الجاثية والأحقاف

سورة الجاثية

مكية آياتها سبع وثلاثون (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ان في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) وهي النجوم والشمس والقمر وفي الأرض ما يخرج منها من أنواع النبات للناس والدواب (لآيات لقوم يعقلون) قوله: (وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) أي تجئ من كل جانب وربما كانت حارة وربما كانت باردة ومنها ما يسير السحاب ومنها ما يبسط الرزق في الأرض ومنها ما يلقح الشجرة وقوله: (ويل لكل أفاك أثيم) اي كذاب (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا) أي يصر على أنه كذب ويستكبر على نفسه (كأن لم يسمعها) وقوله: (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) يعنى إذا رأى فوضع العلم مكان الرؤية وقوله: (هذا هدى) يعني القرآن هو تبيان قوله: (والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز اليم) قال: الشدة والسوء ثم قال: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك) أي السفن فيه ثم قال: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) يعني ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والمطر وقوله: " وانزل من السماء ماء " هو المطر الذي يأتينا في وقته وحينه الذي ينفع به في الزروع وغيرها وقوله: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قال يقول الأئمة الحق لا تدعوا على أئمة الجور حتى يكون الله الذي يعاقبهم في قوله: (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون).

حدثنا أبو القاسم قال: حدثنا محمد بن عباس قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: حدثنا عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال: حدثنا عمر بن رشيد عن داود بن كثير عن أبي عبد الله & في قوله الله عز وجل (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قال قل للذين مننا عليهم بمعرفتنا ان يغفروا للذين لا يعلمون فإذا عرفوهم فقد غفروا لهم، حدثنا سعيد بن محمد قال: حدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا عبد الغني بن سعيد قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريح عن عطا عن ابن عباس في قوله: (من عمل صالحا فلنفسه) يريد المؤمنين (ومن أساء فعليها) يريد المنافقين والمشركين (ثم إلى ربكم ترجعون) يريد إليه تصيرون.

وقال علي بن إبراهيم في قوله (ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها - إلى قوله - لن يغنوا عنك من الله شيئا) فهذا تأديب لرسول الله صلى الله عليه وآله والمعنى لامته وقوله (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: نزلت في قريش كلما هووا شيئا عبدوه (وأضله الله على علم) أي عذبه على علم منه فيما ارتكبوا من من أمير المؤمنين عليه السلام وجرى ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لما فعلوه بأهوائهم وآرائهم وأزالوهم واما لوا الخلافة والإمامة عن أمير المؤمنين بعد اخذ الميثاق عليهم مرتين لأمير المؤمنين وقوله (اتخذ إلهه هواه) نزلت في قريش وجرت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السلام واتخذوا إماما بأهوائهم والدليل على ذلك قوله: " ومن يقل منهم اني إله من دونه " قال من زعم أنه إمام وليس بامام فمن اتخذ إماما ففضله على علي عليه السلام.

ثم عطف على الدهرية الذين قالوا لا نحيا بعد الموت فقال (وقالوا ما هي إلا حيوتنا الدنيا نموت ونحيا) وهذا مقدم ومؤخر لان الدهرية لم يقروا بالبعث ولا النشور بعد الموت وإنما قالوا نحيا ونموت (وما يهلكنا إلا الدهر - إلى قوله - يظنون) فهذا ظن شك ونزلت هذه الآية في الدهرية وجرت في الذين فعلوا ما فعلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بأمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام وإنما كان إيمانهم إقرارا بلا تصديق خوفا من السيف ورغبة في المال، ثم حكى عز وجل قول الدهرية فقال (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين) أي انكم تبعثون بعد الموت فقال الله (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقوله (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) الذين أبطلوا دين الله وقوله (وترى كل أمة جاثية) أي على ركبها (كل أمة تدعى إلى كتابها) قال إلى ما يجب عليهم من أعمالهم ثم قال: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) الآيتان محكمتان.

حدثنا محمد بن همام قال: حدثنا جعفر بن محمد الفزاري عن الحسن بن علي اللؤلؤي عن الحسن بن أيوب عن سليمان بن صالح عن رجل عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، قال له ان الكتاب لم ينطق ولن ينطق ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الناطق بالكتاب قال الله هذا بكتابنا ينطق عليكم بالحق، فقلت: إنا لا نقرأها هكذا فقال هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد ولكنه فيما حرف من كتاب الله، وقال علي بن إبراهيم في قوله (وقيل اليوم ننساكم) أي نترككم فهذا نسيان الترك (كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا) وهم الأئمة أي كذبتموهم واستهزأتم بهم (فاليوم لا يخرجون منها) يعني من النار (ولا هم يستعتبون) أي لا يجاوبون ولا يقبلهم الله (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء) يعني القدرة (في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم).

الجزء (26)

سورة الأحقاف

مكية آياتها خمس وثلاثون (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - إلى قوله - والذين كفروا عما أنذروا معرضون) يعني قريشا عما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو معطوف على قوله " فان أعرضوا فقل أنذرتكم - إلى قوله - عاد وثمود " ثم احتج الله عليهم فقال: قل لهم - يا محمد - (أرأيتم ما تدعون من دون الله) يعنى الأصنام التي كانوا يعبدونها (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ايتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) ثم قال: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة - إلى قوله - بعبادتهم كافرين) قال: من عبد الشمس والقمر والكواكب والبهائم والشجر والحجر إذا حشر الناس كانت هذه الأشياء لهم أعداءا وكانوا بعبادتهم كافرين ثم قال: (أم يقولون - يا محمد - افتراه) يعني القرآن أي وضعه من عنده فقل لهم: (ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) ان أثابني أو عاقبني على ذلك هو (أعلم بما تفيضون فيه) أي تكذبون (كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم) ثم قال: (قل - لهم يا محمد - ما كنت بدعا من الرسل) أي لم أكن واحدا من الرسل فقد كان قبلي أنبياء كثير وقوله (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به - إلى قوله - على مثله) قال قل إن كان القرآن من عند الله (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) قال: الشاهد (1) أمير المؤمنين & والدليل عليه في سورة هود أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه يعنى أمير المؤمنين & وقوله: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال استقاموا على ولاية أمير المؤمنين & وقوله (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) قال: الاحسان رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله (بوالديه) إنما عنى الحسن والحسين عليهما السلام ثم عطف على الحسين & فقال: (حملته أمه كرها ووضعته كرها) وذلك أن الله اخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وبشره بالحسين & قبل حمله وان الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة ثم اخبره بما يصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده ثم عوضه بان جعل الإمامة في عقبه وأعلمه انه يقتل ثم يرده إلى الدنيا وينصره حتى يقتل أعداءه ويملكه الأرض وهو قوله " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض " الآية، قوله: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون " فبشر الله نبيه صلى الله عليه وآله ان أهل بيتك يملكون الأرض ويرجعون إلى الدنيا ويقتلون أعداءهم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام بخبر الحسين وقتله فحملته كرها، ثم قال أبو عبد الله &: فهل رأيتم أحدا يبشر بولد ذكر فتحمله كرها أي انها اغتمت وكرهت لما أخبرها بقتله، ووضعته كرها لما علمت من ذلك وكان بين الحسن والحسين عليهما السلام طهر واحد وكان الحسين عليه السلام في بطن أمه ستة اشهر وفصاله أربعة وعشرون شهرا وهو قول الله: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا.

وقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني ان اخرج - إلى قوله - ما هذا إلا أساطير الأولين) قال نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، حدثني العباس ابن محمد قال حدثني الحسن بن سهل باسناد رفعه إلى جابر بن يزيد عن جابر بن عبد الله قال: ثم اتبع الله جل ذكره مدح الحسين بن علي عليهما السلام بذم عبد الرحمن بن أبي بكر قال جابر بن يزيد نقلت هذا الحديث لأبي جعفر & فقال أبو جعفر & يا جابر والله لو سبقت الدعوة من الحسين " وأصلح لي ذريتي " لكان ذريته كلهم أئمة ولكن سبقت الدعوة أصلح لي في ذريتي فمنهم الأئمة & واحد فواحد فثبت الله بهم حجته قال علي بن إبراهيم في قوله (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) قال أكلتم وشربتم ولبستم وركبتم وهي في بني فلان (فاليون تجزون عذاب الهون) قال العطش (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) وقوله (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف) والأحقاف بلاد عاد من الشقوق إلى الاجفر وهي أربعة منازل.

قال: حدثني أبي قال أمر المعتصم ان يحفر بالبطائية (البطانية ط×بئر فحفروا ثلاثمائة قامة فلم يظهر الماء فتركه ولم يحفره فلما ولى المتوكل أمر أن يحفر ذلك البئر أبدا حتى يبلغ الماء، فحفروا حتى وضعوا في كل مائة قامة بكرة حتى انتهوا إلى صخرة فضربوها بالمعول فانكسرت فخرج منها ريح باردة فمات من كان بقربها.

فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم بذلك ما ذاك، فقالوا: سل ابن الرضا عن ذلك وهو أبو الحسن علي بن محمد عليهما السلام فكتب إليه يسأل عن ذلك؟

فقال أبو الحسن عليه السلام تلك بلاد الأحقاف وهم قوم عاد الذين أهلكهم الله بالريح الصرصر.

ثم حكى الله قوم عاد (قالوا أجئتنا لتأفكنا) أي تزيلنا بكذبك عما كان يعبد آباؤنا (فاتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من الصادقين) وكان نبيهم هود وكانت بلادهم كثيرة الخير خصبة.

فحبس الله عنهم المطر سبع سنين حتى اجدبوا وذهب خيرهم من بلادهم، وكان هود يقول لهم ما حكى الله في سورة هود (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه - إلى قوله - ولا تتولوا مجرمين) فلم يؤمنوا وعتوا فأوحى الله إلى هود انه يأتيهم العذاب في وقت كذا وكذا وريح فيها عذاب اليم، فلما كان ذلك الوقت نظروا إلى سحاب قد أقبلت ففرحوا فقالوا: (هذا عارض ممطرنا) الساعة يمطر فقال لهم هود (بل هو ما استعجلتم به) في قوله إئتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ريح فيها عذاب اليم تدمر كل شئ بأمر ربها) فلفظه عام ومعناه خاص لأنها تركت أشياء كثيرة لم تدمرها وإنما دمرت مالهم كله فكان كما قال الله (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) وكل هذه الأخبار من هلاك الأمم تخويف وتحذير لامة محمد صلى الله عليه وآله وقوله: (ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) أي قد أعطيناهم فكفروا فنزل بهم العذاب فاحذروا ان ينزل بكم ما نزل بهم ثم خاطب الله قريشا فقال (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات) أي بينا وهي بلاد عاد وقوم صالح وقوم لوط ثم قال احتجاجا عليهم (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم) أي بطلوا (وذلك إفكهم) أي كذبهم (وما كانوا يفترون).

وقوله: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون - إلى قوله - أولئك في ضلال مبين) فهذا كله حكاية عن الجن وكان سبب نزول هذه الآية ان رسول الله صلى الله عليه وآله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه يزيد بن حارثة يدعو الناس إلى الاسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة فلما بلغ موضعا يقال له وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله استمعوا له فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض (انصتوا) يعني اسكتوا (فلما قضي) أي فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من القراءة (ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به - إلى قوله - أولئك في ضلال مبين) فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله شرائع الاسلام، فأنزل الله على نبيه " قل أوحي إلي انه استمع نفر من الجن " السورة كلها فحكى الله قولهم وولى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله منهم كانوا يعودون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في كل وقت فامر رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام ان يعلمهم ويفقههم فمنهم مؤمنون ومنهم كافرون وناصبون ويهود ونصارى ومجوس وهم ولد الجان، وسئل العالم عليه السلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنة؟

فقال لا ولكن لله حظائر بين الجنة والنار يكون فيها مؤمنو الجن وفساق الشيعة.

ثم احتج الله على الدهرية فقال: (أولم يروا ان الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى أنه على كل شئ قدير) ثم أدب الله نبيه صلى الله عليه وآله بالصبر فقال (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) وهو نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم السلام ومحمد صلى الله عليه وآله، ومعنى اولي العزم انهم سبقوا الأنبياء إلى الاقرار بالله والاقرار بكل نبي كان قبلهم وبعدهم وعزموا على الصبر مع التكذيب والأذى (2) ثم قال (ولا تستعجل لهم) يعني العذاب (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) قال يرون يوم القيامة انهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار (بلاغ) أي ابلغهم ذلك (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).


1- وقد مضى أيضا تفسير أولى العزم في هذا الكتاب فراجع ص 65 ج. ز.

2- يمكن أن تكون الإشارة منه إلى ما هو متعارف في هذا الزمان من بيع وشراء الحصص من الشركات التجارية فيشتري الرجل من تلك الحصص لنفسه ولعياله كذا تشارك المرأة زوجها في التجارة، أو يكون المراد منه جلوس المرأة المتزينة لبيع السلعة في المغازات مع الرجال جنبا لجنب كما هو رائج في البلاد الاسلامية " المتمدنة ". ج. ز.