السمـات البلاغية وفقه المعنى القرآنـي

كان إعجاز البيان القرآني الكريم عند جمهور أهل العلم بالقرآن الكريم أنت فيه نازل في رياض البيان العلىَّ وفراديس الهدى الربانية، تغترف منه غذاء قلب سليم وشفاء نفسٍ عليلة، ومن البين أن فقه السمات البلاغية للقرآن الكريم معين على حسن تثقيف القلب ترغيبًا وترهيبًا، ليقبل على التكليف إقبال عاشق، فيتلذذ بحسن إتقان القيام بما كلف به من صنوف العبادات.

وسمات بلاغة البيان القرآني الكريم ظاهرة في مجالات التركيب، والتصوير والتحبيـر،وهي مجالات،وإن تَفَاصَلَتْ في مسلك التصنيف العلمي إلا أنها المتمازجة في الواقع البياني الكريم، ففي كل تصوير تركيب، وفي كل تركيب تصوير، وفي كل تصوير تحبير، ولايكون تحبير إلا من تركيب، هي متمازجة في واقعها البيانية ممايقتضي تمازجها في تذوقها وتدبرها ومن بعد ذلك إِنْ عَـنَّ لمثلك أن يصنف الظواهر التركيبية، والتصويرية والتحبيرية، فله ذلك ضبطا لمسالك النظر وتقريبا للأفهام

بلاغة النداء في قوله تعالى: (يأيها الذيـن آمنـوا) جملة إنشائية طلبية: نداء يفيد تنبيه المنادى إلى أمر عظيم يجدر به أن يكون على وعى به وأخذ بما فيه من معانىالهدى، وقد كثر النداء في القرآن الكريم، وهو نداء من خالق إلى خلقه، وهذا وحده فيه فيض من التكريم، والتنبيه إلى أنهم في علمه قائمون، وفي رحمته غارقون، وتحت قهره نازلون، ومن أقام هذه المعانى في قلبه لايكاد يغفُل عن ذكر ربه تعالى.

والسنة البيانة للقرآن الكريم في نداء " أمة الإجابة" أنه ينادى عليهم بقوله" يأيها الذين آمنوا" تذكيرًا لهم بالعهد الذي عاهدوا الله عز وجل عليه، وهو الإيمان بما أمرهم بالإيمان به وكأنه يحثهم بهذا الوصف على أن يقبلوا على ما يأمرهم به فيأخذوه وعلى ما ينهاهم عنه فيجتنبوه.

وقد قال " ابن مسعود" إذا ما سمعت الله عز وجل يقول: يأيها الذين آمنوا" فأرِعْه سمعك فإنَّ من بعده خيرًا يأمر به أوْ شـرًا ينهى عنه.

وفي اختيار "يا" للنداء، وهي عند بعض أهل العلم لنداء البعيد للدلالة على أن المنادى فيه شيء من البعد بالمعصية والذنوب عن المنادِى جل جلاله، فعليه أن يصغى لما ينادى عليه به ليزداد بهذه الطاعة قربا.

وجاء تعريف المنادَى باسم الموصول دلالة على أنه المعروف بالصلة التى هي الإيمان وكأنَّ هذا الإيمان هو أجل ما يعرف به ذلك المنادَى، فهو شرفه الذي عليه أن يستمسك به، وأن يفخر بنعته به وأن يسعى إلى زيادته وتثبيته بالإكثار من الطاعات، والفرار من السيئات، فعليه العناية بفقه ما هو آت من بعد ذلك النداء من أمر بمعروف ونهي عن منكر.

ولم يأت في القرآن الكريم نداء " المؤمنين" إلا في آية واحدة في سورة " النور " حيث يقول الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون ".

فأنت تلاحظ هنا أمورًا مهمة:

تلاحظ أنه أخَّر النداء عن الأمر، فقال أولا:" توبوا" ثم قال " أيه المؤمنون" لأن النداء في أصله لتنبيه الغافل أو البعيد، وهؤلاء ليسوا بالغافلين ولا بالمحل البعيد، ذلك أنهم مؤمنون، أيْ صارَالإيمان نعتا لهم، فهم معرفون بالصفة لابالصلة أي أن الإيمان في قلوبهم صار ملازما لهم ملازمة النعت منعوته، فهو فيهم كالطول في الطويل والقصر في القصير لايكاد يتخلى عنه، وقد جاء البيان بكلمة " المؤمنون" في سياقات التشريف والتكريم والثناء.

" إِنَّما المؤمِنُون الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ?."{ألأنفال}

" والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنات بَعْضهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ "{التوبة}

" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َ" {المؤمنون}

" وكانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ" {الروم}

" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً" {الحجرات }

" وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ"{المنافقون }.

أما " الذين آمنوا " فإن الإيمان ما يزال فعلا من أفعالهم، فيحتمل أن يزول وأن يحول، فكانوا بحاجة إلى الإكثار من أمرهم ومن نهيهم.

وتلاحظ أن النداء في " أيُّه المؤْمِنُونَ" جاء بقوله " أيه" من غير حرف ندا " يا" وفي حذف حرف النداء دلالة على قرب المنادَى من المنادِي جلَّ جلالُه.

وقد يقوم في صدرك أنه لو كان ذلك كذلك لكان أحق من نودي بحذف حرف النداء معه هو الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهو أقرب الخلق عز وجلَّ لمن ناداه سبحانه وتعالى.

قد يقوم ذلك في صدرك، غير أنه قد غام عنك أمرٌ مهم، هو أن في البيان عنه بوصف النبوة أو الرسالة في ندائه، قرينة دالَّـة على أن ذكر حرف النداء معه" يا" ليس للتنبيه المترتب عليه القرب والبعد، بل النداء معه للتكريم والتحبب، فهو نداء حبيب لحبيب، ومن ثَـمَّ لايكون ذكر حرف النداء معه للتنبيه، ومن ثم لم يناد إلا بـ " يا" الذي هو أم حروف النداء.

وفي قوله (آمنوا) حذف للمتعلِّق بفعل الإيمان، وفيه دلالة على أنهم آمنوا بكل ما أمر الله عز وجل الإيمان به لم يتركوا منه شيئا، لأن من آمن بما أمر الله تعالى بالإيمان به وترك شيئا واحدًا لم يؤمن به فهو كافر لايدخل في زمرة الذين آمنوا.

ومن ثَـمَّ يتبين لك أن من لم يؤمن بنبي واحد من الأنبياء وآمن بسائرهم، فليس بمؤمن، فتتهاوى مزاعم قوم قد نسبوا أنفسهم إلى العلم بأن من النصارى من هو موحد لايقول بالتثليث، ويؤمن بكل الأنبياء خلا السيد المعصوم خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أنه في زعمهم نبي العرب وحدهم، وأن من كان كذلك من النصارى فهو موحد من أهل الجنة، زعم ذلك بعض الناس، وما يزال زعمه ينشر في المسلمين.

هذا قول باطل لاأساس له من الصحة، بل من آمن بأنَّ من لم يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو من أهل الرحمة، فهو نفسه خارج عن الملة، مثل الذي يزعمه ضلالة أنه داخل فيها، وخواتيم سورة البقرة مقررة ذلك تقريرًا لايدع لذي لسان أن يحركه بغير ما جاء فيها كائنًا من كان،وإن غضب بهذا أقوام وتَمَعَّرَتْ وجوه، ولكن الحق أحق أن يجهر به ويؤذن ويتبع ويرتفع.

وجاء البيان عن فعل صلة الموصول " آمنوا" بالإيمان دون الإسلام فلم يقـل:يـأيـها الذين أسلموا؛ ذلـك أن كلمة"أسلموا" لها دلالتان:

الأولى الدلالة التى هي قسيم الإيمان والتى بيَّنها حديث "جبريل " المشهور وهذه الدلالة هي مفتاح الدخول في الإسلام بمعناه الشامل ولايكفي أن يقف المرء عندها لايتعداها، ولا يصلح اًصحابها الواقفون عندها لما جاءت له تلك الأوامر، فلابد من أن يصحب الشهادتين اعتقاد وعمل.

والأخرى الدلالة الشاملة التى يكون الإيمان جزءًا منها وليس قسيما لها، وهي دلالة إسلام الوجه لله تعالى في كافة شئون الحياة، وهذا هو المعنى العام الذي جاءت به كل الرسالات الإلهية.

فأدنى درجات السلوك هي درجة الإيمان، يعلوها درجات منها التقوى، وأعلاها درجة الإحسان التى فسرها حديث " جبريل " المشهور.

إنَّ فقه النداء في القرآن الكريم يُعْنى بتبصُّر ما يعبر به عن المنادَى في سياقه والقصد المنصوب له الكلام، وهذا تراه ظاهر التصريف البليغ المعجز في نداء سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حينا يناديه: يأيها النبيُّ، وحينًا يناديه: يأيها الرسول، ولكلٍّ سياقُه ومقامُه ومقتضاه، ولم يأت البتة: يا محمد، كما جاء في نداء سائر الأنبياء على الرغم أنَّ في اسمه: " محمد" من الثناء ما فيه، فهو دالٌّ على ذاتـه ونعته: أيْ المُبالَغِ في حمْدِه لعظيم خلقه ومنزلته عند ربِّـه عزَّ وجـلَّ وهذا من عظيم إجلال الله عز وجلَّ عبده ونبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.