التحريض على الجهاد في سبيل الله تعالى

يقول الله تعالـى (يَأَيُّها الَّذِيَنَ آمَنُوا مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا متَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ {} إلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوه شَيْئًا وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قّديرٌ {} إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ معَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {} انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {}) {التوبة:38-41}

السِّـيـاق

لهذه الآيات سياقان: سياق نزول و سياق تلاوة، ومن حسن فقه بيان القرآن الكريم أن يُعنى طالب العلم بفقه السياقين معا، فإنَّ لهما أثرًا عظيمًا في تحقيق المعنى وتحريره.

= سياق النزول: ذكر " ابن جرير الطبرى:(1) " عن ابن أبي جريج عن مجاهد قوله:" يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض "الآية. قال: هذا حين أُمِرُوا بغزوة " تبوك " بعد " الفتح " " وحنين " وبعد " الطائف " أمرهم بالنفيـر في الصيف حين أخْترَفت النخيلُ، وطابت الثمار واشتهوا الظلالَ، وشقَّ عليهم المَخْرَجُ (2)

وغزة " تبوك" كانت في شهر " رجب" من السنة التاسعة " وتبوك" مكان في شمال الجزيرة، وهذه الغزوة تعرف بغزوة " العسرة"؛ لما أصاب فيها المسلمين من ضيق اليد بالنفقة.

وقد أنفق " عثمان بن عفان " رضي الله عنه في هذه الغزوة نفقة عظيمة: جهز عشرة آلاف، وأنفق عشرة آلاف دينار " أي ما يعادل اثنين وأربعين ألفا وخمس مئة جرام من ذهب، وتسع مئة بعير ومئة فرس وجاء " أبو بكرالصديق" رضي الله عنه بكل ما يملك، وجاء " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه بنصف ما يملك، وتطوع كثير من الصحابة رجالا ونساء بأموالهم، وقد بلغ عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل.

وقد خلَّف النبي ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على "المدينة النبوية" عليًّا بن أبي طالب " وقال له: أنت منى بمنزلة هارون من موسى "{ البخاري:فضائل أصحاب النبي } هى منزلة استخلاف ولاية موقوتة، وليس منزلة نبوة أومنزلة استخلاف ممدود

وقد كانت هذه الغزوة اختبارًا عظيما لكثير من المسلمين، فقد كانت في زمن الصيف الشديد حرُّه، وهي آخر عزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.وقد كان من شأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن يورِّي حين يريد الغزو إلا في غزوة تبوك فإنه صرح للمسلمين بمقصده حتى يتموا استعدادهم.

يقول " كعب بن مالك " رضي الله عنه، فيما رواه البخاري بسنده:

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوكٍ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍشديدٍ،واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا،واستقبل غزو عدوٍ كثيرٍ، فجلّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة عدوهم،وأخبرهم بوجهه الذي يريد"{البخاري:الجهاد- من أرادغزوة فورى بغيرها)

وفي هذا السبب بيان لعظيم ما كان من بعض الذين أخلدت نفوسهم إلى شيء من نعيم الدنيا، فكان منهم ما لا ينبغي أن يكون: تثاقلٌ عن الفرار إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين والإخلادَ إلى الحياة الدنيا ومتاعها الزائل.

وقد كان من النبي الهادي ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عظيم التحذير من السقوط في حمأة التشاغل بنعيم الدنيا عن الآخرة: روى " مسلم "بسنده عن عمرو بن عوف " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "... أَظُنكم سمعْتُم أنَّ " أبَا عُبَيْدَةَ " قدمَ بشَيْءٍ من " البَحْرَيْنِ" ؟ فقالوا: أجلْ يارسولَ اللهِ قال:" فأبشِرُوا وأمِّلُوا مايسرُّكُمْ، فواللهِ ماالفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى عليكم أنْ تُبسطَ الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلَكُم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " الزهد: ح.ر: 6/2961

وهذا يبين لنا خطر ما نحن فيه، فقد أفعم حب متاع الحياة الدنيا قلوبنا وقيد حركتنا إلى الجنة، ففررنا من جنة العزة بالإسلام في الدنيا إلى هاوية الاستسلام، فنزع الله عز وعلا مهابتنا من قلوب أعدائنا،وملأ قلوبنا حبًا للحياة في رَغْدة الخَبال والفَرَقَ من الموت في سبيل الله عز وعلا.

ونزل قوله تعالى:(انفروا خفافا وثقالا) في الذين اعتذروا بالضيعة والشغل وانتشار الأمر، فأبى الله تعالى أن يعذرهم دون أن ينفروا على ما كان منهم عن " انس " قال: قرأ " ابو طلحة ": انفروا خفافا وثقالا، فقال: ما أسمع الله عذرَ واحدٍ، فخرج مجاهدًا إلى الشام حتى مات.

سيـاق الترتيـل:

جاءت هذه الآيات في سياق سورة " التوبة" وهي سورة معقودة للحث على البراءة مما لا يُرضي الله عز وجل، وممن يدعو إلى مخالفته واتباع الهوى وهذه السورة جاءت عقب سورة الأنفال " سورة الجهاد،النازلة في شأن غزوة " بدر الكبرى "{البخاري:التفسير} وكان من السُّنة قراءة هذه السورة قبل التحام المقاتلين، فإن فيها من التحفيز والتثبيت ما فيها.

وسورة " التوبة" قد بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم " أبابكر"رضي الله عنه في الحج،وأمَرَ"عليا بن أبي طالب " رضي الله عنه أن يتلوها علىالناس{الترمزي:ح.ر"3.9.- 3.92} فكان هذا إعلامًا بليغًا بالبراءة من الكافرين والمشركين التي ينبغي أن يستمسك بها المسلمون إلى يوم الدين.

وهي سورة قد كثر فيها الحث على مجاهدة المخالفين لله عز وجل، لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد كان من نصح أمير المؤمنين:" عمربن الخطاب " رضي الله عنه:" تعلموا سورة التوبة، وعلموا نساءكم سورة النور"

افتتح الله عز وعلا سياق القول في السورة بإعلان البراءة من عهد المشركين، والحثِّ على قتالهم حيث وُجدوا، وبيان أنه لايكون للمشركين عهد عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهم الذين لايرقبون في المسلمين إلاَّ (قرابة) ولا ذمة وعهدًا، فهل لنا نحن المسلمين في زماننا هذا أن نستمع إلى قول ربناجلَّ جلالُه وأن نصدقه وأن نطمئن إليه ؟ فلا نفتن ونغتر بدعاوى الضالين المضلين أننا في عصر حوار الحضارات مع الإسلام لاعصر صراعها معه.

وحثَّ اللهُ عزَّ وعلا وحرَّض على قتال أولئك الناكثين أيمانهم الهامّين بإخراج الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم البادئين بالعدوان، وحذر من خشيتهم ووعد بتعذيبهم بأيدي المسلمين إن أطاع المسلمون أمر ربهم تعالى، وبيَّن أنَّ المشركين لن يكونوا يوما يعمرون مساجد الله تعالى فذلك من شأن المؤمنين وحدهم، وبين أن الجهاد في سبيل الله عز وجل أجل من تعمير المسجد الحرام وأعلنت السورة عظيم النهي عن الولاء لمن حارب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وإن كانوا الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، فكيف حالنا وقد والينا من مزقوا أعراضنا وداسوا مقدستنا، ثم لايكون منا إلا الإعلان بأنا أمة السلام!!!!

ويؤكد الله عز وجل لنا أنه هو الناصر للإسلام في مواطن كثيرة، وذلك حين يكون المسلمون أهلا لذلك النصر بطاعتهم لله رب العالمين، فيقصُّ الله عز وعلا علينا ما كان في غزوة " حنين" علَّنَا نتخذ العبرة الهادية ويحثنا على أن نقاتل الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حتى يخضعوا ويذلوا لسلطان الإسلام، ويقصُّ علينا ما يكون منهم من إفساد في الأرض ليُغْرِينا بقتالهم ومنع فسادهم في هذه الأرض التى استخلفنا فيها لنعمرها في هذا السياق المنصوب للحث على البراءة من كل ما لايرضي ربنا جلَّ جلالة، وعلى مقاتلة كل من يدعو إلى تلك المفاسد في الأرض جاءت هاتان الآيتان، وفيهما من معانى الهدى ما فيهما وإنِّى أرى أن كلَّ مسلم وقافٍ عندهما لايكاد تقر نفسه بنوم، مادام على غير التحفز إلى ما تدعو إليه الآيتان الكريمتان، وما تُهَدِّدُ به من ليس قائما لما يُغْرَى به، ويحرَّضُ عَلَيْهِ.

آيات السورة كما ترى متناسل تاليها من أولها، فهى تجمع وحدة المقصد والمغزى إلى وحدة البيان إلى وحدة الموضوع، فتحققت فيها هذه الوحدات على نحو لايكاد يغيم فضلا عن أن يغيب.


1أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري (224-31.) من آثاره: تفسيره: جامع البيان، وأخبار الرسل والملوك، والقراءات.

2- جامع البيان للطبري: ج6 / 417- ط: دار الغد العربي- القاهرة