مفردات القرآن الكريم بين الترادف والتباين

بلغك في الفقرة التى مضت بيان الإمام " إبى سليمان الخطابي" في شان الغريب من الكلام، فإن شئت أن تقف على بيانه في شأن القول بالترادف في البيان العالى، والبيان العلىّ المعجز، فإنك تراه قائما في رسالته المعقودة لبيان " إعجاز القرآن الكريم " يقول " الإمام ":

" اعلمْ انَّ عَمُودَ هذه البلاغة... هو وضع كل نوع من الألفاظ التى تشتمل عليها فصول الكلامِ موضِعَه الأخَصَّ الأشكلَ به الَّذي إذا أُبْدِلَ مكانَه غيْره جاءَ منْهُ:إمَّا تبدُّلُ المعنى الذي يكونُ منه فسادُ الكلامِ وإمَّا ذهابُ الرونقِ الذي يكونُ معهُ سقوطُ البلاغةِ ذلك انَّ في الكلامِ الفاظًا متقاربةً في المعانى يحسَِبُ أكثَرُ الناسِ أنَّها متساويةٌ في إفادةِ بيانِ الخطابِ.....والأمرُ فيها وفي ترتيبها عند العلماءِ أهلِ اللغةِ بخلافِ ذلكِ؛لأنَّ لكلِّ لفظةٍ منها خاصيَّةٌ تتميَّزُ بها عن صاحبتها في بعضِ معانيها،وإن كانا يشْتركان في بعضها"(1)

فالخطابي ذو بصيرة بيانية واعية تدرك جوهر البيان وطبيعته وقد أعانته على أن يقف على كثير من روافد بلاغة بيان العربية وأنت تسمع من إمام آخر من أئمة العلم ببيان القرآن الكريم: الإمام " عبد القاهر الجرجاني" (2) مقالاً من مَعْدِنِ مقال " الخطابي "

في معرضِ بيانه خصال بلاغة الخطاب ومقوماته الرئيسة ومن بعد أنْ أبان أنها: حسن دلالة الكلام على المعانى، وتمام دلالته عليها، و تبرج الدلالة في صورة بهية معجبة يقول الإمام عبدالقاهر:

" ولا جهةَ لاسْتعمالِ هذه الخصالِ غيرُ أن تأتِيَ المعنى من الجهةِ التى هيَ أصحُّ لتأديتِهِ وتختارَ له اللفظَ الَّذي هو أخصُّ به،وأكشف عنه،وأتمُّ له،وأحرى بأن يكسبه نُبْلا ويظهرَ فيه مزيَّةً "(3).

فانظر قوله:" هو أخصُّ به" إنه القاطع بأن لكل معنى لفظًا يخصه لايكون غيره له ولايكون هو لغيره من المعانى، وقضى بجملة واحدة فتية في قضية ما يعرف بالترادف، فكان المُبِينَ المُوجِزَ ويقول "ابن عطيَّة الأندلسي(4) "في مقدمة تفسيره: " كتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثُمَّ أُدير لسان العربِ في أن يوجد أحسن منها لم يوجد.

ونحن تبيَّنُ لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق وجودةِ القريحةِ ومَيْزِ الكلام."اهـ (5).

فهذا كما ترى جدُّ بيِّنٍ في أنه ما من كلمة في البيان العلِيِّ المعجز يمكن أن تقوم مقامها كلمة أخرى وإن شاكهتها والتقت معها في أصل معناها، فلكل كلمة من تنغيمها ومضمونها وشكلها من السمات الخاصة التى لن تكون مجتمعة في غيرها البتة.

وإذا ماقُدِّرَ في البيان العالى من الأدب لناقد حصيف نافذ البصيرة أن يقيم كلمة في قصيدة ما لشاعر فحل مقام كلمة اختارها الشاعر، فكانت كلمة الناقد أنس بالسياق وأكرم عطاء، فإن ذلك مما قد يعترى الشاعر وإن كان الفحلَ، لكنَّ ذلك لست بالواجِدِهِ البتة في بيان الوحي قرآنا وسنة.

والكلمةُ القرْآنيةُ ذات أبعاد عدة كلُّ بُعْدٍ منها رافِـدٌ من روافِد الدلالة على معانى الهدى إلى الصراط المستقيم الذي جاء القرآن الكريم لتحقيقه:

لها بعد صوتي تنغيمي، وبعد هيئة وصيغة. وبعد أصل لغوي تكونت منه، وبعد موقع وقعت فيه بدوائره المتعددة:

دائرة الموقع في الجملة، ودائرة الموقع في الآية، ودائرة الموقع في المعقد(الفصل)، ودائرة الموقع في السورة، ودائرة الموقع في القرآن كله.

هذه خمس داوئر متداخلة كل دائرة في داخل التى من بعدها وأعمها جميعا دائرة الموقع والسياق الكلى للقرآن الكريم

هذه الأبعاد كلها ينحدر منها العطاء الدلالى للكلمة القرآنية، وعلى قدر وعي المتلقي هذه الأبعاد والجمع بينها في تلقيه يكون اقتداره على أنْ يقترب من المعنى القرآني الكريم المجيد.

فالنظر في الكلمة القرآنية لن يكون في حقيقته نظرًا في مفردة بل هو نظر في كلمة نورانية ربانية قامت في بناء جملةٍ قامت في بناء آية قامت في بناء معقد قام في بناء سورة قامت في بناء القرآن الكريم كلِّه، وكلُّ بناءٍ من هذه الأبنية المتصاعدة يأخذ من سابقه ويعود عليه بفيض من عطائه وهذا يجعل الناظر في المفردة القرآنية حالا مرتحلا، لايحل في دائرة من دوائر السياق إلا ليرتحل منها إلى أخرى يجمع منها فيضًا من العطاء.

الأمر كما ترى جدُّ جليلٍ، لايتهاون بحقه إلا غافل عن منزلته العَلِيَّة وهذا لا يكون من النصيحة لكتاب الله عزَّ وعلا التى هى ركن من أركان النصيحة العامة التى جعلها النبي ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هي الدين، إذ قال: " الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم " { مسلم:كتاب الإيمان: ح.ر 95/55 }.


1- رسالة في بيان إعجاز القرآن للخطابي: ص 29 ضمن صلاث رسائل في إعجاز القرآن- دار المعارف

2- هو الإمام: أبو بكرعبد القاهربن عبد الرحمن الجرجانى الشافعي ت:471ه من آثاره: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والرسالة الشافية، والمقتصد في النحو، والعوامل المائة في النحو.

3- دلائل الإعجاز لعبد القاهر:ص 43 ت: محمود شاكر ط المدنى

4- هو القاضي أبو محمدعبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (481-546ه) من آثاره المحررالوجيز في تفسير الكتاب العزيز

5- المحررالوجيز لابن عطية:ج1ص49- ت:المجلس العلمى بفاس- ط1395