فصلت

سورة حم السجدة

مكية آياتها اربع وخمسون (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم) فقوله تنزيل من الرحمن الرحيم ابتداء وقوله: (فصلت آياته) خبره، أنزله الرحمن الرحيم وقوله (فصلت آياته) أي بين حلالها وحرامها وأحكامها وسننها (بشيرا ونذيرا) أي يبشر المؤمنين وينذر الظالمين (فاعرض أكثرهم) يعنى عن القرآن (فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة) أي في غشاوة (مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) أي تدعونا إلى مالا نفهمه ولا نعقله، فقال الله: قل لهم (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي - إلى قوله - فاستقيموا إليه) أي أجيبوه وقوله (وويل للمشركين) وهم الذين أقروا بالاسلام وأشركوا بالاعمال وهو قوله " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يعى بالاعمال إذا أمروا بأمر عملوا خلاف ما قال الله فسماهم الله مشركين ثم قال (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) يعنى من لم يدفع الزكاة فهو كافر.

أخبرنا أحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي جميل (جميلة ط×عن أبان بن تغلب قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبان أترى ان الله عز وجل طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون " قلت له: كيف ذلك جعلت فداك فسره لي؟

فقال ويل للمشركين الذين أشركوا بالامام الأول وهم بالأئمة الآخرين كافرون، يا أبان إنما دعا الله العباد إلى الايمان به فإذا آمنوا بالله وبرسوله افترض عليهم الفرايض.

قال علي بن إبراهيم ثم ذكر الله المؤمنين فقال: (ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) أي بلا من الله عليهم بما يأجرهم به ثم خاطب نبيه فقال قل لهم يا محمد (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) ومعنى يومين أي وقتين ابتداء الخلق وانقضائه (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) أي لا يزول ويبقى (في أربعة أيام سواء للسائلين) يعنى في أربعة أوقات وهي التي يخرج الله فيها اقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض وما في البر والبحر من الخلق والثمار والنبات والشجر وما يكون فيه معاش الحيوان كله وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء، ففي الشتاء يرسل الله الرياح والأمطار والانداء (1) والطلول من السماء فيلقح الأرض والشجر وهو وقت بارد ثم يجئ من بعده الربيع وهو وقت معتدل حار وبارد فيخرج الشجر ثماره والأرض نباتها فيكون أخضر ضعيفا ثم يجئ من بعده وقت الصيف وهو حار فينضج الثمار ويصلب الحبوب التي هي أقوات العالم وجميع الحيوان ثم يجئ من بعده وقت الخريف فيطيبه ويبرده ولو كان الوقت كله شيئا واحدا لم يخرج النبات من الأرض لأنه لو كان الوقت كله ربيعا لم تنضج الثمار ولم تبلغ الحبوب ولو كان الوقت كله صيفا لاحترق كل شئ في الأرض ولم يكن للحيوان معاش ولا قوت، ولو كان الوقت كله خريفا ولم يتقدمه شئ من هذه الأوقات لم يكن شئ يتقوت به العالم، فجعل الله هذه الأقوات في هذه الأربعة الأوقات في الشتاء والربيع والصيف والخريف وقام به العالم واستوى وبقي وسمى الله هذه الأوقات أياما سواء للسائلين يعنى المحتاجين لان كل محتاج سائل وفي العالم من خلق الله من لا يسأل ولا يقدر عليه من الحيوان كثير فهم سائلون وان لم يسألوا.

وقوله: (ثم استوى إلى السماء) أي دبر وخلق وقد سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عمن كلم الله لا من الجن ولا من الانس فقال السماوات والأرض في قوله: (إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن) أي فخلقهن (سبع سماوات في يومين) يعنى في وقتين ابتداءا وانقضاءا (وأوحى في كل سماء أمرها) فهذا وحي تقدير وتدبير (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) يعني بالنجوم (وحفظا) يعني من الشيطان ان يخرق السماء وقوله: (فان اعرضوا) يا محمد (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) وهم قريش وهو معطوف على قوله فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون!

وقوله: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم) يعني نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين (ومن خلفهم) أنت فقالوا: (لو شاء ربنا لانزل ملائكة لم يبعث بشرا مثلنا (فانا بما أرسلتم به كافرون) وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) والصرصر الريح الباردة (في أيام نحسات) أي أيام مياشيم وقوله: (واما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) ولم يقل استحب الله كما زعمت المجبرة ان الافعال أحدثها الله لنا (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) يعني ما فعلوه وقوله: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون) أي يجيئون من كل ناحية وقوله: (حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) فإنها نزلت في قوم يعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا منها شيئا، فتشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم اعمالهم، فقال الصادق عليه السلام فيقولون لله: يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم " وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين & فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرم الله وتشهد اليدان بما أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله ثم انطق الله ألسنتهم (وقالوا) هم (لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون وما كنتم تسترون) اي من الله (ان يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) والجلود الفروج (ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم ارداكم فأصبحتم من الخاسرين).

قال: فإنه حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج قال قلت لأبي عبد الله & حديث يرويه الناس فيمن يؤمر به آخر الناس إلى النار فقال: أما انه ليس كما يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن آخر عبد يؤمر به إلى النار فإذا امر به التفت فيقول الجبار ردوه فيردونه فيقول له: لم التفت إلي؟

فيقول: يا رب لم يكن ظني بك هذا فيقول: وما كان ظنك بي؟

فيقول يا رب كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك قال فيقول الجبار يا ملائكتي لا وعزتي وجلالي وآلائي وعلوي وارتفاع مكاني ما ظن بي عبدي ساعة من خير قط ولو ظن بي ساعة من خير ما روعته بالنار أجيزوا له كذبه فأدخلوه الجنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله ليس من عبد يظن بالله خيرا إلا كان عند ظنه به وذلك قوله " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " قوله: (فان يصبروا فالنار مثوى لهم) يعني يخسروا ويخسؤا (وان يستعتبوا فما هم من المعتبين) أي لا يجابوا إلى ذلك قوله (وقيضنا لهم قرناء) يعنى الشياطين من الجن والإنس الاردياء (فزينوا لهم ما بين أيديهم) اي ما كانوا يفعلون (وما خلفهم) أي ما يقال لهم أنه يكون خلفكم كله باطل وكذب (وحق عليهم القول) والعذاب وقوله (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) أي تصيرونه سخرية ولغوا وقوله (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس) قال العالم عليه السلام من الجن إبليس الذي دبر على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله في دار الندوة وأضل الناس بالمعاصي وجاء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى فلان فبايعه ومن الانس فلان (نجعلهما تحت اقدامنا ليكونا من الأسفلين) ثم ذكر المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام فقال (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام قوله (تتنزل عليهم الملائكة) قال عند الموت (ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليائكم في الحياة الدنيا) قال: كنا نحرسكم من الشياطين (وفي الاحى أي عند الموت (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) يعنى في الجنة (نزلا من غفور رحيم).

قال حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال ما يموت موال لنا مبغض لأعدائنا إلا ويحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام فيسروه ويبشروه، وإن كان غير موال لنا يراهم بحيث يسوؤه، والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام لحارث الهمداني: يا حار همدان من يمت يرني * من مؤمن أو منافق قبلا ثم أدب الله نبيه صلى الله عليه وآله فقال (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن) قال ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك حتى يكون الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ثم قال (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم واما ينزغنك من الشيطان نزغ) أي ان عرض بقلبك نزغ من الشيطان (فاستعذ بالله) والمخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وآله والمعنى للناس ثم احتج على الدهرية فقال (ومن آياته انك ترى الأرض خاشعة) أي ساكنة هامدة (ان الذين يلحدون في آياتنا) يعنى ينكرون (لا يخفون علينا) ثم استفهم عز وجل على المجاز فقال (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير).

وقوله (ان الذين كفروا بالذكر) يعنى بالقرآن ثم قال (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) قال لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا لولا انزل بالعربية فقال الله (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) أي تبيان (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) اي صمم وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر & في قوله (ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) يعنى القرآن الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه) قال لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ولا من قبل الإنجيل والزبور واما من خلفه لا يأتيه من بعده كتاب يبطله وقوله (لولا فصلت آياته أعجمي وعربي) قال لو كان هذا القرآن أعجميا لقالوا كيف نتعلمه ولساننا عربي وآتيتنا بقرآن أعجمي فأحب الله ان ينزله بلسانهم وقد قال الله عز وجل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.

الجزء (25) وقال علي بن إبراهيم في قوله (ويوم يناديهم أين شركائي) يعني ما كانوا يعبدون من دون الله (قالوا آذناك) اي أعلمناك (ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل - إلى قوله - وظنوا ما لهم من محيص) أي علموا انه لا محيص لهم ولا ملجأ ولا مفر وقوله: (لا يسأم الانسان من دعاء الخير) أي لا يمل ولا يعيى ان يدعو لنفسه بالخير (وإن مسه الشر فيؤس قنوط×أي يائس من روح الله وفرجه، ثم قال: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض وناء بجانبه) أي يتبختر ويتعظم ويستحقر من هو دونه (وإذا مسه الشر) أي الفقر والمرض والشدة (فذو دعاء عريض) أي يكثر الدعاء وقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق) فمعنى في الآفاق الكسوف والزلازل وما يعرض في السماء من الآيات، واما في أنفسهم فمرة بالجوع ومرة بالعطش ومرة يشبع ومرة يروى ومرة يمرض ومرة يصح ومرة يستغنى ومرة يفتقر ومرة يرضى ومرة يغضب ومرة يخاف ومرة يأمن فهذا من عظيم دلالة الله على التوحيد قال الشاعر: وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد ثم ارهب عباده بلطيف عظمته فقال: (أولم يكف بربك - يا محمد - انه على كل شئ شهيد) ثم قال (ألا انهم في مرية) اي في شك (من لقاء ربهم ألا انه) كناية عن الله (بكل شئ محيط).


1- وفى ط ذكر موسى بعد يوسف وهو أقرب. ج. ز.