بلاغـة الاستفهام في قوله تعالى: (أرضيـتم بالحيـاة الدنيا من الآخـرة)

الاستفهام في " أرضيتم" إنكاريٌّ توبيخي تسفيهي، بمعنى ما كان ينبغي لكم أن يكون منكم ذلك، وفي تسليط الاستفهام الإنكار التوبيخي على فعل (رضي) دلالة على أن الذي كان منهم ليس مجرد ميل أو تطلُّعٍ إلى شيء من الحياة الدنيا، إنهم قد تجاوزوا ذلك إلى ما هو أوْغَـلُ في البُعدِ عما يُرضي ربهم سبحانه، إنهم السَّاقطون في درْكِ الرضوان بهذه الدنيا.

والرضا قائم من انشراح النفس بما ترضى به، فهو استغراق في مُخـادَنَـةِ الشيء مخادنة فتَّحت المغاليق فانشرحت النفس وأنست، وهذا ما تنـفـر النفس السَّوِيَّةُ من مجرد أن يُنْسبَ إليها، فكيف الرِّضا بالوقوع منهـا؟ بل كيف الرضا بالوقوع فيه ؟

وفي قوله (أرضيتم) من بعد (إلى الأرض) توقيع نغميٌّ يلفت القلب إلى ما بـين الأمرين، وهما عظيمان في تآخيهما، وتناغيهما: هنالك تساقط وتثاقل إلى التى لايأنس بها إلا ساقط الهِمَّة، وهنا إنكار لانشراح النفس بما هو دَنِـيءٌ وَضِيـعٌ، فهما وإن تناغيا إيقاعًا إِلاَّ أَنَّهُما أيضًا متقاربان غاية، فهذا من التجنيس الحامل في نغمه فيضًا من لطائف المعانى، والذي تركُه عقُـوقٌ بالمعنـى.

يقول " الإمام: عبد القاهر:"...لاتجد تجنيـسًا مقبـولا،ولاسجعًا حسنا حتى يكـون المعنى هـوالـذي طلبـه واستدعـاه وسـاق نحـوه،وحتى تجـده لاتـبـتـغى بـه بـدلا، ولا تـجدعـنـه حـولا" (1) .

وعُدِّيَ الفعلُ " رَضِيَ " بـ"الباء" وقد جاء ت تعديته بنفسه في القرآن الكريم كثيرًا:" فلنولينك قبلة ترضاه" {البقرة}،

"ومساكن ترضونها"{ التوبة} "

"وأن أعمل صالحا ترضاها "{الأحقاف}

وفي التعدية"بـ" الباء" دلالة على كمال تلبس الفعل بماوقع عليه،فـ"الباء" حرف " إلصاق" فإذا ما استحضر،والفعل مستغنٍ في نفسِه عنه في تعديته، فإنَّ في استحضاره إشارةً إلى كمال تحقق معناه في علاقة الفعل بماوقع عليه وأن فاعله قائم به قيامًا بليغا، وهذا غير قليل في القرآن الكريم، فإنَّ مواقع" الباء" في البيان القرآني يفتقرالمرء إلى تقصِّيها وتدبُّر كل موقع في سياقه ومقاصد ذلك السياق.

المهم أن في هذا دلالةًً على أنَّه قد كان منهم الرِّضا الكاملُ،وكأنَّهم في رضوانهم بالحياة الدنيا لايتطلعون إلى شيء من الحياة الآخرة، وهذا من المَعابات التى ينفر منها كلُّ عاقلٍ إذا ما انْتَبَه أو نُبِّه إليها وفي نعت الله عز وعلا " الحياة" بأنها "الدنيا" تنفير بليغ من الإخلاد إليها، والركون إلى متاعها الناقص الزائل، وإغراء عظيم بالفرار من قبضتها إلى رحابة الحياة الآخرة.

ومن اللطيف أنَّ الله جلَّ جلاله لم يتركنا نَخْبُر متاعَ الحياة التى نحن فيها لنعلم خبرها: أعَلِيٌّ هوأم دنِيٌّ، بل نادى عليها في مواطن كثيرة من كتابه المجيد بأنَّها الحياة الدنيا، ولم يقل الحياة الدانية أو الدَّنِيَّة بل بلغ بها الغاية "الدنيا"، وكأنه ليس من دون ذلك حياة.

وكلُّ نفسٍ سامية شريفة تنفرُ من كلِّ ماهو دانٍ ودَنِيءٍ، وإن كان فيه متعتها أوْ بقاؤها، فهي تُفَضِّلُ الموت على أن تقترف ما هو الدنيُّ الدَّنِيء، كذلك دَيْدَنُ الشُّـرفاء:أشْراف النفـوس لا أشْـراف الأنساب المزعومة، وأدعِيـاؤه اليـوم كُـثْرٌ.

وفي قوله " من الآخرة" إيماء إلى أنَّهم كأنَّهم أقاموا موازنة في نفوسهم بين حياتين: حياة عاجلة دانِيَةٍ دَنِيَّة،وحياة آجلة سَنِيَّة، فوثقت نفوسهم المتثاقلة فيما هو حاضر زائل ورغبت عما هو خالد آجل فرضيت بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة،فقوله " من الآخرة" متعلق بمحذوف تقديره " بدلا" من الآخرة.

وفي نعت الحياة الثانية بقوله " الآخرة " وكان مقتضي الظاهر أن يقابل " الدنيا" بـ"العليا" أو يقابل الآخرة بالأولى، ولكنه صرف البيان عن الحياة المقابلة للحياة الدنيا إلى نعت "الاخرة " إشارة إلى أنه وإن لم يكن لها من فضل ومزية سوى أنها الاخرة التى ليس من بعدها حياة، وإن كانت في مستوى الحياة المقابلة لها " الحياة الدنيا" فإنَّ العاقلَ لَيُقْبِلُ على ما هو خالد لاينقطع وإنْ كان قليلا، فكيف إذا ماكان هذا الآخر هو العَلِىَّ الذي ليس يُقاربه غيره؟

وكأنَّ في هذه المقابلة بين الحياتين تعليما وتربية لنا: إنَّه إذا ما قابَلْنا بين أمْرين متساويين في القدر إلا أنَّ أحدَهما منقطعٌ والآخرُ دائمٌ لاينقطع فإنَّ مَنْطِقَ الحكمة اختيارُ ما هو دائم لاينقطعُ وإنْ كان من دون الزائل المنقطع، فكيف إذا ما كان أعلى منه وأخلد؟

إِنَّ هذا لَيُصَوِّرُ لك عظيم ما أَوْقَعَ فيه الرَّاضون بالحياة الدنيا أنفسهم فيه من بلية الغبن العظيم (يـَاقَوْمِ إنماهـذه الحيـاة الُّدنْيَـا متـاع وإنََّ الآخِـرَةَ هِيَ دَار القَـرار) {غافر39}.

وفي قوله " من الآخرة" حذف للموصوف وإقامة للصفة مقامه، والتقدير: من الحياة الآخرة، في مقابل:" الحياة الدنيا "

ولا أعلم أنَّ في القرآن الكريم آية قد صرح فيها بالموصوف فيقال " الحياة الآخرة" أمَّا " الدنيا" فقد جاءت آيات بذكر الموصوف، وأخرى بحذفه.

ويبدو لى أن في قوله " أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة" وجهًا تركيبيا آخر قائما على الحذف فيكون التقدير: أرضيتم بالحياة الأولى الدنيا من الحياة الآخرة العليا، فاختار من كلٍّ ما هو أدلُّ على المراد، وحذف الآخر: اختار من نعت الأولى النعت بالدُّنُوِّ وحذف النعت بالأَوَّلِيَّة لدلالة المذكور من بعد " الاخرة "عليه، والوصف بالدنو في المنزلة هو المُهِمُّ هنا،فكان الأجدر بالذكر.

واختار من الحياة الثانية وصف " الاخرة " وحذف الوصف بأنَّها "العليا" لدلالة مقابله عليه " الدنيا" ولأن المذكور هنا "الاخرة" هو الأدل على أصْلِ الأفضلية وإِنْ تساويا في القدر، فكيف إذا ماكانت هي الآخرة وهي العليا؟.

وهذا الضرب من الحذف التقابلى هو ما يعرف عند البلاغيين بـ"الاحتباك"، وهو: أن يتقابل كلامان يحذف من كل واحد منهما ما يدل عليه المذكور في الآخر لوجه بلاغي.

وهو غير قليل في القرآن الكريم، وقد عنى به البقاعي(2) في تفسيره نظم الدرر، وأفرده بتأليف لم أعثر عليه أسماه:" الإدراك لفن الاحتباك".

وهذا ضـرب من ضروب الإيجاز جديـر بأن يقوم للوفاء ببعض حقـه بحث مستقل يستقصى مواضعه في القرآن الكريم، فإن مجاله فسيح، وصوره عديدة، وأسراره لطيفة، وقد اكثر البقاعي منه في تفسيره، غير أنه لم يكن متوقفًا عند الأسرار البلاغية لكل صورة من صوره.

بلاغـة القصر في قوله تعالى: (فما متـاع الحياة الدنيـا في الآخرة إلا قليـل)

في عطف هذه الجملة بـ "الفاء" إشارة إلى تفرعها عمَّا قبلها، وفيها معنى التسبيب، فكانَّ هذا الاستفهام الإنكاري التوبيخي منسول منه هذه الحقيقة المقررة المؤكدة قلة متاع الحياة الدنيا نظرا إلى متاع الاخرة.

وفي قوله " الحياة الدنيا" إظهار في موضع الإضمار، فإنَّ مقتضى الظاهر أن يقال في غير القرآن الكريم: فما متاعها في الآخرة إلا قليل، غير أنه أظهر ليستحضر في قلبك هذا الوصف " الدنيا" ولتكون منه على ذُكْـرٍ دائم، فإذا ما اقترن به قوله" متاع" ازدادت المفارقة بين الحياتين، فالحياة الدنيا ليست متاعًا صرفا لايشوبه بلاء بل إنَّ بلاء الدنيا لأضعاف أضعاف متاعها مقدارًا وزمانا وآثارًا.

وفي البيان هنا بقوله " متاع " مايزيد المفارقة بين الحياتين، فإنَّ المتاع ما كان إلى زوال، فهو انتفاع منقطع غيـرخـالد وغيـر كامل.

وفي قوله " في الآخرة" حذف لمتعلق " في" أي محسوبًا في نعيم الآخرة، وهو حال من " متاع"(3) .

والعلماء يذهبون إلى أنّ حرف (في) هنا دالٌ على معنى المقايسة، يقول:" ابن هشام"(4) في معانى " في":

" (الثامن) المقايسة، وهي الداخلة على مفضول سابق وفاضل لاحق نحو: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (5).

وقد نقد " الطاهر بن عاشور " ذلك قائلا: " جعلوا المقايسة من معانى (في) كما في التسهيل والمغنى واسـتـشـهدوا بهـذه الآيـة أخـذا من " الكـشاف"، ولم يتكـلم على هذا

المعنى شارحوهما، ولا شارحو الكشاف، وقد تكرر نظيره في القرآن، كقوله في سورة" الرعد ":"وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" وقوله ـ صلى الله عليه وسلم: في حديث "مسلم":" ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل مايجعل أحدكم أصبعه في الْيَمِّ، فلينظر بم يرجع " وهو في التحقيق من الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنَّه ما ظهرت قلته إلا عندما قيس بخيرات عظيمة تنسب إليها، فالتحقيق أنَّ المقايسة معنى حاصلٌ لاستعمال حرف الظرفية، وليس معنى موضوعا له حرف في " (6).

الطاهر هنا يعمد إلى تحرير وجـه دلالة " في" على المقايسة، وليس ما نعًا من إفادة "في" سياقًا معنى المقايسة، وهذا من تدقيقاته، فلينتبه طالب العلم، فلا يظن أن الشيخ لايقول بمعنى المقايسة في الآية. إنه يقول به، ولكنه لايراه من المعانى التى هي موضوع لها " في"، فهو من باب الإفادة، لامن باب الدلالـة.

و هذه الحقيقة القرآنية مازجة بين أمريـن: تسفيه شأن المفتون بمتاع دنيا ناقص زائل، وإغراء بنعيم الاخرة المقيم متربص وقد جاء البيا ن عنها في اسلوب تخصيص حصري على سبيل قصر الموصوف على صفة قصرًا تحقيقيا، فالمعنى على أن متاع الدنيا في حساب نعيم الآخرة مقصور على صفة القلة، وهي صفة عامة، فليست القلة هنا قلة عديدية بل قلة تَعُـمُّ كلَّ شأن من شئون متاع الدنيا في حساب نعيم الآخرة والقرآن الكريم لم يصرح بما يقابل متاع الدنيا من شان الآخرة، فلم يقل:فما متاع الحياة الدنيا في نعيم الحياة الاخرة إلا قليل،إشارة إلى أمرين:

الأول:أن الدنيا ليست كلها متاعًا بل بعض من أبعاضها العديدة متاع

الآخر: أن الاخرة كلها نعيم، فليس النعيم بعضها ليقابل بعض الدنيا بل الآخرة كلها قائمة مقام النعيم، فما من شيء فيها إلا هونعيـم مقيـم وفي هذا إبلاغ في توسيع شقة المقايسة بين أمرين هما في الحقيقة ليسا بمنزلة ما تقام بينهما مقايسة، فإنَّ العاقل لايقايس متاع دنيا بنعيم آخرة.

وكأنَّ البيان القرآني الكريم يتنزل هنا على ما هو قائم في نفوس أولئك، مجاراة لهم وتأليفا لقلوبهم، وكأنَّه يقول لهم وإن قايستم بينهما تنزلا، فإنَّ أعلى ما تنتهي إليه المقايسة التنزيلية أن متاع الدنيا في الآخرة قليل.

وفي جعل طريق التخصيص هنا: " النفي والاستثناء" إشارة إلى أنَّ هذا مما قد ينازع فيه بعض المخاطبين منازعـة سـلوك وحـال، لامنـازعة لسان ومقال، وبيان الحال والسلوك أقوى وآكـد من بيان اللسان.


1أسرار البلاغة، لعبد القاهر:ص 11 ت: محمود شاكر

2- إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط الشافعي المعروف بالبقاعي نسبة إلى البقاع بالشام(8.9- 885) من آثاره تفسيره الفريد: نظم الدررفي تناسب الآيات والسور، ومصاعد النظرللإشراف على مقاصد السور، والفتح القدسي في آية الكرسي الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان، وسر الروح، وعنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران وقد اعددت منذ سنوات عديدة (1393ه)بحثًا للعالمية في نظرية التناسب القرآني في تفسيره يوم أن كان مخطوطًا،وجعلت فيه فصلا عن " الاحتباك " ولعلى أوفق إلى نشر ذلك البحث قريبًا.

3البحر المحيط لأبي حيان: 5/42، والفتوحات الإلهية للجمل:2/283

4- جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري الخزرجي (7.8- 761) من آثاره: مغنى اللبيب، وقطر الندى، وشذور الذهب.....

5- مغنى اللبيب: 1/146

6- التحرير والتنوير: 1./ 198