القراءات القرآنية في الآيات

كان من فضل اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ على عباده أن لم ينزل كتابه على وجه واحد من وجوه الترتيل التي يستنبط منها معانى الهدى، بل جاء التنزيل بوجوه عدَّة، كما هدت إلي ذلك السنة المطهَّرة:

" عن عبد الرحمن بن عبد القَارِيَّ قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة "الفرقان" على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول الله فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة "الفرقان" على غير ما أقرأتنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أرسله،اقرأ،فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هكذا أنزلت،ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت؛ إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه". {الشيخان:البخاري ك:فضائل القرآن:باب أنزل القرآن على سبعة أحرف،و "مسلم" ك:المسافرين ـ باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، والنص لمسلم ح.ر:27./818}.

وفي الباب نفسه روى مسلم بسنده عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا {ح.ر:274/821}.

في الرواية الثانية بيان أن هذه القراءات تحمل فيضًا من رحمة التخفيف على هذه الأمة، وهو تخفيف غير مقصور على الأداء والتلاوة،وإن كان هذا أظهرها بل هو تخفيف في التكليف القائم من معانى الهدى المستنبطة من تلك القراءات فمن قرأ بحرف واستنبط منه معانى الهدى استنباطًا صحيحًا على وفق الأصول العلمية للاستنباط، فقد أصاب فكلها كافٍ شافٍ والحمد لله رب العالمين.

يقول " الزركشي" (1)عن معرفة توجيه القراءات وتبيين وجه ما ذهب إليه كل قارىء:"هو فن جليل وبه تعرف جلالة المعانى وجزالتها وقد اعتنى الأئمة به وأفردوا فيه كتبا......

وفائدته...أن يكون دليلا على حسب المدلول عليه او مرجحا (2) ـ من هذا يتبين لك أن الوقوف على ماجاء في هذه الآيات من قراءات هو من باب العلم النافع، والدراسة العربية تحتفى بمثل هذا،فكثرة القراءات في الآية فيه من فيوض المعانى مايعين العباد على أن يقوموا في رياض الطاعة، وأن تفتح أمامهم سبل القرب من خالقهم وليس كمثل التيسير المحكم بأصول العلم على العباد كَيْمَا لاتنفر نفس عن رحاب الطاعة.

اختاف القراء العشرة في هذه الآيات التى بين يديك في كلمة واحدة هي قوله تعالى(وكلمة الله هي العليا) قرأ العشرة خلا " يعقوب" برفع (كلمة) على (الاستئناف) وقرأ يعقوب وحده من العشرة بنصب(كل) (3)

وأهل العلم بكتاب الله على أنَّه لايجوز ردُّ قراءة متواترة،وإن بَدَا أنَّ غيرها أظهر في العربية وأشيع، فليس معيار القبول الرد، والترجيح بين القراءات إلاَّ درجة وثاقة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقول ابن الحزري(4): " كلُّ قراءةٍ وافقت العربيةَ ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصَحَّ سندها فهي القراءة الصحيحة التى لايجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة ام العشرة ام عن غيرهم من الأئمة المقبولين..."(5).

فانظر كيف أن " ابن الجزري " في الشرط الأول قال: (ولو بوجه) ومن البين أن مذاهب العرب في بيانها متسعة لايحاط بها كما قرره " الشافعي " في " الرسالة".

وانظر ما قاله في الشرط الثانى (ولو احتمالا) فاتسعت الدائرة، لكنه في الشرط الثالث(صحة السند) لم يذكر شيئا من ذلك مما يؤكد وجوب صحة السند.وانظر قوله(فهي القرءة الصحيحة) بتعريف الطرفين الدال على التخصيص الحصري، فكان مآل الأمر أن الشرط الأعلى من هذه الثلاثة إنما هو الشرط الثالث (صحة السند عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) ولهذا " قال الشيخ أبو محمد إبراهيم بن عمر الجعبري(6):

" أقول: الشرط واحد وهو صحة النقل، ويلزم الآخران، فهذا ضابط يُعَرِّف ماهو من الأحرف السبعة وغيرها، فمن أحكم معرفة حال النقلة وأمعن في العربية وأتقن الرسم انحلت له هذه الشبهة)(7)

وهذا منه دقيق، فإنه متى صحَّت نسبة النقل عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فلن يثبت عنه إلا ما هو الصحيح العالي بل العَلِيّ في لسان العربية، وما خالفه بالتضاد لاالتبيان لن يكون العالى فضلا عن العلى ومتى صح النقل فإن ما جاء من رسم المصاحف لن يخرج عما صح سنده، إيمانا بأن هذا الرسم لم يك بالتشهي، بل هو علم ذو ضوابط يعقلها أهل العلم بالرسم القرآني، وهي ضوابط تتسع لكل ما صح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

المرجع في هذا ـ إذن ـ صحة النقل وهذا من" الجعبري ثمرة فقه ماجد،فإن قوله (ويلزم الآخران) كلمة عالم فاقه، فافهم وإذا ما تحققت عند صحة النقل، فاجعل ما جاء بهذا في درجة سواء، من غير ترجيح بتفضيل وإعلاء بعضٍ على بعض، وإن كان بعض القراءات أشد ظهورًا في المعنى من الأخرى، وهذا التفاوت في الظهور إنما هو نسبي، فما يكون ظاهرًا لك قد يكون غير ذلك عند غيرك، ولهذا لا أعُـدُّ هذا ضربًا من الترجيح والتفضيل، بل مَـرَدُّهُ عندي إلى فاعله وقائله لا إلى القراءة القرآنية نفسها.

يقول " بدر الدين الزركشي": " ينبغى التنبيه على شىء وهو أنه قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد يسـقط القراءة الأخرى وهذا غير مرضى لأن كلتيهما متواترة.

وقد حكى أبو عمر الزاهد (8) فى كتاب اليواقيت عن ثعلب(9) أنه قال إذا اختلف الإعراب فى القرآن عن السبعة لم أفضل إعرابا على إعراب فى القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى وهو حسن وقال أبو جعفر النحاس (10) وقد حكى اختلافهم فى ترجيح:"فك رقبة" {البلد: 13} بالمصدرية والفعلية،فقال:والديانة تحظر الطعن على القراءة التى قرأ بها الجماعة ولا يجوز أن تكون مأخوذة إلا عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد قال أنزل القرآن على سبعة أحرف فهما قراءتان حسنتان لا يجوز أن تقدم إحداهما على الأخرى وقال فى سورة " المزمل ": السلامة عند أهل الدين أنه إذا صحت القراءتان عن الجماعة ألا يقال أحدهما أجود؛ لأنهما جميعا عن النبى صلى الله عليه وسلم فيأثم من قال ذلك وكان رؤساء الصحابة رضى الله عنهم ينكرون مثل هذا.

وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله (11): قد أكثر المصنفون فى القراءات والتفاسير من الترجيح بين قراءة:" ملك " و" مالك " حتى إن بعضهم يبالغ إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القِراءَ تـَيـْن واتصاف الرب تعالى بهما ثم قال حتى إنى أصلى بهذه فى ركعة وبهذه فى ركعة وقال صاحب التحرير(12) وقد ذكر التوجيه فى قراءة: " وَعَدْنا " و " وَاعَدْنَا " {البقرة: 51} لا وجه للترجيح بين بعض القراءات السبع وبعض فى مشهور كتب الأئمة من المفسرين والقراء والنحويين وليس ذلك راجعا إلى الطريق حتى يأتى هذا القول بل مرجعه بكثرة الاستعمال فى اللغة والقرآن أو ظهور المعنى بالنسبة إلى ذلك المقام

وحاصله أن القارىء يختار رواية هذه القراءة على رواية غيرها أو نحو ذلك وقد تجرأ بعضهم على قراءة الجمهور فى: " فنادته الملائكة " {آل عمران: 39} فقال أكره " التأنيث " لما فيه من موافقة دعوى الجاهلية فى زعمها أن الملائكة إناث وكذلك كره بعضهم قراءة من قرأ بغير تاء لأن الملائكة جمع وهذا كله ليس بجيد والقراءتان متواترتان فلا ينبغى أن ترد إحداهما البتة وفى قراءة عبد الله:" فناداه جبريل " اي في الآية نفسها ما يؤيد أن الملائكة مراد به الواحد " (13).

فالتحقيق كما ترى أن القراءات التى صح نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم سواء، فلا يغرنك ما يتصايح به بعض الناس في هذا فهو من التخليط الذي لايؤبه بمثله والنظر في القراءات القرآنية وتوجيهها واستنباط معانى الهدى منها هو من أصول الدراسة العربية المحكمة لكتاب ربنا عز وعلا، وليس من النصح له في دراساتنا الاقتصار على ما جاء في رواية حفص عن عاصم، فهذا وجه من وجوه الآداء لايليق بنا أن نعرض عن غيره من الوجوه التى صح نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

وسوف يأتيك بيان توجيه قراءة " يعقوب" لقوله تعالى (وكلمةُ الله هي العليا) بنصب (كلمة) في مبحث الوجوه الإعرابية، وفي مبحث السمات البلاغية وفقه المعنى إن شاء الله رب العالمين.


1- الزركشي: بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي {745- 794ه}من تراثه: البحر المحيط في أصول الفقهط، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ط،والإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابةط والبرهان في علوم القرآن.

2- البرهان في علوم القرآن: ج1:ص339 ت: محمد ابو الفضل- دار المعرفة بيروت

3- المبسوط في القراءات العشر، لابن مهران: ص 194- ت: سبيع حاكمي- ط دار القبلة- جدة، والنشر في القراءات العشر- لبن الجزري ج2ص279 دار الكتب العلمية- بيروت

4- الحافظ أبو الخير محمدبن محمد بن محمد بن على بن يوسف الجزري (751- 833) من آثاره: النشر في القراءات العشر، ومنجد المقرئين ونهاية الدرايات في أسماء رجال القراءات، والحصن الحصين من كلام سيد المرسلين، والجوهرة في النحو.

5- النشرفي القراءات العشر: 1/9 ? دار الكتب العلمية- بيروت (د.ت)

6- برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري(ت:732) من آثاره: كنز المعانى شرح الشاطبية في القراءات، وروضة الطرائف في رسم المصاحف، وعقود الجمان.

7- النشر: 1/ 13

8- هو أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم المعروف بغلام ثعلب (ت: 345ه

9أبو العباس أحمد بن يحيي بن يسار الشيباني (2..- 291)من آثاره: إعراب القرآن، والفصيح، وحد النحو،واختلاف النحويين.

10- أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن المرادي المعروف بالنحتس، وبالصفارأوابن الصفار (ت:338) من آثاره:العالم والمتعلم في معانى القرآن،والمقنع في النحو،وصناعة الكُتَّاب،ومعانى الشعر،واختصار تهذيب الآثار للطبري، وشرح ديوان الحماسة

11- عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابي شامة (ت:665ه) من آثاره: شرح الشاطبية، و الذيل على الروضتين

12- أبوعبد الله الجمال محمد بن سليمان البلخي الحنفي المعروف بابن النقيب (611-698ه) من آثاره تفسيره:" التحرير والتحبير لأقوال أثمة التفسير.." وهو الذي أشار إليه الزركشي، وقد نشر مقدمته محققة الصديق اد:زكريا سعيد.

13- البرهان في علوم القرآن (م.س)1/339