، كما هدى إليه الزمخشري في كشافه، وفي الوقت نفسـه يكون الوصل بترك الواو: كمال الاتصال أظهر من الوصل بواو الاستئناف، فإنَّ خفاءه لايخفى، فلدينا هنا ثلاثة ضروب:

وصل بواو يطلق عليه البلاغيون: التوسط بين الكمالين، وهو ظاهر الإدراك، وإن خفيت العلاقـة ووصل معنوي، هو فصل لغوي بترك الواو يسميه البلاغيون:كمال الاتصال، وهو ظاهر الإدراك أيضًا، وهو أقوى في الوصل من سابقه، ووصل معنوي بواو الاستئناف، وهو أخفـى الثلاثة إدراكـا وأمـد حبل اعتـلاقٍ.


1- نظم الدرر:8/318 للبقاعي- ط: بيروت